“لا ينام البحر لا في الليل ولا في النهار، وقد يهجم فجأة، وتأكل أمواجه الناس على الأرض” يقول جون غيليس في كتابه الساحل البشري. كانت علاقة أي مدينة على الساحل ببحرها هي تجسيد بالضرورة لعلاقة الحضارة بالطبيعة التي لم تكن مستقرة قط، فتصالح الإنسان مع البحر هو حديث نسبياً، بينما “التوتر” معه هو الثيم الذي كان يحكم علاقة الإنسان القديم به، ليس لطبيعة البحر، إنما لكونه تمثيلا لما وراء الطبيعة بالنسبة لشعوب سواحل المتوسط.
عَرفت شعوب المتوسط السواحل قبل الشواطئ، فالساحل مُعطى جغرافي طبيعي، بينما الشاطئ هو اختراع حديث من صُنع تاريخي – ثقافي جرى في بدايات القرن التاسع عشر. وحتى الساحل كان قديما ينتمي للبحر نفسه أكثر مما ينتمي للأرض، فكلمة ساحل مشتقة من أصلها اللاتيني costa والتي تعني جانب الشيء (side)، جانب الجسد الإنساني أو جانب أي قطعة من الأرض أو الماء. واكتسبت الكلمة معناها الحديث فقط في أواخر القرن الثامن عشر حيث أصبحت وللمرة الأولى “the coast” أو الساحل، والذي لم يعد جانباً لشيء آخر، إنما أصبح مكاناً بحد ذاته(1). إن هذا التحول من اعتبار الساحل مكاناً جانبيباً إلى مكان قائم بذاته يُعيدنا للتفكير بشكل تاريخ التوتر مع البحر، ثم السؤال: هل تجنب سكان ساحل فلسطين القدماء بحرهم؟
جنة عدن بلا بحر
كانت فلسطين جزءاً من الجغرافيا الأسطورية للشرق القديم، والتي نظرت إلى البحر نظرة قداسة وخوفٍ معا. تجسد التوتر بين الأرض والبحر عند الكنعانيين في فلسطين من خلال صراع بعل إله الأرض والزرع مع يـم أو يمـو إلهة البحر، وقد انتهى ذلك بانتصار بعل، فهزيمة يـم أمام بعل مثّلت هزيمة للبحر لصالح الأرض، فكان الكنعانيون زرّاع أكثر مما كانوا بحّارة(2).
جاءت التوراة وراكمت على هذا التوتر بين الأرض والبحر ودفعت به نحو استعداء البحر، ففي سفر التكوين يمثل الماء الفوضى بينما الأرض تمثل النظام. وأهوال فعل الطوفان في قصة النبي نوح في العهد القديم، تجعل من البحر تمثيلا للعقاب، فالطوفان الذي جعل من كل الأرض بحرا يمثل عقاب الله لخلقه. وبالتالي راصفت المسيحية على ذلك في عداءها للبحر ونظرت إليه نظرة وثنية إلى حد اعتباره مسكن الشيطان(3). وحتى في الإسلام، فإن جنة عدن الموصوفة في القرآن الكريم، فيها جبال وجداول وأنهار، لكنها بلا بحر، إن جنة عدن بلا بحر، لأن وجود البحر على الأرض هو تذكير لعِبادها بفكرة القصاص والعقاب. إن كل أشكال التوتر التي ستتشكل لاحقا لدى سكان فلسطين الساحليين مع البحر بدوافعها المادية، ستظل محمولة بهذا الإرث الأسطوري والسماوي في الموقف من البحر.
فوق “سوافي الرمل”
كان توطن ساحل فلسطين على مر العصور التي سبقت الفتح العربي، يتميّز باتخاذ التلال المرتفعة على سيف البحر، فعلى طول الشريط الساحلي من منطقة الداروم جنوبا عند غزة القديمة كانت “تل العجول” الشكل الاستيطاني الأقدم في تلك المنطقة(4). وعسقلان قبيل الفتح العربي – الإسلامي كانت تقوم على تل يسمى “تلعة”(5) والتي على أنقاضها أقيمت قرية المجدل الحديثة، وكذلك يافا منذ أن كانت قرية جوبيا قامت على رف صخري مرتفع. وإذا ما ذهبنا شمالا حتى الطنطورة التي أقيمت على أنقاض بلدة “دور” الرومانية كانت على تل سمّاه أهل الطنطورة حديثا بـ”تل الباب”(6)، وإلى الشمال مرورا بحيفا التي يعود التوطن القديم فيها على موقع يسمى “تل السمك”، وصولا إلى عكا التي قامت قديما على “تل الفخار”.
يسمي أهل الساحل تلك التلال المرتفعة على البحر بالـ”سوافي” إذا كانت رملية، والرفوف إذا كانت صخرية. كان ذلك التوطن المرتفع والمُطل على حافة البحر محكومٌ بمنطق الأمن من البحر على مستويات ثلاثة : جغرافي وصحي واجتماعي كذلك.
يعود أمن التوطن الجغرافي إلى الخوف من البحر نفسه، الذي لم يأمنه سكان ساحل فلسطين، خصوصا في الشتاء حين يكبر البحر ويعلو موجه مبتلعا حوافه. بينما ارتبط الأمن الصحي بمياه الجداول والأنهر التي كانت تجري شتاء من جبال فلسطين الداخلية لتصب غربا في البحر، جزء من هذه المياه كان يركد عند شاطئ البحر مكونةً برك راكدة يسميها أهلنا في الساحل “البصاص” جمع بصة، ما نسميه اليوم بالمستنقعات(7). كان ركودها طوال الشتاء والربيع يتسبب بالأوبئة والأمراض السارية المُعدية مثل الملاريا والحُمى، مما كان يدفع أهل الساحل التوطن فوق تلال مرتفعة منها تفاديا للعدوى والمرض.
أما عن الأمن الاجتماعي من البحر، فقد ارتبط بما كان يحمله البحر نفسه لأهل ساحله، من غُزاة أو قراصنة ولصوص، وبالتالي اعتبر التوطن التِلالي بمثابة حماية ورقابة دائمة من البحر وعليه.
سكان فلسطين بلا ساحلهم
مع الفتح العربي – الإسلامي للبلاد في القرن السابع للميلاد، كان يُطلق العرب على البحر المتوسط اسم “بحر الروم”، بحكم الهيمنة الرومانية على سواحل المشرق. ولما خلصه العرب من هيمنة البيزنطيين عليه، ظل الساحل بمثابة منطقة ثغورية (حدودية)، واعتبر البحر الحد الذي يفصل “ديار الإسلام عن ديار الكفر” بتعريف الجغرافية الإسلامية في حينه.
عَرفَ ساحل فلسطين نشاطا ثغوريا طوال العصر الأموي، وقد استخدم معاوية بن أبي سفيان مرفأ عكا ثكنة للبحرية الحربية الإسلامية وصناعة السفن(8)، غير أن انتقال ثقل الدولة الإسلامية من الشام إلى العراق مع بداية العصور العباسية، قد همش بلاد الشام وخصوصا سواحلها التي تحولت إلى مناطق تنشط فيها الإمارات الخارجة على الحكم العباسي.
في ظل الحملات الصليبية على المشرق في نهاية القرن الحادي عشر ميلادي، سيتحول كل ساحل فلسطين على المتوسط إلى شريط أمني – عسكري بامتياز. أقام الصليبيون ممالكهم على حافة البحر، من عسقلان جنوبا وحتى عكا شمالا، فغدا سكان فلسطين بلا ساحلهم في قطيعة معه امتدت إلى أكثر من 500 عام منذ بدء الحملات.
إن مشروع تحرير المشرق وسواحله من الصليبيين في زمن الأيوبيين ثم المماليك، لم يكن ذلك يعني عودة سكان فلسطين العرب والتوطن على ساحلهم، إذ اتبع الأيوبيون سياسة الأرض المحروقة، فالمدينة الساحلية التي كان يتم تخليصها من الصليبيين، كان يجري تخريبها على الفور. خرّبَ صلاح الدين الأيوبي عسقلان بعد تخليصها من أيدي الصليبيين سنة 1187م(9)، وكذلك فعل في يافا، وعلى نفس السياسة سار لاحقا السلطان المملوكي بيبرس بتدميره ليافا بعد سيطرة الصليبيين عليها مجددا، ومن بعده السلطان الخليل بن قلاوون الذي قام سنة 1291 بتدمير حيفا ثم عكا التي كانت الحصن الأهم والأكبر بالنسبة للصليبيين على ساحل فلسطين(10).
لقد استسهل السلاطين تدمير مدن الساحل المحررة، لأنه لم يكن يسكنها أي من سكان البلاد العرب والمسلمين أصلا، وبالتالي كان تدميرها بمثابة تخلص من ثكنات عسكرية صليبية. كما أن الضرورة العسكرية – الأمنية اقتضت ذلك، كي لا يُمنح الصليبيين فرصة العودة إليها واستيطانها مجددا في سياق حرب الكر والفر التي استمرت لقرنين من الزمن، فغدا الساحل خراباً ويباباً.
الرباطات والمواسم البحرية
كانت الرباطات البحرية بمثابة نقاط أو أبراج مراقبة عسكرية دائمة على البحر، وأدت دورا أمنيا منذ ما قبل الحملات الصليبية، إذ ذكرها المقدسي في رحلته أيام الفاطميين باسم “رباطات القدس”(11). تعزز تكثيف هذه الرباطات على الساحل أيا الأيوبيين في ظل حروبهم مع الصليبيين، فصار الحضور العربي على الساحل مقتصرا عليها. كان يُقام الرباط البحري على تلٍ مرتفع، ويُنار بالنار ليلا، وتدّخن بدخان النار نهارا(12).
وكثير ما أقيم الرباط البحري على أو عند مقامٍ دينيّ، في محاولة لجدل الديني بالعسكري في ظل شراسة المعارك مع الصليبيين التي أُعتبر بعضها بمثابة ملاحك بطولية. وبالتالي، لم يكن المقام عند نشأته بالضرورة قبر لرجل دين صوفي أو لولي صالح، كما سيُنظر إليه لاحقا بعد انتهاء الحروب الصليبية، إنما كانت المقامات الساحلية بغالبها قبور لمجاهدين سقطوا شهداء في الحرب، وهذا يشبه فكرة “النُصب التذكاري للجندي المجهول” بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة.
إن المواسم السنوية التي ابتكرها المماليك في ظل ديمومة الصراع الإسلامي – الصليبي، والتي كان بعضها ساحليا مثل “أربعة أيوب – موسم وادي النمل” في عسقلان، وموسم “النبي روبين” جنوب مدينة يافا، ارتبطت بشكل أو بآخر بتلك المقامات والرباطات البحرية.
كان الغرض من ابتكار هذه المواسم الشعبية التي يجري فيها حشد وتعبئة الناس في مسيرات جماعية للتبرك عند هذه المقامات هو التعبئة العامة المضادة لحشود الحجيج المسيحيين القادمين من أوروبا للبلاد عبر البحر(13). وبالتالي كانت علاقة سكان فلسطين بساحلهم ما بين القرن الثاني عشر وحتى مطلع الرابع عشر الميلاديين علاقة أمنية متوترة على الدوام بين رباط عسكري ثابت على البحر، ومواسم اجتماعية جماعية الطابع نحو البحر مرة في كل عام.
القراصنة ولصوص البحر
انتهت الحروب الصليبية في أواخر القرن الثالث عشر، غير أن القطيعة مع ساحل فلسطين، ظلت ليس فقط للحمولة الأمنية التي خلّفتها حروب الصليبيين من البحر، إنما للفوضى الساحلية التي ارتبطت بتلك الحروب، واستقلت عنها لتظل قائمة إلى ما بعدها حتى مطلع القرن السابع عشر، وكانت اللصوصية المنظمة هي من أبرز ملامح تلك الفوضى وذلك التوتر بين سكان فلسطين وساحلهم.
في رحلته “وصف الأراضي المقدسة في فلسطين” أشار الراهب الروسي دانيال إلى الخوف الذي ولّده القراصنة وقطاع الطرق في عسقلان(14)، ومن أشهر لصوص البحر الذي ذكرته المصادر عن تلك المرحلة كان “ابن الحشّاش” الذي كان يسيطر على حافة البحر الممتدة بين قيسارية وأرسوف(15).
نشطت حركة القراصنة بعد الحروب الصليبية على ساحل فلسطين بوتيرة أكبر وأكثر رهبة مما كانت عليه أيام الحرب، إذ استوطن بعضهم المدن الساحلية المخربة، مثل عسقلان ويافا وقيسارية وحتى عكا، مما دفع إلى تفريغ ما تبقى من توطن عربي قرب ساحل المتوسط إلى الداخل.
بقيت حركة القرصنة نشطة، وساحل البحر خالٍ من أهله حتى أواخر القرن السابع عشر ومطلع الثامن عشر مع قيام إمارات الحكم المحلي في ظل الدولة العثمانية، منها الزيادنة الذين أعادوا الأمن ودفعوا بعودة التوطن على ساحل فلسطين. مع ذلك، ظل لصوص البحر يُطلون برؤوسهم عند حافة البحر، إذ استنجد سكان “تل السمك” عند شاطئ حيفا سنة 1744 بظاهر العمر لتخليصهم من غارات القراصنة بعد أن حاولوا خطف امرأة من على الشاطئ (16).
الفلسطيني يبتلُ بقدمٍ واحدة
لم يعد سكان فلسطين لتوطن الساحل، إلا بعد أن بدء فرض الأمن البحري على المتوسط، في ظل العهد العثماني ونشأة إمارات الحكم المحلي خلاله في فلسطين، مثل الإمارة المعنية في الثلث الأول من القرن السابع عشر، ثم الزيادنة في مطلع القرن الثامن عشر.
كانت المقامات الساحلية هي نواة عودة التوطن الفلسطيني الحديث على ساحل المتوسط، إذ أُقيمت معظم قرى ومضارب الريف البحري عندها. حتى أن بعض القرى اقترن اسمها باسم المَقام المُقامة عنده، مثل قرية “حرم سيدنا علي” شمالي يافا، والتي نٌسبت لمقام علي بن عُليّم أحد قواد جيش صلاح الدين الذي سقط شهيدا عند موقع القرية في ظل الحرب مع الصليبيين. وكذلك قرية “الشيخ دنون” شمالي مدينة عكا، أقيمت عند مقام دنون أحد مجاهدي الجيش الأيوبي. وغيرها مثل قرى زرنوقة والمزار(17).
أما المدن الساحلية، فمنها ما ظلت خرابا مثل عتليت وقيسارية وأرسوف وعسقلان واستخدمت حجارة انقاذها لبناء القرى حولها. ومنها من كانت مرافئها القديمة سببا في إعادة بعثها، مثل عكا ويافا ثم حيفا لاحقا. لم تكن عودة التوطن على سيف البحر تعني بالضرورة التصالح معه، إذ بقي التوتر مع البحر محمول بكل ذلك الإرث الحربي – الأمني، وهذا ما يفسّر دفع الدولة العثمانية في مطلع القرن التاسع عشر بالقبائل البدوية للحط بمضاربها البدوية على حافة البحر ومراقبته(18)
لم يتقن أهل الساحل صيد السمك ولا السباحة إلا في وقت متأخر من القرن التاسع عشر، بحسب فولني الذي زار الساحل وقتئذ(19). وحتى بيوت الساحليين كانت تبنى بالغالب مُعطية ظهرها للبحر، فدخول الفلسطيني للبحر بدأ بقدمٍ واحدة، بينما ظلت الأخرى في الحقل.
الهوامش