“سلام على “البصّة” أهلاً ومعارف. وسلامٌ على من بقوا ومن سيولدون غدًا وبعده.. وتحيّة للأرض البصّيّة ومن احتوتهم في أعماقها”… هذه العبارة كان يُرددها الاستاذ المرحوم نعيم مخول ابن قرية البقيعة الجليلية كُلّما عادت به الذكريات إلى الفترة التي تعلّم فيها في الكلية الوطنية الأسقفية في البصّة.
نتعرّف في هذه المقالة على قرية “البصّة” الكائنة في أقصى الشمال الغربي لفلسطين، ونستكشف معًا آثارها وتاريخها ومجرى حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الفترة السابقة لسقوطها واحتلالها بيد العصابات الصهيونية في العام 1948.
الاسم، الأصل والمعنى
أمّا كلمة “البصّة” فهي كنعانية الأصل بمعنى “المُستنقع”، و “بصّ الماء” تعني “رشح”.
الموقع
فالبصّة، قرية فلسطينية واقعة على الحدود الفلسطينية اللبنانية في قضاء عكا (وفقًا للتقسيمات الإدارية من فترة الانتداب البريطاني).
تقع هذه القرية على ارتفاع 75 مترًا عن سطح البحر الأبيض المتوسط، ومساحة أراضيها 29.535 دونمًـا. وتحدُّها من الشمال قرية “لبّونة”، ومن الشمال الشرقي قرية “علما الشعب” اللبنانيتين. في حين تحدّها من الجنوب قرى ترشيحا ومعليا والكابري، ومن الجنوب الغربي قرية الزيب، ومن الغرب شاطىء البحر الأبيض المتوسط. وأُقيمت مستوطنتان يهوديتان على أراض مجاورة للقرية وهما “حانيتا” و”متسوبا”، على يد مؤسسات الاستيطان الصهيوني التي اشترت مساحات من الأراضي من بائعيها عائلتي زعرب والبنا.
تاريخها وآثارها
والبصّة قرية قديمة جدًّا تاريخيًا، ففيها آثارٌ تعودُ إلى العهد الكنعاني، وتنتشر في أراضيها ومحيطها خِرَبٌ كثيرة تحوي مدافن وقبور ونواويس من عهود مختلفة ومعاصر زيتون وبقايا أبنية وآبار ارتوازية وصهاريج وأعمدة كنائس وغيرها. كلُّ هذه الآثار على مدى قرون طويلة تشير بل تؤكد تواصل السكن البشري في القرية ومحيطها. وجدير ذكره أنّ عربًا من البدو سكنوا في عدد من هذه الخرب من عشائر القليطات والسمنية والمريسات والسواعد والعرامشة. ومن أبرز هذه الخِرب: إدميث، النواقير، الصوانة وغيرها.
سكانها ومصادر معيشتهم
وبلغ عدد سكان القرية في العام 1945 حوالي 2950 نسمة ليرتفع العدد في العام 1948 إلى 3422 نسمة، ثلثين من المسيحيين موزعين على طائفتين، هما: الروم الكاثوليك والروم الارثوذكس. وثلث من المسلمين السنّة والشيعة. أمّا عدد البيوت فبلغ سبعمائة بيت.
واعتمد سكان القرية في معيشتهم على الزراعة ورعاية المواشي لتوفر مساحات شاسعة من الأراضي السهلية وعند منحدرات جبل “المشقّح” المجاور وهو الجبل الفاصل بين فلسطين ولبنان. بالإضافة إلى ارتزاق بعض السكان من الأشغال الحرّة كالتجارة وتهريب البضائع من لبنان إلى فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية. وأيضًا من فرص العمل في المعسكرات البريطانية القريبة من موقع القرية. وهناك أيضًا من عمل في الحِرف اليدوية والمهن التقليدية كالنجارة العربية والحدادة والخياطة وغيرها. ومع تقدُّم سنوات الانتداب البريطاني التحق بعض من شباب القرية المتعلّم في قطاع الوظيفة الحكومية أو في شركات أجنبية ووطنية في عكا وحيفا.
الحياة العلمية والمشهد الثقافي
وعُرِفت قرية البصّة بمدرستها الثانوية ومستواها التعليمي الراقي. فتأسّست هذه المدرسة في أواخر العهد العثماني وكان اهتمامها بداية في تعليم القراءة والكتابة وأُسس الحساب، ثمّ تمّ تحويلها إلى كلية بمستوى ثانوي باسم “المدرسة الأسقفية الوطنية” للروم الكاثوليك. وسُرعان ما شهدت نمُوًّا وتطورًا سريعين لدرجة أنّ إدارتها فتحت قسمًا داخليًا فيها استقطب قرابة خمسين طالبًا من مدن فلسطين كجنين وطولكرم وقلقيلية إلى جانب طلاب من القرى والبلدات المحيطة سواء في فلسطين أو جنوب لبنان. وفي منتصف الأربعينيات تمّ اعتماد اسم جديد للمدرسة وهو “الكلية الوطنية”. وساهمت هذه المدرسة بتخريج أفواج من المتعلمين الذين كان لهم الفضل الكبير في تطوير قطاع المدارس والتعليم في المنطقة، إذ التحق عددٌ منهم في جهاز التعليم الانتدابي وما بعد الانتدابي من خلال المدارس الابتدائية والثانوية. ولعبت المدرسة المذكورة أعلاه دورًا رياديًا وبارزًا في أوساط الفلسطينيين حتى ذاع صيتها في أرجاء الوطن العربي كافة. وإلى جانب هذه المدرسة عملت في القرية مدرستان أخريان واحدة رسمية وأخرى تبشيرية خصصت للبنات.
وتمّ تأسيس ناديين في القرية هما: نادي اتحاد الشبيبة ونادي الإخاء البصّي. وقدّما نشاطات ثقافية واجتماعية ورياضية كالمسرحيات والمباريات الرياضية والحفلات الفنية والاجتماعية. وجدير ذكره في هذا السياق، أنّ جمعية العمال العربية الفلسطينية أقامت لها فرعًا في القرية انتسب إليه عدد كبير من العمال الذين حظوا باهتمام الجمعية في كلّ ما له علاقة بالدفاع عن الحقوق العمالية في وجه قوى الرأسمالية وأصحاب المصانع والشركات ومواجهة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني الاقتلاعي.
ونتيجة لتحسُّن الوضع الاقتصادي لدى كثيرين من سكان القرية في الثلاثينيات والاربعينيات فإنّ ذلك انعكس في المستويين الاجتماعي والثقافي ، حيث تكثّفت الفعاليات الثقافية كان أبرزها استقبال عميد المسرح العربي يوسف وهبي وفرقته المسرحية “رمسيس”. كما وعُرضت أفلام في الهواء الطلق في ليالي الصيف، ونُظمت مهرجانات رياضية وخطابية شبيهة بـ “سوق عكاظ”، وكانت توزع فيها الجوائز التشجيعية والدروع على الفائزين.
ولا بُدَّ لنا من الاشارة هنا إلى أنّ أحد سكان القرية افتتح فندقًا باسم “فندق الخيّاط” (على اسم عائلته). وكانت هذه الخطوة سباقة لمدن كبرى في فلسطين والشرق. حيث نزل في هذا الفندق مصطافون وتجار ورجال أعمال من فلسطين ولبنان وسوريا. وكان شاطئ البحر يعج بالصيف بالمستجمين والمستحمين والمصطافين من الشباب والصبايا والعائلات. وفي هذا المشهد دلالات حداثوية على الانفتاح الاجتماعي والظهور المشترك للمرأة إلى جانب الرجل. وتولّى مجلس محلي إدارة شؤون القرية منذ العام 1922 وفقًـا لقانون البلديات الذي فرضته حكومة الانتداب البريطاني.
القرية زمن الثورة الفلسطينية
وتعرّضت القرية خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، وتحديدًا في 6 أيلول 1938 إلى مذبحة نفذّها عناصر من الجيش والشرطة البريطانية بحق أهالي القرية، وخلفيتها أنّ لغمًا في أرض القرية قد انفجر في عربة عسكرية بريطانية ما أدّى إلى مصرع 4 جنود كانوا على متنها، فانتقم البريطانيون بقيامهم بإحراق عدد كبير من منازل القرية واعتقال 50 فردًا بتهمة تدبير هذا الانفجار، وأطلق الجنود النيران على مجموعات من الأهالي حاولت الفرار خوفًا من مواجهة القتل على يد هؤلاء الجنود. وحسب شهادة بعض الأهالي أن قائد الكتيبة البريطانية أمر جماعة من البصيين ركوب حافلة وتسييرها في أرض فيها ألغام. فانفجرت وأودت بحياة 20 شخصًا.
احتلال القرية وتطهيرها
أمّا في أحداث النكبة في عام 1948 وما له علاقة بسقوط القرية وطرد سكانها، فإنّ القرية تعرّضت إلى قصف شديد وغير منقطع من مدفعية منظمة الهاغاناه التي استخدمت المستوطنات المجاورة قواعد لها بهدف قطع طريق الإمدادات من لبنان إلى فلسطين ومقاوميها. عمليات القصف هذه ضمن عملية عسكرية أطلق عليها “بن عامي” ازدادت وتيرتها مع انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان إسرائيل، دبّت الرعب والفزع في قلوب العائلات، فمنها من ترك القرية قبل سقوطها ولجأ إلى بعض القرى اللبنانية القريبة ريثما تنفرج الأزمة، ومن العائلات والأفراد من بقوا في القرية وتجمعوا في الكنيسة الارثوذكسية وآخرين في الكنيسة الكاثوليكية طلبًا للحماية وبعيدًا عن فوهات مدافع الهاغاناه، إذ اعتقدوا أنّ الهاغاناه لن تقوم بقصف أماكن العبادة. إلاّ أنّ الهاغاناه اقتحمت القرية في اليوم الأول لإعلان قيام إسرائيل وأيضًا اقتحمت الكنيستين وأخذوا مجموعة من الشبان بينهم امرأة واحدة حسبما ادلى بشهادته أحد أبناء القرية. تمّ تجميع الشبان في ساحة الكنيسة وأعدموهم برصاص الهاغاناه. وطلب قائد الكتيبة اليهودية من عدد من أهالي القرية دفن الشهداء في مقبرة القرية حالاً. أمّا البقية فجرّاء الخوف والفزع والهلع هربوا باتجاه لبنان. في حين أنّ من بقي من مجمل سكان القرية الذين لم يتجاوز المائة نسمة، تمّ نقلهم إلى قريتي المزيعة ومعليا.
ولمّا تمّ تطهير القرية بالكامل من سكانها الاصليين قامت حكومة اسرائيل بتوطين مستوطنين من رومانيا ويوغوسلافيا في بيوت القرية لمدة سنتين تقريبًا ريثما أنجزت عمليات بناء مستوطنات أخرى لإيوائهم. عندها، بدأت حكومة إسرائيل بهدم بيوت ومنشآت القرية مبقية على الكنيستين والمسجدين وعدد محدود من المباني ومقبرتي القرية.
ماذا بقي من القرية؟
لم يبقّ من قرية البصّة التي كانت عامرة ببيوت فاخرة ومؤسسات خدمية سوى المباني التي أشرنا إليها سابقـًا. وأُقيمت على أراضي القرية منطقة صناعية، في حين تمّ ضم مساحات شاسعة من أراضيها لمستوطنات المنطقة.
تتعرّض المباني الباقية، وخصوصًا الكنيستين وأحد المساجد إلى عمليات أهمال وتآكل وانهيارات مستمرة في بعض أجزاء منها. عِلمًا أن هناك محاولات من بعض الأهالي إلى إقامة مناسبات دينية واجتماعية في الكنيستين بالرغم من المواجهات والصدامات بينهم وبين المستوطنين الذين يدعون حقهم لوحدهم في القرية وما عليها.
في القرية كنيستان: واحدة للروم الكاثوليك وأخرى للروم الارثوذكس. ومسجد جديد جرت فيه أعمال ترميم من قبل مؤسسة الأقصى للحفاظ على المقدسات في فلسطين، ومقام الخضر وهو مبارك لدى المسلمين والمسيحيين على السواء.