عام ٢٠١٩، صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتاب «الخروج إلى النور» وهو سيرة ذاتية للفنان الفلسطيني نبيل عناني، وتحرير رنا عناني. ينتقل فيه عناني من سرد تفاصيل نشأته في حلحول وبوادر موهبته الفنية التي استخدمت في رسومات ووسائل إيضاح مدرسية ثم رحلة دراسته في مصر ومن ثم عودته وعمله في فلسطين ورحلاته في قراها ومعارضها ومشاكلها. يخبر عناني عن الرفقة التي عمل معها في تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين ومركز الواسطي للفنون ولاحقاً الأكاديمية الدولية للفنون المعاصرة – فلسطين، وبعض الرحلات والمواقف والمتاعب وأيضاً الخلافات مع الفنانين. كذلك يخبر عن الإدارات والسياسات والشخصيات التي سيرت جزءاً من هذا التاريخ. يدرج في الكتاب أيضاً صورًا لبعض هذه المحطات ولأعمال فنية. يدور هذا الحوار حول أهمية اختيار وتفصيل هذه المحطات كسيرة ذاتية.
أستاذ نبيل، مبروك كتاب «الخروج إلى النور». كتاب جميل وفيه محطات مهمة ومعلومات جمة عن المشهد الفني وعن البدايات وعن المواقف الطريفة وعن الحكايات الجانبية للفنانين، تستثير الكثير من الأسئلة. ربما السؤال الأول الذي يخطر بالبال هو كيف فكرت أن تباشر بمهمة تدوين جزء من سيرتك في كتاب؟
الحقيقة أني لم أخطط مسبقا لعمل كتاب، لكني كنت دائماً مهتماً بتدوين الأحداث كي لا أنساها. لا سيما وأني كنت أشعر أن أحداثاً مثيرة حصلت معي في طفولتي، أحب أن أحتفظ بها. كنت أكتب على ورق ودفاتر وقصاصات من أشكال وألوان مختلفة أجمعها كلها في ملف واحد. عندما شعرت بأن هذه الأوراق، ليست مكتملة تماماً وإنما تحوي معظم المواد التي أردت توثيقها، بدأت أفكر في جمعها في كتاب يتيح للناس التعرف على تجربتي. بغض النظر عما يرد فيها، لكنها سيرة إنسان فلسطيني مثل الآخرين، كيف عاش وكيف درس وكيف سهر مع أصحابه وهكذا.
ما سبب اختيار عنوان «الخروج إلى النور»؟
واجهت صعوبة بعض الشيء في اختيار العنوان. عملت مع ابنتي رنا، وهي محررة الكتاب، على وضع عناوين مختلفة لكننا اخترناه أخيراً من عنوان لوحة من زمن الانتفاضة الأولى، نفذتها بخامة الجلد عام ١٩٨٨. لاءمني استخدام اسم لوحة من لوحاتي وكنت لا أريد أن استخدم عنواناً تقليدياً مثل مذكرات فنان أو ما شابه. مع ذلك، وصلني بعض الانتقاد على العنوان، لكني أعتقد أن ذلك ليس مهماً، المهم هو المحتوى.
ما نوع هذا الانتقاد؟
مثلاً ابني يزيد ربط «الخروج إلى النور» بالمعاني الدينية وربما بآية النور، مع أن شيئاً من هذا لم يخطر ببالي قط. كنت فقط أفكر أن مرجعية الاسم هي عملي الفني الذي صنعته في سياق الانتفاضة الأولى التي أحسست وقتها أننا كفلسطينيين كنا نخرج إلى النور بمقاومتنا ضد الاحتلال. أتمنى الآن لو أني استعملت صورة هذا العمل على غلاف الكتاب. سأفعل ذلك في الطبعة الثانية.
نعم، أحسست أن أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهني عندما مرت أسماء لوحاتك عبر صفحات الكتاب. كيف يمكننا التعرف على أعمالك الفنية عبر قراءة سيرتك الذاتية التي تعرفنا على أصول المواضيع وسياق الأحداث التي أنتجت هذه المواضيع. كنت تنشأ في بيئة معينة، تلاحظ، تراقب، ترسم وسائل الإيضاح أثناء الدارسة، وكيف أصبحت هذه المهارة أداة لتعلمك ولمساعدة المعلمين في التعرف على مهاراتك وأيضاً للتنبؤ بما ستمكنك منه هذه المهارات في المستقبل. أين نرى مثل هذه القصص في لوحاتك؟
يقال أن داخل كل فنان يوجد طفل يرجعه إلى الذاكرة. بالفعل طفولتي في البيت والمدرسة وحَوش بيت جدي في حلحول القديمة الذي كنت أحب ألعب فيه: أقواس وأدراج وقباب، تركيبة هندسية ساحرة. كذلك داخل البيت التركيبة أخرى، المطبخ والمتبن والطابق السفلي حيث الغنم والحمار كلها تعيش في مساحات متقاربة، بوتقة واحدة، لكن ضمن هندسة شعبية بسيطة تلبي الحاجة وتلبي الحس بالجمال الهندسي والتكويني. عندما أقيمَ أحد معارض رابطة الفنانين سنة ١٩٨٢، كان عن القرية الفلسطينية وشاركت فيه. ومن يومها وأنا مولع أكثر برسم القرية والحياة والمرأة والرجل فيها. ارتبطت هذه الأشياء بمسيرتي الفنية حتى أصبحت المرأة الفلسطينية عندي رمز الصمود والوطن والهوية، بجمال لبسها وثوبها وجمال شكلها بشكل عام. هذه طبعا أخذتها من الريف الفلسطيني والقرية الفلسطينية. كنت ولا زلت عضواً في لجنة التراث الفلسطيني في جمعية “إنعاش الأسرة” وأصدرنا عدداً من الكتب التراثية منها “دليل فن التطريز الفلسطيني” و”الأزياء الشعبية في فلسطين”. إلى جانب هذا، أثارتني الزيارات الميدانية للقرى بشكل كبير. كنت أعرف حلحول جيداً، ولكن عندما سكنت في رام الله وتجولت في القرى الفلسطينية أدهشني نقاء المعيشة وما تحويه من فنون العمارة والتطريز وانعكس هذا في تعبيراتي الفنية.
ما الذي استفز هذه الجهود؟ أنظر إلى لوحة «حلحول» المدرجة في الكتاب، وهي من إنتاج عام ١٩٧٨، وفيها القباب والنساء كما تذكر. لكنك تذكر أن معرض عام ١٩٨٢ كان أول معرض يركز على القرية الفلسطينية. ما الذي يدفع بعض المعارض لأخذ ثيمة معينة مثلاً عن القرية أو الشهيد، نفهم بالتأكيد أن سقوط عدد كبير من الشهداء في زمن الانتفاضة يؤثر على المزاج العام لمادة الفنانين لأن التعامل معه متزامن ومباشر. لكن، موضوع مثل القرية، ما الذي يحوله إلى موضوع معارض عام ١٩٨٢ بعدما عملتم عليه بشكل مستقل لعدة سنوات. هذا السؤال يتعلق بعمليات تقييم المعارض (curation) التي تعنى أكثر بتكليف أو متابعة ظهور موضوع معين بين تجارب فنية مختلفة.
في السبعينات من القرن الماضي كانت أحداث حرب ١٩٦٧ لا زالت قريبة ومؤثرة. وعليه، فقد تمحور عمل الفنانين بشكل كامل حول الاحتلال والسجون والمداهمات والحواجز وهدم البيوت، وطبعاً تعود هذه المواضيع للظهور بشكل كبير مع زيادة الاستيطان ومن بعده الجدار. كان الرمز السياسي شيئاً أساسياً عند الجميع واستمر ذلك حتى أوائل الثمانينات، حيث بدأنا نمل من الدائرة التي حصرنا عملنا فيها، وإن كان جزء كبير منها يعنينا شكلاً وموضوعاً. كان الموضوع السياسي يأخذ من القيمة الفنية للعمل الفني، وكأن كان على الفنان أن ينتج عملاً بموضوع سياسي حتى يرضي الناس. بدأنا في الثمانينات نركز على التراث ومنه القرية الفلسطينية، صرت أرى قبة الثوب الفلسطيني وكأنه لوحة للفنان بول كليه. وشجعتنا مثل هذه الأمور. أصبح موضوع التراث موضوع نضال ومقاومة للاحتلال وتوكيد لعناصر من هويتنا وحضارتنا. كان التحوّل من الخطاب السياسي المباشر (بنادق، حرب) إلى توظيف عناصر من البيئة والتاريخ (القرية، الزيتون)، في إيصال رسالة العمل السياسي.
عملت لوقت طويل داخل الحدود الجغرافية لفلسطين التاريخية وفي علاقة مباشرة مع وجود الاحتلال، الذي نقرأ في الكتاب كيف تدخّل في معارض «جاليري 79» ومنع بعض الثيمات والألوان، كيف أثّر هذا المحيط بحرية إنتاج أعمالك؟
بالنسبة لي لم يؤثر في عملي أو أسلوبي خشيتي من تدخل الاحتلال. لم أكن أتردد في أن أصنع عملاً يصادَر لأننا وقتها كنا نفقد اللوحات باستمرار. نعم مارس الاحتلال ضغوطًا كثيرة: أوقفوا عروضاً وصادروا أعمالاً ومنعوا فنانين من السفر وسجنوا آخرين، لكن أيا منها لم يكن نصب عيني أثناء قيامي بعملي سواء كان مشهداً طبيعياً أو امرأة عارية أو غيره. لكن أحياناً، وفي حالة سفر الأعمال للخارج، كنا نقرر ألا تكون اللوحات أكبر من الحقائب التي يمكننا لفها وحملها فيها.
كيف حددت أحجام الأعمال والحواجز المتعددة التي تمر عنها بتلقي العمل في الخارج؟ مثلاً الجدارية التي وراءك مبهرة لأنها ضخمة.
طولها ثلاثة أمتار.
في متاحف الغرب، أو ربما المدن المستقرة، حصلت مقابلات بينكم وبين هيبة العرض لأعمال ضخمة أو مهمة، في مقابل معرفة أنكم لن تستطيعوا حمل مثل هذه الأحجام عبر كل هذه الحواجز.
كان الإسرائيليون يراقبون كل معارضنا في كل مكان، في نابلس والخليل ورام الله والقدس. حتى أن المخابرات الإسرائيلية استدعتنا ذات يوم، أنا وسليمان منصور وعصام بدر (رحمه الله). أخبرنا يومها الضابط أن العالم يتجه للتجريد وأخذ ينصحنا بترك الواقعية. ثم بدأ يهددنا إذا ما سعينا إلى تحريض الناس من خلال معارضنا، بغض النظر عن مواضيع هذه المعارض. لم نكن نعير هذه التهديدات اهتماماً. مثلاً، كان عندنا معرض في نابلس، وعندما وصلنا إلى المدينة وجدنا أن كتاباً من الحكومة الإسرائيلية قد وصل إلى البلدية يطالب بمعلومات عن الأعمال ليمنع منها ما شاء. كثيراً ما كنا نرفض عروضاً مجتزأة أو مشروطة.
كانت هذه التحديات مفيدة بالنسبة لنا. لأنها كانت بطريقة تختلف عما بعد أوسلو التي ارتحنا فيها لتسلم السلطة لأمور التنظيم. قبل السلطة، كنا نخدم فننا بإقامة المؤسسات بأنفسنا؛ صنعنا فضاءات لها جدران مثل “جاليري ٧٩” و”رابطة الفنانين التشكيليين” و”مركز الواسطي للفنون” بالقدس ولاحقًا “أكاديمية الفنون المعاصرة” برام الله. في نفس الوقت، خدمتنا علاقاتنا القوية بالبلديات والجمعيات والجامعات وكلهم كانوا يسعدون باستضافة معارضنا. ساعدنا هذا الأمر على الامتداد في كل اتجاه؛ كانت المعارض تدور من القدس ورام الله إلى الناصرة وسخنين وأم الفحم وغزة والخليل. نظمنا أكثر من ١٢ معرض سنوي. أول معرض سافر للخارج كان في لندن عام ١٩٧٨ وفي عدة ولايات بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٧٩. كذلك نظمت معارض في الكويت والقاهرة وبعدها في تونس والمغرب، ومعظم الدول الأوروبية واليابان.
لما بدأ إسماعيل شموط “اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين” في بيروت عام ١٩٧٩، شاركت في هذا الاجتماع؟
كانت “رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين” في الأرض المحتلة قائمة لكن عند تأسيس الاتحاد، اعتُبرت الرابطة جزءاً منه. كان إسماعيل شموط مسؤولاً أيضاً عن “دار الكرامة” في بيروت وكنا نعرض فيها، وعندما دمرت كانت لوحاتنا فيها. بعدها انتقلت بعض لوحاتنا مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، وبعد تشكيل السلطة عام ١٩٩٤، نقلوا هذه اللوحات إلى رام الله. لكنهم لم يعيدوها لنا، وهي حقنا، واعتبروها ممتلكات المنظمة وعرضوها في مكاتب رئاسة الوزراء.
كتبت أنكم تعرفتم على الفنان مصطفى الحلاج أثناء رحلتكم عبر دمشق. هو أيضاً درس في مصر واستخدم المرأة رمزاً لفلسطين لكن بطريقته الخاصة. كيف كانت هذه اللقاءات (شخصية وأيضاً في المواضيع والأهداف وبناء المؤسسات) مع فنانين فلسطينيين يعيشون وينتجون خارج الأرض المحتلة؟ في الكتاب ذكرٌ لفنانين عملت معهم باستمرار داخل فلسطين لكن لا يأتي ذكر فناني الخارج بأي تفصيل في الكتاب.
كنا كفناين على تواصل مستمر مع الفنانين الفلسطينيين من الخارج لا سيما أثناء زيارتنا لبيروت ودمشق والكويت والدوحة وغيرها التي احتفت بنا وأنتجت نوعاً من الربط. لكن تواصلنا الأهم كان مع أبو جهاد (خليل الوزير) الذي كان دائماً يستدعينا للقائه. سأل أبو جهاد عن الأعمال التي انخرطنا فيها وطلب منا أن ننظم معارض في الداخل ونخترق المجتمع الإسرائيلي ونعرّفه عبر أعمالنا بالقضية وحضارتنا وثقافتنا التي لا تقتصر على البنادق والحجارة. أراد لأعمالنا الفنية أن تغير في نظرة الشعب الإسرائيلي وبالتالي ربما في موقفه. رغم أننا فعلنا ذلك، إلا أننا لم نحس بفاعلية هذه الاستراتيجية، كان زوار المعارض من اليسار الإسرائيلي هم نفس الزوار دائمًا، ولم تسفر جهود اليسار عن توسع في الجمهور أو حشد دعم مجتمعي، بالعكس ازداد التوجه في المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين. في ذات الوقت، كانت تصلنا انتقادات تتهمنا بالتطبيع من قبل بعض الفصائل مثل “الجبهة الشعبية”. لم يكن أحد يعرف أننا على تواصل مع أبو جهاد في بيروت وأننا كل هذه الجهود والمعارض المشتركة مع فنانين إسرائيليين كانت تخطيطاً منه. كانت هذه الاتصالات بحد ذاتها مجازفة لأن لو عرفت السلطات الإسرائيلية ذلك لاعتقلتنا على الفور.
كيف كنتم تقابلونه؟
مرة ذهبت لمقابلته مع سليمان منصور، ومرة مع عصام بدر. كانت مقابلاتنا تنظم في الليل، تقلنا سيارة معتمة الزجاج من مكان إقامتنا وتنتقل بسرعة كبيرة جدا حتى لا نعود نعرف من أين دخلنا وأين خرجنا. ثم نصعد الدرج إلى شقته. لا أعرف إلى اليوم أين كانت شقته ولا أظن الإسرائيليين كانوا يعرفون، وإن كانوا تمكنوا من ملاحقته واغتياله في تونس.
في أي المدن قابلتموه؟ ومن الوسيط الذي كان يشبككم بأبي جهاد؟
في بيروت وعمان. لم يكن يسكن في عمان لكنه كان يزورها ويطلب منا مقابلته هناك. كان بيت الشرق بالقدس، عن طريق وسطاء من قبل فيصل الحسيني، ينظم هذه اللقاءات ويخبرنا بها. كانت لقاءات مفيدة تعرفنا فيها على إسماعيل شموط وتمام الأكحل ومصطفى الحلاج وتوفيق عبدالعال وغيرهم من الفنانين.
كنت أثناء قراءة الكتاب ألاحظ طول الزمن الذي تطلب التواصل. مثلاً عندما حاولتم اللقاء بالفنان حنا مسمار فأرسلتم الفنان صقر القتيل إلى الناصرة ووصلها بتزامن مع جنازة مسمار. أو عندما وصلتم لندن ولم تجدوا حجزاً فندقياً واضطررتم إلى الاتصال بأقاربكم. نستطيع الآن بسهولة وسرعة التحاور معاً بشكل مباشر، ونستطيع تبادل الصور والمعلومات بالإيميل والقصص على مواقع التواصل وبالتالي أيضاً التعرف على تفاصيل أكثر عن حياة الآخرين اليومية. لم تكن هذه الوسائل متاحة سابقاً واعتمد التعرف على أعمال الفنانين على الزيارات أو على المطبوعات والمواد الصحفية وضاعت لوحات كثيرة في الطريق وهكذا.
أفكر عند قراءة الكتاب بالمحطات التي قررت التوقف عندها وبمستوى التفاصيل التي تعرضها لكل محطة. مثلاً كتبت عن تنشئتك في القرية ثم دراستك في مصر والفترة التمهيدية التي قضيتها في القاهرة قبل أن تنتقل للدراسة في الإسكندرية التي كتبت عنها. ثم مرحلة بعد التخرج التي تطلبت توقفا في عمان قبل أن تعود إلى فلسطين وتنخرط في التدريس والعمل الفني وبناء المؤسسات كما ذكرت لنا. يمكن لكل واحدة من هذه المحطات أن تكون كتاباً! يمكنك مثلا أن تكتب سيرتك بالتفصيل بالاعتماد على مرحلة الدراسة في الإسكندرية مثلا، كيف تعرفت على الفنانين المصريين والزملاء الفلسطينيين الذين درست معهم، أنواع المدارس الفنية التي شاعت وقتها، قربك وبعدك عنها، موروثك البصري وكيف وفقت بين ما تريد العمل عليه كفنان وبين الدراسة الأكاديمية، كيف أثرت هذه المرحلة على نوع التعليم والممارسة الفنية الخاصين بك في فلسطين، وربما أيضا كيف رأيت التحولات في كل شيء عندما عدت للإسكندرية بعد عقود. ويمكن لهذا الأمر أن ينطبق على أي مرحلة من مراحل حياتك مثل عملكم معا في المشهد الفلسطيني مع جماعة التجريب والإبداع وبناء المؤسسات وهكذا. وهذا يعيدنا إلى التساؤل حول الأسباب التي تدفع الفنان لتسجيل قصة حياته. هل هذا الكتاب هو إخبار عن هذه المحطات وبالتالي ما هو ربما إلا دليل إلى التعرف على ما يمكن الاستفاضة فيه كتابة وبحثا مستقبلا.
نعم قدرت أن أذكر الأحداث بهذه الطريقة وأركز على الطريقة التي ارتكزت فيها كل محطة على التالية وكيف أغنت كل مرحلة المرحلة التي لحقتها.
مثلا، أكتب الآن ورقة بحثية عن فترة حرب الخليج في فلسطين. أعرف تأثير تلك الفترة على الفن في عمان ووصول الفنانين العراقيين وتغيير الخطاب الفني المحلي. لكني لم أعرف ما نوع الفن الذي تناول هذه الحقبة، والتي تزامنت مع الانتفاضة الأولى. سعدت عندما وجدت جزءا من هذه التجربة في الكتاب، وكيف استخدمتم “لاصق صدام” على الشبابيك وخزنتم الأطعمة وخرجتم لمتابعة الصواريخ في السماء، تماما كما كان يحدث في عمان. أين نرى هذا في الأعمال الفنية؟ هل كان للانتفاضة الأولوية؟ أم حد الاحتلال من ظهور مشاعر معينة في أعمال الفنانين؟ ما الذي كان يحدث؟
أتأثر دائما بالأحداث التي تقع على الدول العربية، ومن بينها لا شك بغداد التي بث قصفها على الهواء. عملت عن قصف بغداد لوحة من النحاس والخشب، عرضتها في غزة ومعارض بالضفة الغربية عام ١٩٩١. لا أعتقد أني أدرجتها في الكتاب، لكنها تحوي شكل طائرة لها مقدمة منقار صقر تسقط منها صواريخ. كنت متأثرا جدا بقصف مدينة عربية من قبل قوات التحالف، وكذا كان شعوري عندما اجتيحت بيروت بعد سنة من زيارتنا لها، وكذلك عند خروج المقاومة من بيروت وملاحقة أبو جهاد في تونس وقتله. يلازمني شعور سيء تجاه المدن العربية التي يعيث فيها الفساد والاحتلال والجيوش الغربية.
هل صنعت عملا عن اغتيال أبو جهاد؟
للأسف لا، لا أصنع أعمالا عن شخصيات بالذات، مع إني صنعت عملا عن جورج فلويد، الأفريقي الأمريكي الذي خنقه شرطي واجتاحت أمريكا وباريس ولندن المظاهرات على إثره.
كم يؤثر الحدث بشكل مباشر على أعمالك؟ هل عملت عملا آخر عن سقوط بغداد مثلا؟ أو أي من أحداث الربيع العربي؟
عملت لوحة عن الربيع العربي، طولها ثلاثة أمتار، استلهمتها من صور المظاهرات في تونس وميدان التحرير. عرضت هذه اللوحة وبيعت في دبي. قبل الربيع العربي، كنت أرسم مناظر شجر الزيتون في فلسطين؛ كنت أرتقي تلة وألقي نظري تجاه الأراضي المزروعة بالزيتون فيتبدى لي الشجر وكأنه عدد لا نهائي من الناس. ربطت هذا المشهد بالربيع العربي. أحيانا تصغر القرية وتكبر رقعة الأرض التي فيها شجر الزيتون. أحمل أحيانا بعض أعمالي من عام ١٩٨٢ عندما أعود لزيارة قرية مثل «الجانية» غرب رام الله، فأجد أن المناظر الطبيعية التي رسمتها قد تغيرت أو تطعمت بالمستوطنات أو قطعها الجدار أو اختفت منها بعض البيوت. بدأت أسأل الناس عن هذه البيوت فيخبروني كيف عليهم أن يتوسعوا بالبناء لأولادهم داخل القرية لأن السلطات الإسرائيلية تمنعهم من البناء خارجها.
جميل هذا المشهد: أن تمسك باللوحة وتقارنها بالمشهد الحالي. تتحول اللوحة إلى وثيقة وأرشيف بشكل ما، إلى جانب كونه تعبير فني.
حصل هذا بالصدفة لأني لم أقدر سابقا أن كل هذه التغييرات ستحصل. لكن السلطات الإسرائيلية مستمرة كل الوقت في التجريف والتعسف. تحولنا الآن لحديث السياسة!
بعيدا عن السياسة. انتبهت إلى تعليقات أوردتها في الكتاب تصف طباع بعض شخصيات المشهد الفني في فلسطين. مثلا مشكلات كريم دباح “اتصفت باللاموضوعية”، و”يدعي الفنان فتحي الغبن أنه صاحب مدرسة فنية” وعن شخصية عصام بدر “أنه لا يهادن ويتعامل بفوقية” وذكرت “ديكتاتورية” إبراهيم سابا. ترد هذه الصفات ككلمات مختصرة موازية للحدث وعليه يمكننا رسم خرائط عديدة من هذا الكتاب: خريطة تسلسل الأحداث والأماكن في حياتك، خريطة المؤسسات والمشاريع الفنية وشركائك فيها، وخريطة فيها إشارات عن طباع وعلاقات هذه الشخصيات ببعضها. هل كانت هذه الإشارات متعمدة للإخبار أم هي شيء من المشاغبات التي كنت تقوم بها وسجلتها في الكتاب.
(يضحك) لم أدرج كل شيء وإنما ما اعتقدت أنه سيعطي متعة للقارئ بنفس القدر الذي استمتعت به سواء كان مقلباً أو موقفاً. لكن يمكن كتابة كتاب كامل عن كل واحد من هذه الشخصيات.
بدا لي من المواقف الطريفة التي تذكر في الكتاب الاجتماعات التي كنت تعقدها تحت شجرة الجوز أمام بيتك في رام الله. كيف كنتم تتحاورون في ظل شجرة بينما تحاولون بناء المؤسسات. تخيلت أنها جزء مهم من تاريخ الحركة التشكيلية في فلسطين، ربما حتى أنه يمكن أن يفرد لها كتابا. كتبت أنكم تحت هذه الشجرة جلستم تأخذون قرارات مهمة أو تحلون مشاكل الحركة التشكيلية. هلا أعطيتنا مثالًا على مشكلة ناقشتموها تحت شجرة الجوز؟
كان المشهد يسمينا “مافيا”، أنا وسليمان منصور وتيسير بركات وفيرا تماري. كنا نتخذ القرارات التي تسري على المشهد؛ يثق الفنانون الآخرون بعملنا، نختار أسماء المشاركين في معارض خارج فلسطين بحسب مستوياتهم، أو نضع خططاً لانتخاب فنانين قادرين على تحمل المسؤولية في إدارة الرابطة. كانت هناك صعوبات في كل هذه الأمور. للأسف اقتلعت هذه الشجرة التي جرى تحتها كل هذا التخطيط.
كنوع من الفضول، هل كنت تجلسون على الأرض أم على كراسي؟ وهل كانت هناك مقرات غير رسمية أخرى مثل شجرة الجوز؟
كنا نجلس على طقم من كراسي الخيزران، يمكن أن يصمد تحت المطر والشمس. ولم يكن لنا مقار أخرى حيث بيت سليمان منصور كان في القدس ولم يكن بيت تيسير بركات يتسع لجلسات كبيرة. أحيانا عقدنا اجتماعات الهيئة الإدارية للرابطة وفيها سبعة أشخاص وحصل هذا في بيتي. ربما قرأت كيف اقتتل سليمان ومحمد أبو ستة يومها وضرب سليمان منفضة السجائر على محمد أبو ستة فخرجت من الزجاج قبل أن نصلح بينهما.
سيكون من المثير أن تكتب شهادات من قبل سليمان وفيرا وزوجتك وغيرهم عن التاريخ الذي تحت شجرة الجوز، الأمر الذي يتيح أكثر من منظور في رواية تاريخية. لا يمل الحديث معك. أشكرك على وقتك.