إنها الحرب! قد تثقِلُ القلب
لكنَ خلفكَ عار العرب
لا تصالح ولا تتوخ الهرب.
كتب أمل دنقل هذه الأبيات الشهيرة في مجموعتهِ الشعريّة “أقوال جديدة عن حرب البسوس” رافضاً مساعي السادات تجاه السلام مع إسرائيل، ومُحرضاً على استمرار القتال والثأر، كانَ يعي جيداً أن وعياً عربياً يحاول الانسحابَ من دائرةِ الصراع تجاه دائرةٍ تلتبسُ فيها المفاهيم والصور، بحيثُ يُقبَلُ بالوجود الاستعماري الصهيوني في الأرضِ العربيّة، وأنَّ عاراً عربيّاً واسعاً سَيُطبَعُ على الجباه لسنواتٍ طويلة، وصولاً إلى حالاتٍ واسعةٍ من التطبيع والقبول والتعايش؛ ولذلك أطلقَ أمل دنقل ملحمة “لا تصالح” الشعريّة الشهيرة في ومحاولةٍ لتثبيت وعي وجود المُحتل بوصفِهِ جِسماً غريباً يَجدرُ على مناعةِ الجسد العربي مواجهته على طول الخط؛ ولأن هذا يعني الحرب التي “تُثقِلُ القلب” كان على الأجيال العربيّة اللاحقة أن تعي جيداً أن الصراع صراعاً مريراً وطويلاً وقاسياً وأن ثمناً باهظاً عليها دفعه مقابل أن تبقى لهذه الأجيال قدرة على القول والفعل والإدارة.
هذه هي الحرب الرابعة التي تخوضها غزّة، المرّة الرابعة التي تعُيد فيها المدينة طرحَ سؤال جدوى الفعل المقاوم، بكثيرٍ من الإيمان والطاقة التي لا تنفذ، تقدمُ المدينة استحقاقها ونديّتها وجدارتها بالحياة، والحرب التي “قد تُثقل القلب” لا يمكن الاعتياد عليها ولكن يمكن فهمها وتشريح مفرداتها واستئناس وحشتها وترويض بشاعتها في محاولة النفاذ إلى أن تكون نداً قادراً على الفعل متحللاً من وهمِ العجز ومنتصراً على تردي المرحلة، خمسة عشر عاماً من الحصار والعزلة والحروب ومن امتحان القدرة على البقاء دون التحرك متراً واحدةً خارج دائرة المعنى الحقيقي لهذا الصراع الطويل، المعنى الّذي يُعطى أسماء واضحة للأشياء، في هذا الوقت المُلتَبس والمُبهم والّذي تُخيم عليه غيومُ التطبيع وتُغرِقُهُ موجاتُ النسيان ومحاولاتُ القبول، الدائرة التي تُعطي الاحتلال صفتهِ الإحلاليّة الاستعمارية، وتُعطي في المقابل المقاومة قداستها وأحقيتها وجدواها، والحروب البشعة والطويلة والمريرة التي تخوضها غزة مهمتها الجوهريّة محاولة تثبيتنا داخل قُطر هذه الدائرة المُقدسة، دائرة الفهم والحق، دائرة التاريخ والحاضر والمصير.
أنها الحاجة إلى تثبيت الوعي وكي وعي الهزيمة الآخذ في التنامي، وفي غزة بصفةٍ خاصة وفي فلسطين بصورةٍ عامة، ولكن نتحدث عن غزةَ لخصوصيةِ وضعها، بعدَ مرور ما يزيد عن عقدٍ من إطباقِ الحصار الشامل عليها وخوضها ثلاثة حروب والكثير من الأزمات وصولاً إلى مسيراتِ العودة الكبرى، والحرب المُندلعة الآن، توجد حالة مستمرة تحاول البقاء في التموضع الصحيح، حالة تدفع نفسها بنفسِها وتدافع بنحت عظامها ودمها ويديها المجرّدة؛ لأن تبقى قادرة على أن تفرض صوتها في مقابل أنظمة لا يَنقصها شيء، أنظمة لديها الغاز والبترول والموارد والسياحة ولديها امتدادها وعمقها العربي والإسلامي، لا ينقصها شيء لتكون دولاً وازنةً ولديها قدرة على أن تأخذَ قرارها بنفسها، وأن لا تبقى أنظمة ممسوخة عديمة القيمة، مسلوبة الإدارة، تهرول تجاه أمريكا بعيون مغمضة، فيما تقف غزة الفقيرة المطحونة، سنوات، تناوئ وترفض، أنها بلا شك صيغة فارقة ولا يمكن عقلّنتها تبعاً للقياسات التي يحددها منطق المُطبّع، غزة تطرح نفسها خارج هذه الحسابات، كيان لا يمكن “عقلنتة”، حالة تصدق أن بإمكانها أن تسبح في مواجهة التيار، وكلّما تكسرّت المجاذيف، تظهر مجاذيف جديد، طاقة مجهولة المصدر تدفع الناس في هذا المكان إلى أن يستمروا بالركض، إلى أين؟ ربمّا في كل الاتجاهات المهم أن الركض الذي يعادل الاستمرار في الحياة، مستمر، لا يمكن للمُطبّع أن يفهم كيف يحدث هذا؟! ثمة مسار مغاير سارت فيه غزة، طريق وعرة منذ البداية تُعلّم الكثير، وتختبر الكثير من المشاعر التي لا يمكن شرحها أو تفسيرها بقدر ما يمكن معايشتها فقط.
إذن الفلسطيني في غزة وفي الضفة وفي كل مكان أسقط منذ زمن فكرة أن بعداً عربياً يسانده؛ لأنه تجرع تباعاً كؤوس الخذلان العربي مرات ومرات، لقد ارتبط الخذلان العربي والخيانة العربية الرسمية بالقضية الفلسطينية منذ بداية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منذ الثورة الفلسطينية الكبرى، تقول لنا مراسلة عبد القادر الحسيني لجامعة الدول العربية “أني أحملّكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم دون عونٍ أو سلاح ” الحقيقة بشعةٍ ومجرّدة، وبعدها تسقط القسطل، هي نفسها جامعة الدول العربية التي تفشل في تبني مشروع قرار فلسطيني رافض لتطبيع الإمارات مع إسرائيل، اليد العربية مشاركة في ضياع فلسطين منذ البداية، الحقيقة أننا خُضنا حروباً طويلةً وكثيرةً مع الإسرائيليين، بالبارود والنار والحجارة والصواريخ والأيدي والأظافر، خُضنا هذه الحروب، واجهنا منذ البداية قَدرنا بِشجاعةٍ ومسؤولية، ولم نجزع أو نتراجع، لملمنا أشلاء شهداءنا المُلتصقة على جدارِ أزقة المخيمات، وشددنا على جراحنا، هذه ليست شعارات لقد فاقت بطولة الفلسطيني وتضحياته حدود المجاز، وسخرنا من ميزان القوى، وتمردنا على كل القواعد وكان العالم يُصغي جيداً إلى صوتنا.
كل هذا كان يمكننا فعله، ودائما كان هناك خذلان رسمي عربي، كان هناك طعنات في الظهر ومحاولات للسيطرةِ على القرار والتلاعب بالمصير، لكنّا ومع الأحرار والشرفاء في المنطقة والعالم كنّا دائما نخربشُ في الجدران ونتجاوز.
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل.
ينتفض الجسد الفلسطيني هذه المرّة بصورة موحدة، جسداً فلسطيناً موحداً يهزم وهم القبول وزعم التعايش، ويسير إلى قدره، ملتفاً حول حقيقته ومصيره، وفي كل المرات التي تُختبر فيها هذه الإدارة تنجح في برهنة جدارتها واستحقاقها، ودائما حين يجد الفلسطينيون عنواناً واضحاً يلتفون حوله متفانين في الدفاع عن أنفسهم ومصيرهم بكل ما لديهم من قوة، يُثبت هذا الحراك النضالي العنفواني الضخم في الداخل الفلسطيني المُحتل وفي كل المدن المختلطة أن أعواماً من المحاولات الإسرائيلية البائسة في إعادة ضبط العقل الفلسطيني وفقاً لإرادته كانت محض وهم، وأن وعياً فلسطينياً منغمساً بقضاياه متحداً معها مؤمناً بها وكأنه للتو يخرج من نكبة العام 1948 هو من يواجه بقوة غير مسبوقة وبإدارة صادمة في شوارع اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا وأم الفحم وفي كل مناطق الاشتباك في الداخل المحتل، يخرجون أفراد وجماعات ويلتحمون ببسالة منقطعة النظير مع خصومهم، أنها معركة الوجود والجدارة التي تعيد رسم شكل وجودنا الحقيقي بعد انقطاع دام لسنوات، وفي الضفة تتدحرج المحاولات التي نأمل في أن تكون أكثر اتساعاً وأكثر عنفواناً وقدرة على التحرك والفعل، الضفة التي نريد لها أن تشتغل وتكتمل دائرة الفعل النضالي الفلسطيني في معركة واضحة المعالم هي معركة القدس ومعركة ثبات الوعي ورسوخ الفهم، نقود الآن هذه المعركة مع إسرائيل، إسرائيل التي يُحقق وجودها في العالم حالة الفرز التي لا يُمكن الالتفاف عليها، إسرائيل تفصل العالم تماماً وبطريقة حادة ولا تقبل التأويل، أما أن تكون معها أو أن تكون ضدها، أما أن تكون مع دم الحسين أو أن تكون مع سيف زيد، أما أن تكون مع الحق الشهيد والمدمى، أو أن تكون مع الباطل الذي سيزول وإن بدى أن ما يحدث لا يشير لذلك، الأشكال يغيرها الزمن، لكنها صور لحالة واحدة، كأنها خرجت من قصة واحدة، صراع وجودي وطويل الأمد بين قوى الحق وقوى الباطل، بين القوى الخيرة والشريرة، صراع يمثل مبرر لمعنى الاستمرار، ودفع العجلة قدماً نتيجةً لهذا التناقض، ولا خيارات متاحة، إلا الانحياز، حتى وإن بدت خيارات واسعة وكثيرة ومتعددة.