كانوا يبحثون دوماً عن مشاعرها المتوقدة تجاه الأشياء، ولكنها تتذكر أنها كانت لا تجد شيئاً في عيون أحد، لا سن ضاحك، أو ابتسامة ساحرة، أو كلمات براقة. لقد كانت أجواء توقعاتها ممتلئة بفقاعات الصابون، وكل ما هيأ لها أنه جزء من الجنة… بالونات تطير في الأجواء، انعكاس قوس قزح على بحيرة ماء، أشجار مخضرة يانعة، صوت أجراس، ونسيم عليل، كل هذا -بل أكثر- سحقه الواقع، وسحقته الحقائق والوجوه السوداء.
تكتب لكن لا تخبره بكل شيء، تتحدث، أو لا تتحدث.. كانت تراوغ قلبها..
“عزيزي الله،
كيف حال جنتك هناك؟ أهي حقاً أجمل من كل تلك الخيالات؟ هل يا ترى سأكون هناك يوماً أم أن مصيري في الآخرة اللا منتهية أيضاً كما قدرت لي بالدنيا؟ لن أكون ناكرةً للجميل.. لنعمتك علي وأقول أني لم أبلغ أسمى درجات السعادة في هذه الدنيا الزائلة في بعض اللحظات؛ ولكنها لم تكن تدوم. بتُ حقاً لا أصدق تلك الجمل أو العبارات الملهمة التي تصب في النهاية في معنىً واحد، معنى أن الحياةَ ملح وسكر. أترى هناك فائدة للملح، يجعل الطعام أشهى وأطيب، ويظهر النكهات، وبالأخص طعم الكاكاو.. فإنه يظهر طعم المر إذاً؟
لا أظن حقاً أن الدنيا تشبه بالملح والسكر، إنه تعبير ساذج.
لمَ لا تكون الحياة جميلةً حتى الرمق الأخير؟ جنةً حتى الرمق الأخير؟ فسحة أمل وحلم حتى الرمق الأخير؟ أنشتهي الحزن في فوضى الجمال؟
أتعلم؟ يا لسذاجتي، بالطبع تعلم! يبدو كل ما أشعر به تافهاً جداً عندما أحدثهم بلغتهم عنه، لهذا أتراجع عن الحديث وتبعاته، وأفضل الاستماع للموسيقى. تبدو بعض الأغاني وكأنها كتبت لي وعني، وحينها يصيبني الإلهام، أو تبكيني الكلمات بحرقة؛ لهذا أرجوك لا تحاسبني على استماعي للموسيقى.. تبدو أحياناً كرفيقتي الوحيدة هنا، كما بعض الآيات التي تصنعني فيها على عينك.
يا لصرامتهم، لحقدهم… والمخيف أن ألتقط صورة تخدعني قبل أن تخدع أي مخلوق آخر في هذه الدنيا بجمالهم، وسحر تجاعيدهم، وبعيونهم اللامعة التي خلقتها أنت. سأكون كاذبة ولا أريد ذلك على الرغم من أني كذلك… أكذب على نفسي قبل أي شخص آخر.
أكرهني معظم الوقت، وأحبني أحياناً قليلة… أترى؟ إني لا أكذب الآن… أفضح ذاتي بحقيقتي الرمادية.
متى أراك؟
اجعل نهايتي سعيدة لأجل آخرتك،
أحبك.”
البكاء والخيبة، رفضتهما أمام البشر، ولكنها احتفظت فيهما لنفسها. ستضحك بعد لحظات، أو بعد يوم أو يومين. وسيعود كل شيء لمجراه اللاطبيعي. لن تجد الحلول؛ لأنها لا تفكر بها، أو في تنفيذها، إما الهروب أو هروب آخر؛ ولكنه هروب، وهي تكره الضعف أو الضعف الخارجي.. الضعف المبتذل.
يوم آخر
كانت تتقلب بين أبيض وأسود جوزائيتها، هذا التقلب الذي لا تفهمه هي أيضاً، أو تفهم ترهاته.
لقد كانت تكتب الأبراج أيضاً ساخرة من كل شيء أوصلها إلى تلك المرحلة الدنيا…
” كم صلاة لي لم تقبل إذاً؟”، تحدث ذاتها.
“كان عليَّ أن أرفض بكل تلك البساطة! كنت سأقول أن هذا يتنافى ومبادئي الدينية! كان علي أن أرفض دوماً؛ ولكنني خضعت..لا، إنني اخترت الخضوع بنفسي ولم يخضعني أحد.. لقد كنت أكذب، ادَّعيت الابتسام عندما لم أرغب ذلك.”
” لم تمضِ سنواتٌ ضوئية منذ البارحة حتى ظهر اليوم… هل هناك ما يسعدني حقاً أم على شخصيتي التي ربيتها على أن تكون مرحة أن تمثل الآن بحقِّ السماء؟ هل أنسى بتلك السهولة؟ لمَ لا يغيرني الزمن؟ ولم أعود كرتي الأولى في لحظات؟ أكرتي الأولى هي كرتي الأولى الفعلية؟ من كنت قبل سنوات؟ وكيف كانت البداية؟
إنني أتأرجح على الدوام.”
لم يبرد كوب قهوتها بعد، حتى هذه الأفكار تمر ببطء أمام حائط من الحجارة وتلك الشبابيك الصغيرة التي استهزأت بوجودها.
تتجبد “إذاً إنه صباح آخر من هذا العام الآخر..”
” أشبابيك سجنٍ هذه؟!” ترفع حاجبها الأيمن وشفتها اليمنى وتهم بأخذ رشفة أخرى من كوب قهوتها الأزرق.
كانت هذه المرة الأولى التي تنتبه فيها لضيق شبابيك البنايات الملاصقة لبعضها. عندما تذكرت أن هذه الشبابيك أكبر وأوسع من غيرها.
” في السجن شبابيك… ربما في سجون أخرى خارج حدود هذه الدولة، آه وأنا لم أجرب السجون بالفعل… ولكن لمَ تبدو معظم الشبابيك صغيرة هكذا هنا؟ ألا يكفينا كل هذا الاختناق لنختنق أكثر. إننا شعب لا يُفهم!”
تواسي نفسها بحرارة التصفيق بجملة تفتقر للأمل “هذه الأيام في ظل هذه الجائحة تمر في حياة الجميع ببطء” ولكن عندما تذكرت أن عامها الثاني والعشرين يهرول، لا بل يركض بسرعة الفهد، استثقلت ذاتها على العالم، ساءلت نفسها عن المعنى الذي سيقدمه وجودها كبشرية أخرى على سطح الأرض للأرض.
لقد رسمت مستقبلاً باهراً لها منذ ثماني سنوات، لقد كانت ترسم هذا المستقبل منذ ربيعها التاسع الذي أصبح خريفاً مقلقاً الأن. كما كانت لا تزال والدتها تضع أحلامها بفلذات كبدها فوق بساط ريح مخملي قرمزي ثقيل. أما هي فكانت تحمل هذا البساط على ظهرها ؛ فلطالما غبطت كل أولئك الذين قاموا لأجل هذا العالم في الخامسة عشرة من قعر مصيبةٍ سوداء قاحلة، وكانت تجزم أنها ستكون كذلك يوماً.. الأحلام تعذبها الآن، فلا تعاتبها إن رأيتها تسخر من كل شيء، من كل حلم، ومن كل مشروع، وبداية وغاية. حتى أن صور أصحاب الكاريزما على الفيسبوك وغيره ما عادت تخدعها، أضحت تقابل هذه الصور بابتسامة صفراء وتمضي بسبابتها إلى أسفل شاشة هذا الهاتف اللعين دون أن يستوقفها أي شيء حتى الاقتباسات اللامعة، عالمها منطفئ وهي تبالغ في الانطفاء، وعلى الرغم من كل هذا ما زلت تمثل دورها المرح والودود باحترافية ممثل لا يمثل.. يا لها من مخادعة!
بينما كانت سبابتها تواصل مهمتها السهلة، استوقفتها صورة رديئة الجودة كتب عليها بالخط الأحمر العريض “فرصة عمل”.
“يبحثون عن مساعدة إدارية تتقن العربية والإنجليزية والعبرية قراءًة وكتابةً، تعمل تحت الضغط، وملتزمة بالمواعيد، وتتقن استخدام برامج مايكروسوفت أوفيس”.. لم تدرك للوهلة الأولى أن هذا الإعلان لوظيفة عمل أخرى في مجال تخصصها، تعجبت مستهزئة كالعادة ” وتتقن استخدام برنامج الفوتوشوب وتصوير الفيديوهات… ما هو راتب سعيدة الحظ إذاً؟ أتقطع جسدها قطعاً توزعها للعمل على هذه المهمة المستحيلة؟!”
عاودت قراءة الإعلان مرة أخرى، فوثبت من مكانها معلنةً كالعادة أمام حشد العائلة الكريمة أنها تملك حدساً أن هذه الوظيفة ستكون من نصيبها وقدرها الذي تسير إليه بإرادتها الحرة المطلقة. لقد ارتسمت على ملامحها ووقفتها ملامح عزم وإصرار أنها ستقتنص هذه الفرصة بجدارة، إلا أن داخلها كان يخاطبها ” لا تفعلي!”
تجيب: ” سأفعل إني مللت!!”
نعم، لقد ملت من كل شيء، من كل تلك الأصوات التي تنصحها أن التربية والتعليم هما الوظيفتان المثليتان للأنثى. الإجازة مضمونة، ولو أنها قدمت الطلب لبلدية الاحتلال؛ فالراتب سيكون يا صبابا! ومنهم من كان يرشدها: “اختاري تعليم شيءٍ تحبينه وتهوينه!”
” نعم، ولكنني لست الأمثل بعد، ما زلت أجهل الكثير.”
أرسلت بريداً إلكترونياً حاولت أن تبعث في قارئه مهنيتها، وأفاضت على البريد بجملة أعمالها على مدار العام الماضي.
” إنني لا أملك شيئاً من هذا العام إلا صوراً بالأبيض والأسود.. هع، سأضع رابطاً لها إذاً..”
كانت السخرية هي الحل الوحيد أمامها. وبالطبع، فإن العالم هذا قد غمر البشرية بحالة حادة من الكوميديا السوداء. غمامة أخرى… إنها لا تختلف عن الكثير من البشر الذين ما زالوا يحاولون التشبث بسبب واحد تافه يجعلهم مستمرين على قيد هذه الحياة التافهة.. إلا إنهم يسلبونهم ذلك.
لقد أصبح الدمار جزءاً لا يتجزأ من مجريات الأحداث اليومية المحركة للعالم بشكل لا يبدو على أنه على أحسن ما يرام. ربما أصبحت أشكال الانفجارات واحدة، غمامة سوداء أو رمادية متصاعدة نحو سماء تدعي أنها صافية. إنها الصورة المثلى التي نراها في كل حدث، في كل انفجار، وقصف، واستهداف. لقد رأتها لوهلة، استوقفها الخبر ثواني معدودة، ومضت.. “انفجار في بيروت”. إما أنها أصبحت تمساحة بالمعنى الحقيقي، أو لعل الإنسانية فقدت من الصورة. أصبح الوجع معتاداً على الرغم من تعدد الجروح.
لقد ترعرعت أمام شاشة بثت أخبار الاغتيالات والحروب، أفغانستان، طالبان، جورج بوش، شارون وشعره الأبيض الذي لأجله كرهت أن تشرب الحليب وهي في الصف الأول، حسني مبارك الذي كانت تلقبه والدتها بالبقرة الضاحكة، صدام حسين، القذافي، ياسر عرفات، أحمد ياسين وصباح اغتياله في الثاني والعشرين من آذار عام 2004، الرنتيسي الذي اغتيل عندما كانت تزور منزل عائلة أمها، خطابات حسن نصر الله.. حفظت هذه الأسماء عن ظهر قلب، وتعلمت أن تسأل “هل هذا شخص جيد؟” إلى أن ملَّ والدها من هذا السؤال ومن كثرة الأسئلة التابعة. لقد أمدها هذا الصندوق الأسود بجرعات من الصور التي لن تنساها مطلقاً. كانت تنام بخوف يأسر قلبها بسبب بعض تلك المشاهد. ما زالت تخاف حتى الآن من مشهد إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. لم تكن تغمض عينيها لتستعيد المشهد، بل كانت ترى المشهد أمام السقف، تغمض عينيها هرباً؛ فيشتد تباين المشهد، تحكم قبضتها على غطائها، ولكن تعود الصورة لملاحقتها مجدداً… تهرب ولكنها لا تنفذ من قبضة الأخبار اللعينة.
أما اليوم فكانت الصور على مواقع التواصل الاجتماعية مختلفة، كانت من الناس وللناس. تستوقفها الصور فتصمت. أصلاً تعلمت الصمت بسبب كثرة الكلام؛ ولكن ” هل يشعر البشر حقاً؟”، ساءلت نفسها. تتبع الصور والفيديوهات على الانستغرام لم يكن كافياً، أمست تغوص في أعماق التعليقات، إلا أن هذا زاد تشبثها بالسطح.
“حسناً، لنرَ إذاّ… ما كان عليها أن تناجي العذراء أمام هذه الغمامة الداكنة التي قد تودي بحياتها… أصلاً لمَ يؤمن البشر؟”، تسخر. “وآه.. نعم، إعلان مثير لمن يحلم في نسف كرشه ووصفة سحرية لإزالة الترهلات والسيلوليت لتحظي بجسد رائع، وتصبحي أنثى جديدة”. “ياه، العالم رائعٌ حقاً في الخارج والله!”، تكمل حديث الكوميديا السوداء.