أعاد الفيلم الدنماركي “جولة أخرى” الأفلام القيّمة إلى قاعات السينما بعد عامٍ من النتفليكس وأفلام الأونلاين ذات الميزانيات الباهظة. الكوميديا الدرامية “جولة أخرى” هي قصّة معلّمين أصدقاء هم مارتن وتومي وبيتر ونيكولاج يواجهون تحدّيات منتصف العمر، كالشعور بأن حياتهم أصبحت مُملّة وغير مناسبة للعصر الجديد؛ السريع، خصوصًا كونهم معلّمين في مدرسة.
الفيلم من إخراج توماس فينتربيرغ، سيناريو وإخراج لفينتربيرج وتوبياس ليندهولم وبطولة مادس ميكلسن وتوماس بو لارسن. وقد حاز الفيلم على جوائز عديدة، منها جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار لعام 2020.
تبدأ أحداثه بلقاء الزملاء لتناول العشاء، لتبدأ المجموعة بعدها بمناقشة أفكار الطبيب الفيزيائي “فين سكارديرود” الذي افترض أن نسبة الكحول في الدم BAC عند المستوى 0.050 تجعلك أكثر إبداعًا واسترخاءً. يقرّر مارتين- مدرّس التاريخ- أن يبدأ بتجربة هذه النظرية ثم يتبعه البقية. حدّد أعضاء المجموعة حُزمة من القواعد لهذه اللعبة.. مثلاً: يجب ألاّ يزيد مستوى تركيز الكحول في الدم لديهم عن 0.05، وألاً يشربوا الكحول بعد الساعة 8:00 مساءً.
بعد تطبيقها بدقّة؛ نجحت التجربة أول الأمر وتحوّلت حياة الأصدقاء إلى حياة أكثر نجاحًا وأكثر سعادة ومُتعة، ويعود مارتن إلى زوجته وأولاده بعد أن انتابه شعورًا بأنهم قد ابتعدوا عنه. استمرّت الأمور على هذا النحو، إلى أن يغيّر الأبطال المعادلة ويتخلّون عن الشرط الأول ويحاولون زيادة نسبة الكحول في الدم.
تبدأ الأزمة عندما تُقرّر المجموعة الإفراط في شرب الكحول لملاحظة استجابة أجسامهم وعقولهم. تقضي المجموعة ليلة مُمتعة، ولكن، بعد عودتهم إلى منازلهم في حالة سُكر شديد، يُواجه كلّ من مارتن ونيكولاج أسرهم ويتأزّم المشهد أكثر وتتعقّد خيوط الحكاية.
يكشف الفيلم “جولة أخرى” عن جولة أخرى في حياة الأبطال الذين يواجهون تحدّيات يواجهها الرجال عادةً مُنتصف العمر، جولة تمنحها الحياة لاستعادة بريقها ومُتعتها. تأتي هذه الجولة في خِضم انشغالات الحياة الروتينية اليومية كالعمل والعائلة والأطفال والدراسة، وضمن سعي الأبطال، وسعينا نحن المشاهدين، وراء النجاح المؤطّر ضمن معايير محدودة جدًا، وضمن انغماس في اختراع القرن وهو تحقيق الذات، وكأنّ “الذات” تحتاج إلى إعادة تعريف وتكوين.
يُعالج الفيلم قيم ومشاعر جميلة كالحبّ بأشكاله؛ الحبّ بين الأزواج؛ الحبّ بين الآباء وأولادهم؛ الحب بين المعلّمين وطُلاّبهم؛ وحتى الحبّ بين الإنسان والحيوان؛ الحبّ الذي ينعكس في الاهتمام بالآخر وتضميد جراحه والإصغاء إليه حتى عند صمته، الحبّ المستمر المتغلّب على أزمات الحياة.
إلى جانب موضوع الحبّ الذي يطرحه الفيلم بسلاسة وجمالية مفرطة، يستعرض أيضًا قضية العمر من خلال شِقّين مختلفين؛ الأول هو الشقّ الجميل الناضج الخبير الحكيم، الذي يعكس مسيرة أبطال الفيلم- بطولتهم هنا ليست بالضرورة ب التقليدي لبطولة الأفلام، بل إنهم أبطالٌ يشبهوننا في سيرورة الحياة العادية. والثاني؛ الشقّ القاسي والمُخيف من حيث علاقة الرجال أو حتى النساء في منتصف العمر مع الجيل الجديد.
أما موضوع شرب الكحول والإدمان، فهو أحد القضايا المركزية والجدية التي يُعالجها الفيلم، ويتناولها من عدّة جوانب مثيرة؛ الجانب الوطني المتعلّق بثقافة المشروب في الدنمارك والتي يقدّمها الفيلم على أنها ثقافة شعبية جدًا، ومن الناحية السياسية؛ يستعرض الفيلم خطابات لزعماء سياسيين من عالمنا وهم في حالة سُكر ، حيث نرى في إحدى المشاهد مارتن يتحدث عن وينستون تشرتشل- رئيس الحكومة البريطانية في الحرب العالمية الأولى والثانية- والذي أنقذ العالم من الفاشية لكنه قضى كثيرًا من الوقت وهو ثَمِل، بحسب مارتن. ومع صورة تشرتشل تظهر أيضًا العديد من صور زعماء دول وهم في حالة ثمالة على منصّات الخطابة المختلفة، والتي شهدت خطابات مهمّة لهؤلاء الزعماء منهم: ميركل وماكرون وكلنتون وغيرهم. وعلى الرغم من ضعف الحبكة بين السياسة وحالة الثمالة؛ إلاّ أن وجود هذه المشاهد المتكرّرة جعل منها مادة مهمّة للتفكير. كما يُصوّر الفيلم العلاقة العاطفية والنفسية بين الإنسان والكحول كعلاقة معقّدة وشائكة ومُبهمة تتعلّق بالفرد وتعاطيه مع نفسه ومع المحيط أيضًا.
إن سؤال المعيار الصحيح للكحول في النفس والجسد لم يُحسم في الفيلم، وربّما هذا ما قصده المخرج، وبحسب موقع ذا جارديان؛ إن هذا السؤال هو مجرّد فكرة استفزازية تُطرح للمجتمع وليس لكتابة سيناريو معقّد.
في النهاية فيلم “جولة أخرى” قصة عن رجولة ناضجة وحالمة ومتمرّدة على قالب الرجولة التقليدي المقولب بعيدًا عن البطولة والقوة، وأقرب إلى الهشاشة الطبيعية والرومانسية الرقيقة؛ قصة رجولة ترفض أن تُهزم في مخاض الحياة اليومية لتبقى تنبض في مراحلها المختلفة.
قام مخرج الفيلم فينتربيرغ بإهداء الفيلم لابنته إيدا التي كان من المفترض أن تلعب دور ابنة البطل لكنها توفيت في حادث سير قبل أيام من بداية التصوير، وقرر المخرج إدراج أبناء مدرستها للتمثيل في الفيلم كدلالة على التمسّك بالحياة رغم كل ما يحدث.. بما في ذلك الموت.