شتاء لشبونة وليل مدن أخرى

Flickr Lisbon Hills, 1969, Carlos Botelho

عبير اسبر

روائية سورية

في «الشتاء في لشبونة»، هناك مدن تمنحها البحار والأنهار غموضاُ والليل غربة، هناك سان سيباستيان، ومدريد وبرلين ولشبونة بالطبع، هناك لوحات رسمها فنانون مغمورون، ومقطوعات ألفها موسيقيون على شفا الموت، هناك ملاحقة لأمزجة موسيقية قد تندثرصدرت الرواية باللغة الإسبانية في العام 1987  للكاتب أنطونيو مونيوز مولينا: روائي وأكاديمي إسباني  ولد في العام ١٩٥٦. درس تاريخ الفن في جامعة غرناطة والصحافة في مدريد. ثم استقر في غرناطة  حيث  كتب لصحيفة إيديال الشهيرة. من أهم أعماله الروائية  "الشتاء في لشبونة" و"ألغاز مدريد" و"أمير الظلام" و"الفارس البولندي".

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

01/07/2021

تصوير: اسماء الغول

عبير اسبر

روائية سورية

عبير اسبر

وسينمائية. صدر لها رواية "سقوط حرّ" عام 2019، عن دار هاشيت أنطوان.

في «الشتاء في لشبونة» (دار هاشييت انطوان، ٢٠١٠، بترجمة ندى شديد زيادة) يقص راوٍ مجهول حكاية لا نعرف أبداً لمَ اؤتمن عليها، فتصله تفاصيل أكثر تعقيداً وتشابكاً من نظرة امرأة غريبة لرجل تعرفت عليه للتو، فأيقنت أنه سيكون حبيبها الذي ستخترع من أجله، ليس فقط مواعيد غرام في مدن بعيدة. بل حياة ملائمة لعاشقين هاربين. هذا ما فعلته لوكريثيا بطلة الرواية، حيث ما إن وقعت عيناها على سانتياغو بيرالبو عازف البيانو  في بار “الليدي بيرد” حتى علمت تماماً أن عليها لتتم حكايتها معه أن توزّع قصة حبهما وتنثرها في ليل مدن أخرى. علّها تهرب من واقع ليس فيه ما يُحَب، واقع يجعلها زوجة لرجل خطر وعشيقة لعازف بيانو ملهم ومخذول في آن. واقع سيحولها لهاربة من جريمة قتل، تحمل الصمت، والخوف ومسدس ضخم بتسع طلقات. 

في نص شاعري ولغة متأملة هادئة لا ينهي الراوي حكايته أبداً، فلا نحصل كقرّاء سوى على حكاية عن النقصان، عن الغياب واللقاءات المبتورة ونظرات إلى ساعة تعلن دائما عن انتهاء الوقت، كأن الوقت هنا يمثل عدواً خفياً يحمل ناقوسه ليذكرنا دوماً بالسعادة المسروقة للحظات من حياة عصية على الاكتمال، فتحمل تلك الثواني زخم الذاكرة كلها وتصبح قصتها المفضلة، فتعبأ السنوات القادمة بنتف مما حصل سابقاً في وقت مضى ولن يتكرر مجدداَ، فتشكل  تلك الذكريات المبعثرة “كولاج” من روائح وموسيقى ودخان سجائر وليل لا ينقضي، يتكلل دوماً بالانتظار وبكثير من الرسائل.

«الشتاء في لشبونة» رواية لاهثة بطريقتها الخاصة، حيث لا تمنحك عوالمها بسهولة، ولا تدخلك بأريحية في  تلاحق صفحاتها لترى هل سيلتقي الحبيبان أخيراً أم لا، فلا تُمنح كقارئ تلك التفاصيل المبهرة إلا إذا صبرتَ قليلا وتركت وعيك ليقوده راوٍ متمهل، ويخبركَ كيف وفي أيٍ من تلك المدن المنثورة فوق صفحات الرواية ستتحقق قصة الحب المستحيلة تلك. فتشعر بقصدية الكاتب ورغبته بجرّك إلى الأمكنة التي تحس بأنك لامستها مرة واستشعرتها ذاكرتك، فهل هناك ما هو أكثر إمتاعاً من حكاية كالأفلام. هذا ما يوحي به راوي العمل في إشارات دائمة لكون كل هذا لم يحصل أو ربما إن حصل، فهو ليس سوى استجابة لرغبة الفن بصنع حكاية لائقة عنه، فلا يبقى لنا إلا أن نصدق شغف الشخصيات بالسينما وإصرارهم على هندسة حيواتهم كما تهندس قصص الحب المستحيلة والجرائم الغامضة في أفلام الأبيض والأسود في أربعينيات القرن الماضي في مدن المتروبول الكبرى كبرلين ونيويورك حيث تصدح موسيقى الجاز في البارات العتيقة، بإضاءة مضبوطة ومؤثرات خاصة تقبع في خلفية الصورة، حيث هدير ريح ورذاذ أمطار وخيالات لأضواء الشوارع شبه الخالية، تغلّف بمونتاج يهتز دائما تحت وقع إحساس متواتر بالخطر، وحبكة يشد خيطها اللاضم حكاية عن رجل وامرأة وسرير كما اقترح غودار مرة، لكن هنا يأخذ السرير شكل مال مسروق، أو معلومة عن رجل مقتول، أو لوحة قيّمة مرمية في حانة بإسم لا يمكن أن يمنح شاعريته لأحد “بورما” حيث يقع ذاك البار الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بخرائط وجدت اعتباطاً. في الرواية تحتل لشبونة موقعاً لا يضاهى فهي المدينة الحلم، المدينة الأمل، المكان الذي نسج العاشقان حوله أساطيرهما الخاصة، فهناك سيكون كل شيء قابلاً للتحقيق، فبعد رحيلها الثاني، يلتحق بيرالبو بلوكريثيا آملاً ببداية مغايرة ولقاء أبدي، لكن بعد متاهات لا تنتهي وصدف لا تصدق يختبرها بيرالبو في شوراع لشبونة، حيث وصل باحثا عن حبيبته في زحمة وجوه وعناوين، لا يصل بيرالبو إلّا حيث  يكون أعدائه، فيرتكب هو الآخر متماهيا مع مصير عشيقته، جريمة قتل غير قصدية ستلاحقه كالذنب الكاثوليكي الذي لا يمكن محوه، فيعود بعد تلك التجربة رجلاً آخر آتياً من زمن مختلف، يسكن مدينة مختلفة. فيترك بيرالبو سان سيباستيان،  حاملا اسماً جديداً وعنواناً آخر، حيث ستأويه مدريد، وهناك سيلتقي براوي الحكاية مجهول الهوية، الذي يوقن عند رؤيتة لبيرالبو أن هناك الآن ما هو جدير بالرواية : “لاحظت أنه كان يوحي- بقوة – بطباع ترافق الذين يحملون قصة كمن يحملون مسدساً، لا أقوم هنا بمقاربة أدبية عبثية: إذ كان لديه قصة وكان يحمل مسدساً”.

كل هذه الزخم الروائي لم نكن لنلامس بهاءه لولا “لاحقيقيته”؛ لولا أوهامه وخيالات الليالي الحاضرة في مدنه، حيث لا نلتقي تلك المدن إلا في لياليها، في أزقتها المعتمة، وباراتها التي يقطنها السكارى، هناك في تلك اللحظات السحرية، على الخط الفاصل بين العوالم باختلافاتها، هناك حيث تختلط الحقيقة بالأوهام تحصل الحكاية. 

في «الشتاء في لشبونة»، هناك مدن تمنحها البحار والأنهار غموضاُ والليل غربة، هناك سان سيباستيان، ومدريد وبرلين ولشبونة بالطبع، هناك لوحات رسمها فنانون مغمورون، ومقطوعات ألفها موسيقيون على شفا الموت، هناك ملاحقة لأمزجة موسيقية قد تندثر، هناك خليط فاجع من أعراق تناحرت تاريخياً، هناك سودٌ وبيض، هناك الجاز وموسيقيٌ أسود يحمل بوقه ليحكي حكايا عتيقة، هناك طوابع لم تستعمل لرسائل كان يجب أن تصل في مواعيدها فلم تفعل، لأنها نُسيت في حقائب الأصدقاء، هناك الألحان التي كان يجب أن تؤلف كي لا تنقطع الحياة عن الرنين، وهناك بالطبع تأملات حول الفنون وديمومتها وتلك المقاربات المألوفة لماهية الأدب والتشكيل وجوهر الموسيقى. حيث في واحدة من تلك السكرات المشبعة بدخان السجائر ورشفات “البربون والجّن” يصرّح بيرالبو مرة أن: “الموسيقيّ يعرف أن الماضي غير موجود- قالها فجأة- كما لو أنه ينفي فكرة لم أعبّر عنها، أولئك الذين يرسمون أو يكتبون يمضون وقتهم في مراكمة الماضي على أكتافهم بالكلمات أو باللوحات. أما الموسيقيّ فهو دائما في الفراغ؛ تكفّ موسيقاه عن الوجود في اللحظة التي يتوقف فيها هو عن عزفها.. إنه الحاضر الصرف!”

لكن على عكس ما قال لا يعيش بيرالبو الحاضر أبداً، بل يعيد إنتاج ما عاشه مرة ويتمسك بقوة بلحظة جميلة في ماضيه، عندما التقى تلك المرأة التي سيعزف لأجلها، والتي انتظرت موسيقاه سنينها كلها لتمنح المعنى على يديها، تلك المرأة التي تفضي كل الطرقات إليها، وتكون كل الأغاني لها، وكل الأحلام إن تحققت فستكون معها. لوكريثيا هي رغبة غير متحققة لا تكف عن النباح في وعي بيرالبوا فلا يستطيع إخراسها، لا لأنه عاجز عن ذلك، لكن لأن تلك الضوضاء في وعيه هي النقطة الثابتة الوحيدة في حياته الطافية في غرف الفنادق التي يتشاركها مع الغرباء. 

صدرت الرواية باللغة الإسبانية في العام 1987  للكاتب أنطونيو مونيوز مولينا: روائي وأكاديمي إسباني  ولد في العام ١٩٥٦. درس تاريخ الفن في جامعة غرناطة والصحافة في مدريد. ثم استقر في غرناطة  حيث  كتب لصحيفة إيديال الشهيرة. من أهم أعماله الروائية «الشتاء في لشبونة» و«ألغاز مدريد» و«أمير الظلام» و«الفارس البولندي». حاز العديد من الجوائز أهمها جائزة أمير أستورياس في الأدب، جائزة دون كيخوتي للآداب، الجائزة الوطنية للرواية ،الجائزة بلانيتا للرواية ، الجائزة الإسبانية للنقد

الكاتب: عبير اسبر

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع