يعتقد هذا المقال أن الداخل الفلسطيني قد انتقل سياسيا إلى مرحلة أخرى وذلك أثر تغول المشروع الصهيوني واحتلاله المنطقة التي كانت تسمى قبل قانون القومية بـ “الهامش الديمقراطي”، وهي المنطقة “الليبرالية” ما بين المشروع الصهيوني (يهودية الدولة) وما بين الدولة اليهودية (ديمقراطيتها الإجرائية). في هذا السياق نستطيع أن نقول أن المشروع الصهيوني المؤسس للدولة اليهودية قاد الدولة حتى سنوات قليلة مضت، أصبحت بعدها الدولة اليهودية هي من تقود المشروع وتتوسع فيه تجسيدا لنجاح لم يتخيله منظرو الصهيونية ومؤسسوها. لقد تفوقت إسرائيل الدولة على المخطط الذي حمله المشروع الصهيوني المؤسس لها، وفاقت طموحاتها طموحه.
في نفس اللحظة تقريبا التي تقرر فيها الدولة التفوق على مشروعها المؤسس، يقرر فلسطينيو الـ 48 أيضا التفوق على أشكال من “نهجهم القديم”، ومحاولة “إبداع” أشكال أخرى من “نهج جديد”. في نفس المرحلة التي تصل الدولة فيها إلى قناعة أنها قادرة على حسم الصراع لصالحها المطلق، وعلى الدخول بخطوات جدية في اتجاه تصفية القضية الفلسطيني كقضية سياسية، يقرر فيها الفلسطينيون حسم معادلة “الموازنة” -الفضفاضة والإشكالية في عمقها- بين الوطن والمواطنة: يذهب منصور عباس (رئيس القائمة الموحدة التي قررت في سابقة سياسية الانضمام للائتلاف الحكومي في الدولة اليهودية) إلى المواطنة رامياً الهوية إلى الجحيم، ويعود خطاب هبة الكرامة إلى الوطن راميا المواطنة إلى الجحيم.
ينتقل الفلسطينيون في الداخل إلى أطراف المعادلة كرد على إغلاق الدولة الصهيونية “الهامش” المتاح بين “اليهودية” و”الديمقراطية”، لقد مثل هذا الهامش “إمكانية الصراع التدريجي من أجل المساواة، دون وهم المساواة الكاملة بسبب صهيونية الدولة، كما قال عزمي بشارة قبل حوالي عشرين عام. وفي الوقت الذي تصارعت فيه الأيديولوجيات في الداخل على فرز رئيسي بين من يرى إمكانية للتعايش مع الصهيونية ضمن التسوية النهائية (الحزب الشيوعي والجبهة) وبين من لا يرى إمكانية لذلك (التجمع)، اتفقت جميعها على إمكانية الحراك الفعلي ضمن هذا الهامش بين الصهيونية وبين الديمقراطية.
وفعلاً، حمل هذا الهامش إمكانيات لفعل سياسي استراتيجي حقيقي يهدد ويستأنف على جوهر الدولة وعلى طبيعتها ووظيفتها الصهيونية، مثل مشروع دولة المواطنين، كما حمل تحديات جدية مثل تصدي وحضور الحركة الإسلامية الشمالية للمخططات الإسرائيلية في الأقصى لسنوات طويلة. من جهة ثانية، حمل الهامش نفسه النقيض، أي إمكانيات وهمية للفعل السياسي تمثلت في المفهوم التقليدي للتعايش الذي ساد في التسعينات، والذي تجلى مؤخرا في فكرة المعسكر الديمقراطي 2017-2018 كائتلاف استراتيجي بين الجبهة وبين “اليسار” الصهيوني، والذي بشر به أيمن عودة رئيس قائمة الجبهة ورئيس المشتركة آنذاك. حاولت هذه الطروحات الأخيرة على خلاف الأولى “المصالحة” بين الهوية والمواطنة، لكنها عملياً أحدثت قطيعة بينهما، حيث احتكمت بالكامل إلى قواعد اللعبة الإسرائيلية، في عملية إقصاء للهوية عن أي تعبيرات سياسية.
في كلا الخيارين وصلنا إلى ما يشبه نهاية الطريق –ليس بمعنى نهاية التنظيمات الحزبية، بل بمعنى نهاية دورها السياسي كما عرفناه حتى الآن- قامت الدولة وقوى “الواقعية السياسية” بحصار التجمع وقامت الأولى بإخراج الحركة الإسلامية عن القانون، ومن جهة أخرى تكاد تكون توصية القائمة المشتركة (ائتلاف الأحزاب العربية الأربع في قائمة انتخابية واحدة) على غانتس (رئيس حزب أزرق-أبيض المرشح لتشكيل الحكومة الإسرائيلية حينها) 2019 -2020 الستار الأخير -الكلايمكس- المنسدل على نهاية عرض “الهويات المتصالحة”.
الخيارات الراديكالية كالواقعية السياسية الوحيدة
كان رد غانتس برفض التوصية من العرب، حيث هي ضعيفة الشرعية “الوطنية” في عين الجمهور الإسرائيلي، بمثابة إغلاق الباب على أطول رهان لفلسطينيي الداخل وأكثره “اعتدالا”: اليسار الصهيوني كمجال الفعل السياسي لنا.
بعد هذا التعاون بين يمين أغلق هامش الفعل السياسي ذا المعنى و”يسار” أغلق إمكانية الفعل السياسي الفاقد للمعنى، انتقل فلسطينيو الداخل من المراوحة في الوسط ومن الاحتفاء بالوسط إلى الاحتفاء بالأطراف: منصور عباس المتحالف مع مستوطنين يريد “أن يعطيهم فرصة”، في سابقة من انخراط كامل في التعاون مع المشروع الصهيوني. نستطيع اعتبار هذه السابقة عملية أخطر بكثير من توقيع مائير فلنر من الحزب الشيوعي على وثيقة استقلال الدولة العبرية، ضمن لحظة ممكن أن تفسر بالهزيمة والنكبة، أو ما يسميه حسن جبارين في مقال له بـ “اللحظة الهوبسيانسية”، وهي اللحظة التي “وافقنا فيها على المشاركة في الانتخابات الأولى للكنيست الإسرائيلي، وانخرطنا فورا في استعمال لغة الحقوق والواجبات والولاء لإسرائيل” . ويعتبرها جبارين تجسيدا لموافقتنا على المشاركة في الكنيست تحت ظروف استعمارية، بما في ذلك من خطورة متمثلة في موافقتنا على “الشروط السياسية المترتبة على انضمام مجموعة مهزومة لكيان سياسي جديد ومنتصر”. من جهة أخرى، تراكم “هبة الكرامة” كل منجزاتنا الوطنية وتكثفها ويذهب “خطاب الهبة” – وليس بالضرورة وعي كل من شارك فيها- في الالتحام بالبعد الوطني التحرري للقضية الفلسطينية وفي الاغتراب عن الدولة إلى أقصى مداه.
لقد التحمت في هبة الكرامة، أيار 2021، قضية الشيخ جراح بقضايا الأقصى والداخل وغزة، وخرج فيها الآلاف في أم الفحم والناصرة وحيفا وعشرات البلدات في الـ 48، وفعلت إسرائيل فيها أقصى وسائل عنفها على كل الجبهات الفلسطينية. لم تذهب الهبة بالمعادلة لوضوحها الأخلاقي فحسب، بل ذهب خطابها، بمعنى عملية إنتاج المعنى التي رافقتها، إلى وضوحه السياسي الكامل. لقد طرحت الهبة سردية محو الخط الأخضر كخط يشرذم القضية الفلسطينية: يشرذم المعاناة ويشرذم القضية ويشرذم النضال. وبدا هذا الخطاب منطقيا بل وحتميا مع ما تطرحه إسرائيل للقضية الفلسطينية: التصفية.
إن مناصري الاعتدال الذين كثيراً ما أحبوا دورهم في وصم أي أمر “مستفز” بالتطرف، لم يستطيعوا وصم هذا الخطاب بالمتطرف، رغم أن هبة الكرامة وعلى خلاف الانتفاضة الثانية مثلا، لم تكن فقط مواجهة ميدانية، بل كانت أيضا رؤية سياسية وسردية كاملة في الصراع وفي موقع الـ 48 فيه، رؤية لم تفصل بتاتاً بيننا وبين شعبنا ورفضت أن ترى في المواطنة حاجزاً أو عائقا تحت المسمى التبريري “الخصوصية”.
ضمن واقع لا يحمل سوى خيارات متطرفة، تصبح الراديكالية هي الخيار الواقعي الوحيد الممكن.
أما الخطاب الوسطي، الاعتدال، التعايش، الواقعية، المسؤولية…. إلخ… فنراه الآن صامتاً تماماً، مشلولاً، غير قادر حتى على أدنى تفاعل مع ما يجري، لا يقوى حتى على توجيه انتقاد لاذع لتحالف موحدة منصور عباس مع أعتى الحكومات الاستيطانية. لا حياة للوسط الفاقد للمشروع الواضح والرؤية التي تخرجه من رماديته ضمن أطراف واضحة الحضور.
هل فعلاً نعلن موت الخيارات السابقة جميعها، خيارات ما قبل الائتلاف مع الصهيونية أو الالتحام السياسي الكامل مع شعبنا (خطاب الهبة)؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ستكون المرحلة القادمة أقرب إلى الخيار الفلسطيني أم إلى الخيار الصهيوني، ومن سيحدد ذلك؟ أم أن الخيارات “القديمة” تنتظر موت الأطراف وتلاشيهم لكي تعود فتطرح نفسها؟
ماذا يريد “الشارع”؟
ليس من الغرابة أن التحليل السياسي في هذا المقال تتبع سلوك النخب السياسية وفعلها والآفاق السياسية التي تقدمها أو لا تقدمها، ولم يسأل مرة ماذا يريد “الناس”؟ أولئك الذين يتحولون إلى “شارع” له هوية رومانسية قوية الإرادة أثناء الانتفاضات والهبات، أو إلى معطيات مسلوبة الإرادة في الاستطلاعات.
إن زيادة وزن “الشارع” في السياسة، سواء كتعبير حقيقي عن ذات سياسية وازنة أو باستحضاره عبر الاستطلاعات بشكل مشوه لتبرير بعض المسلكيات السياسية، هي ظاهرة عالمية ليست بجديدة، لكنها جديدة نسبيا في الداخل الفلسطيني. قد نؤرخ لها بشكل فظ لكن غير بعيد عن الحقيقة، منذ إقامة المشتركة، فقد تحولت المشتركة من أحزاب أيديولوجية إلى “إرادة شعب”. ومن ثم اختصر مبرر وجود المشتركة ومشروعها برمته إلى الوحدة كمطلب شعبي. وكأن السياسة هي لا شيء غير مطلب الشارع، وكأن الوحدة أيضا هي رؤية ومضمون وبرنامج سياسي بحد ذاتها.
إن ضمور الأحزاب التقليدية وزيادة دور الأفراد كذوات فاعلة أو كمبادرات وحراكات محلية، أو ما يسمى بـ “نخب أقل، جمهور أكثر”، وضمور المشاريع الأيديولوجية الكبرى لصالح إصلاحات أو مطالبات أو مطالب تتعلق بحقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية أو البيئة أو غيرها، هي ظاهرة عالمية، لكن عدم موازنة المعادلة بين مطالب عدالة سياسية واجتماعية واقتصادية وحقوق إنسان أو مطالب إنهاء الأبارتهايد والاستعمار والاحتلال من جهة، وبين رؤية ومشروع استراتيجي يصيغ معالم ما نصبو إليه في النهاية، سيكون له وقع مختلف على الشعب الوحيد الذي ما زال يعاني من المشروع “العالمي الأكبر”: الاستعمار، والذي ما زال يواجه أحد أشرس القوى العالمية: “الصهيونية”.
بغض النظر، عن أسباب وتبعات تغير ميزان القوة بين الأفراد وما يسمى بـ “النخب”، أو تغير ميزان القوة بين ما يفرزه الشارع من مبادرات وحركات وبين الأطر السياسية التقليدية، فإن تغير هذه المعادلة تفرز معها أسئلتها وتحدياتها، ومن بين تلك التحديات والأسئلة ما يتعلق بميل الشعور العام بالمقترب إلى اللامبالاة تجاه فقدان الأطر السياسية الثابتة ومرجعيتها كأطر تمثيلية، وخلط ذلك مع حقيقة سقوط تك الأطر في امتحانات الواقع مرة تلو الأخرى. واللامبالاة الثانية هي تجاه تبعات سيولة الحراكات الميدانية الشبابية وتغيرها المستمر وعدم قدرتها على الثبات وافتقادها للموارد وتعلقها بمد وجزر “الأحداث المعنوية” إن صح التعبير. لقد أعطتنا هبة الكرامة نموذجاً من الطاقات الكامنة في فك أسر الشارع من سجن الأحزاب وتفكيرها وأدائها المتخلف عن الواقع، لكنها لم تجب على سؤال خطورة التسليم بشلل وانسحاب الأطر السياسية من الشارع، التي كان من المفترض ومن الممكن أن تشكل مرجعية وحاضنة وإسناداً لحراكات الشارع -نسمع مؤخراً مثلاً عن تفكك الحراك الفحماوي الذي شكل نموذجاً.
ما أردت قوله هو أن “خطاب الهبة” يخطئ عندما يحتفل بهذا الانسحاب والضعف للأطر السياسية التمثيلية، إذ يستحق الأداء الخطير للأحزاب في الداخل لجان تحقيق وليس احتفاء. وهو يخطئ لسببين: أولاً لأن ضعف البعد الوطني والجماهيري للأحزاب هو أحد الأسباب برأيي لعدم القدرة على استثمار القوة السياسية لتلك الحراكات وفعلها المواجه والتنظيمي، وثانياً لأن انسحاب الأطر التمثيلية تعني ترك الصراع “للشارع”، والشارع هو ليس فقط الحراكات والقوى الفاعلة التي ترى نفسها وكيلة تغيير، الشارع هو أيضا شوارع (قوى) أخرى.
فأين الناس الآن؟ ومن يتحدث باسمهم؟ ومن هو “الشارع”؟ هل هو “هبة الكرامة”، أم هو استطلاع “مدى الكرمل” الذي يقول أن الهبة لم تغير مواقف الناس حتى أنها لم تنجح في تغيير مزاجهم السياسي ولو بشكل مؤقت وانفعالي، وأن الشارع لا زال بعد الهبة كما كان قبلها منقسماً بنسب خطيرة بين من يؤيد الاندماج في إسرائيل 47% وبين من يؤيد التنظيم الذاتي للفلسطينيين 47%؟ من هو الشارع الحقيقي، هل هو الأغلبية التي تعرف نفسها بأنها فلسطينية أم هو نفس الأغلبية التي تربط مصيرها بالمواطنة وترفض أن تربط نفسها بالقضية الفلسطينية؟ وأي أغلبية تشكل المعنى السياسي الأكثر تأثيرا في النضال وفي تشكيل المستقبل: تلك التي تشعر بالانتماء للهوية الفلسطيني أم تلك التي تشعر بالانتماء للواقع الإسرائيلي؟
بين الانتماء للهوية والانتماء للواقع – في ضرورة إعادة تعريف معنى الوطنية
وأتعمد هنا استعمال كلمة انتماء للواقع الإسرائيلي، أي ما يناقض تعامل الإنسان مع واقع يعي أنه مفروض عليه. انعدام هذا الشعور بواقع مفروض، انعدام الخيال بإمكانيات أخرى لهذا الواقع، يسلب من الإنسان اغترابه، الأمر الذي غالبا ما يؤدي بعده إلى تطوير علاقة مصالحة مع الواقع، أي إلى علاقة تطبيع معه.
يعتقد هذا المقال أنه مع مرور الوقت بات من الصعب الاستمرار في التمييز التقليدي بين البعد الوجداني للهوية وبين بعدها “البراغماتي”، وذلك لأن البعد البراغماتي أصبح يبتعد عن مرحلة “صراع البقاء” والدفاع عن النفس التي ربط بها، وأصبح يرتبط أكثر بما يعتقد أنه “مكتسبات” اقتصادية واجتماعية تتعلق بجودة الحياة، ويعبر عن مصير فردي وليس جماعي. لقد أصبحت تلك “البراغماتية” التي بدأت كمؤقتة، عملية بنيوية طورت معها قيماً و”أخلاقاً” وحتى “وجدانيات” ملائمة لها، أدت إلى إضعاف وعي الصراع مع إسرائيل وإلى ما يشبه الانتماء الإسرائيلي.
بالتالي أصبح من الصعوبة بمكان قبول المقولة التي تفرز بشكل ديكوتومي بين هوية فلسطينية وممارسة إسرائيلية. فهل يمكن أصلاً فصل الهوية عن الممارسة؟ هل يمكن فصل الهوية عن الواقع؟ وبعد ذلك وضعها في خزانة أو براد لتتجمد وتصبح فلوكلوراً أو شعارات لا علاقة لها بالواقع ولا بالفعل ولا بالحياة اليومية ولا بفهمنا للحياة اليومية ولواقعنا؟ عزل الهوية عن الممارسة هي الوجه الآخر لعزل الوطني عن المدني واليومي، عزل الهوية عن الممارسة هي ما قد يجعل الأسرلة ممارسة وطنية.
وأعتقد أنه من الخطر وليس فقط من الخطأ الفصل بين انتماء هوياتي وجداني وبين ممارسة على الأرض، لأنه عادة ما يستعمل هذا الفصل للتقليل من أهمية ممارسات إشكالية، أو للتقليل من أهمية المركب السلوكي في حياتنا والذي له باعتقادي التأثير الأكبر على الحياة وفي الحياة. الإنسان في النهاية هو ما يفعل، أكثر كثيراً مما هو ما يفكر. وقد يكون التجمع في مشروعه وأدبياته هو الحزب الوحيد الذي ميز بين الواقع الإسرائيلي كاضطرار وبين الواقع الإسرائيلي كانتماء. لقد ميز التجمع بشكل واضح بين المساواة والاندماج، أي فصل بين مطلب مساواة حقوقي وبين اندماج يتعدى الحقوق الباردة ويطور علاقة تكسر العداء والاغتراب الضروريين لأي مشروع سياسي مناهض للصهيونية.
لا يريد هذا الادعاء أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن الهوية من حيث هي شعور أو موقعة لذاتنا الوجدانية في مواجهة آخرين هي أمر غير مهم أو هامشي أو ثانوي، إطلاقاً. هذه الهوية مهمة كطاقة أو كإمكانية قد تظهر وتطور ممارسة ملتحمة معها ومناقضة لتلك “البراغماتية المؤسرلة” عندما تشتعل الأمور أو تتغير قواعد اللعبة من مصادر خارجية عنها، لكنها لا تصلح أن تكون مصدر طاقة لفعل ذاتي وكقدرة ذاتية على تغيير الأمور بنفسها.
إسرائيل تقبل “الوطنية الفلسطينية ” كوجود هش في نقطة اختفاء
بهذا المعنى يكون المقال -للأسف- أقرب في تشخيصه للواقع إلى تلك التوجهات الإسرائيلية (مع الاحتفاظ بتحفظ المقال على الفصل بين مركب الشعور ومركب السلوك في الهوية) التي تراجعت عن خوفها من تمسك الداخل بـ “هويته” الفلسطينية اعتمادا على أن هذه الهوية لن تكون عائقا أمام ولاء الـ 48 للواقع الإسرائيلي ولشروطه.تلك الأبحاث لا ترى أي تناقض بين تطور هويتين (فلسطينية وإسرائيلية) بشكل متواز ومتصالح. ما يهم ويكفي إسرائيل هو الهوية الثانية كونها الحاسمة في عملية رفض الـ 48 تطوير خيال متحرر من المواطنة الاستعمارية. هذه المصالحة بين الهويتين هي ما يؤبد شروط “الوجود الهش” لفلسطينيي الـ 48، كونها مصالحة غير تحررية في جوهرها.
وقد فهمت إسرائيل ذلك، بالتالي نراها تتنازل تدريجيا عن إصرارها على خلق هوية عرب إسرائيلية، بمعنى على خلق مركب جديد اسمه “عرب إسرائيل”، واكتفائها بمعادلة “فلسطيني هناك، إسرائيلي هنا”. فما يهم إسرائيل في النهاية هو ليس ما تشعر به كفلسطيني، بل هو ما تفعله كإسرائيلي. بالتالي نرى عشرات الأوراق الاستراتيجية في السنوات العشر الأخيرة تتحدث عن الاعتراف بحقوق جماعية، ووصل الأمر ببعضها بالخروج بتوصية مفادها “الاعتراف بهوية فلسطينية شرط ضمان عدم الانخراط في النضال الفلسطيني”.
الصراع على المواطنة وليس داخلها
لكن كيف نقنع الناس مع ذلك بمبدأ الصراع ضد الصهيونية وهي بهذا التصالح مع “امتيازات” المواطنة وبهذا الارتباط بمكتسباتها؟ قد يكون الجواب هو أن نقوم بربط الصراع ضد الصهيونية بصراعنا على المواطنة كفكرة وكشرط لخروج المستعمر من حالته الاستعمارية.
إن تحويل الصراع داخل المواطنة إلى صراع على المواطنة، يميز بين المواطنة الاستعمارية الحالية وبين المواطنة كمشروع تحرري، يخفف من التعامل مع المواطنة الإسرائيلية في الداخل وكأنها فوق التوتر وفوق كل الحلول. كما أن ربط الصراع على الوطن مع الصراع على المواطنة هو ما يساعدنا في عدم وضع “الشارع” في خيار صعب بين الانتماء الفلسطيني وبين واقع مريح من المواطنة. سيكون أسهل لهذا “الشارع” أن يختار الفعل التحرري على الأرض إذا اطمأن أن ذلك لا يعني القفز فوق الإطار الذي يرتب ويضمن شؤونه اليومية. في النهاية من يضع الناس في خيارات صعبة هي النخب السياسية وطروحاتها المعاقة.
لقد بدأ التجمع بتطوير هذا المشروع الذي يضع المواطنة نفسها كقضية خاضعة للصراع وكقضية تتشكل من قبل المواطنين أكثر منها قضية دخول أو إقصاء في مواطنة قائمة ومنتهية. إن ما نحتاجه اليوم هو تعميق هذه الرؤية التحررية لمشروع المواطنة، وتعميق جانبها المناهض للصهيونية والمناهض أيضا للتفسير الليبرالي الذي أُعطي لمشروع التجمع من قبل بعض الفلسطينيين بقصد أو بغير قصد.
بين الانتظار وبين وثيقة حيفا-فلسطين 2021
في النهاية علينا أن نقول أنه لا تبدو أي من القوى السياسية -ولا التجمع الذي اعتبر من قيادته- سائرة ضمن تطوير هذا الخيار الاستراتيجي للداخل: مناهضة المواطنة الإسرائيلية كمواطنة استعمارية ضمن طرح رؤية لوطنية تعني التحرر ولمواطنة تحررية ترتبط مصيرنا بمصير شعبنا. برأيي هذا هو الكنز الاستراتيجي لموقعنا الحالي في الداخل. لكن لا يبدو الشارع الفلسطيني في الـ 48 كما قلت، منشغلا في صراع أيديولوجي، بل تبدو الأحزاب أقرب إلى حالة انتظار فشل نهج منصور عباس لكي نعود إلى اللعبة القديمة ذاتها التي أوصلتنا لهذا الواقع المأزوم، وعلى الأغلب سيتركز كل مجهودنا الآن على سيناريوهات خفض نسبة الحسم والترتيبات الإدارية المترتبة على ذلك. نحترف كأحزاب في الداخل منذ مدة ممارسة “السياسة بلا سياسة”.
في المقابل تجسد بعض الحراكات الشبابية مفهوما عصريا للتحرر وللعدالة وللتنظيم وللمبادرة الذاتية، لكنها من جهة ثانية تهمل الأبعاد الأكثر جامعة للعمل وللحوار، وتدخل هي الأخرى برأيي في مصيدة الاستخفاف بتشكيل مرجعيات عامة وأطر تمثيلية وطرح رؤية لمشروع استراتيجي جامع. هذا يعني أننا نفتقد أيضا لعملية تفكير استراتيجي يخطط لما بعد سقوط نهج “الصهيونية كإمكانية وطنية” والذي مثله منصور عباس ونفتقد للانشغال بسؤال إصلاح الدمار الأخلاقي الذي خلقه هذا النهج وما زال حتى لو فشل سياسيا. هذا الشلل وشبه الصمت السياسي سيعني أن نهج منصور عباس لن يدرك كنهج ساقط حتى عند سقوطه الفعلي.
في تلك الحالة لغياب فعل سياسي قيادي موجه علينا على الأقل تطوير نقاش وطني بين “الفئات القلقة” -وهي موجودة داخل الأحزاب وخارجها- يطمح إلى بلورة رؤية جامعة. لن تبادر المتابعة إلى ذلك، فالجبهة غير معنية وترى في ذلك “تهديدا” لوصايتها وهيمنتها، ورئاسة المتابعة لا تخرج عن طوع الجبهة، ناهيك الآن إلى دخول الجميع في حسابات “نسبة الحسم”، تلك اللعبة القاتلة التي جسدت تجربة المشتركة خطورة الدخول فيها دون رؤية سياسية جامعة. بالتالي قد تقع مسؤولية هذا النقاش الآن على المؤسسات الثقافية والبحثية.
نحن نحتاج إلى ما يشبه وثيقة حيفا 2021، كمراجعة في واقع عنيف التغيير لوثيقة حيفا 2007 التي صاغت لأول مرة رؤية فلسطينية جامعة من منظور فلسطينيي الـ 48. لكنها هذه المرة ستكون وثيقة حيفا-القدس-غزة، ستكون وثيقة فلسطين 2021.
نحن بحاجة لصوت جماعي يؤكد على أن “مواطنتنا” مهما حملت من “وطنية” و”انتماء” فإن ما تستوعبه في هذه المرحلة تحديدا من عملية انفصال سياسي عن مصير شعبنا الفلسطيني، سيكون بالضرورة مؤشرا على عملية مصالحة و”انتماء” لواقع استعماري. نحن بحاجة في هذه المرحلة تحديدا، ليس فقط ألا يخرج مفهوم “الوطنية” من قائمة المفاهيم الضرورية لفهم الواقع ولتغييره، بل نحن نحتاج وبالذات الآن في مواجهة وضوح البعد الاستعماري للدولة اليهودية وذهابه إلى التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية، وفي مواجهة تغير وتغول مفهوم الوطنية الإسرائيلية ذاتها، إلى عصرنة مفهوم “الوطنية”. وفي استقراض لجملة قيلت في سياق آخر تماما،: “حتى لو كانوا سيحتفظون بالجذور فسيعوق نموهم ولن يحملوا أي ثمار”، ما فائدة هذه الوطنية التي تتحدث عن جذور دون ثمار لنمو ولتحرر حقيقي؟
ما كان يعتبر في الـ 48 وطنيا خلال النكبة وتحت الحكم العسكري لا يستطيع أن يعتبر وطنيا بعد أوسلو أو بعد قانون القومية. على “الوطنية” ألا تتحمل أن تكون غطاء ” لوجود هش في نقطة الاختفاء، وجود لا هو حاضر تماما ولا هو غائب كليا”. لم يعد الداخل إذا ما أراد الدفاع عن وجوده السياسي أن يتسامح مع أي تعريف سياسي للوطنية لا يصلح أن يحدد مشروعا واضحا في محاربة الصهيونية وفي الارتباط بمصير شعبنا الفلسطيني. بهذا المعنى يكون مفهوم التحرر توضيحا لمعنى الوطنية وليس اجتهادا فيه، وبهذا المعنى أيضا يكون خطاب التحرر لهبة الكرامة ولأجيال فلسطينية تعيد رسم نضالنا وقضيتنا، انقلابا ليس فقط على الصهيونية بل أيضا على قصر “الوطنية” على عملية التشبث في الأرض. أن الوطنية اليوم هي تحرر الإنسان التي فقط من خلالها نستطيع أن نفهم حرية الوطن.