يمكن، في برمجة أي مهرجان سينمائي (ولنخصّ حديثنا بالمهرجانات العربية)، الاطلاع على الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الآتية منها الأفلام المشارِكة، وبتحديدٍ أكثر أقول: حالتها اليوم، في السنوات الأخيرة، إذ لا تكون الأفلام قديمة. هنالك دائماً انتقائية طبيعية في الاختيار، تتعلق بتوافق الأعمال المقدَّمة مع معايير المهرجان في الجودة والمضمون والثيمة والأسلوب. لكن، تبقى الأفلام نافذةً واسعة و”موثوقة” للدخول إلى إدراكٍ (أوّلي في حدوده الدنيا) لحال مجتمعاتنا العربية.
في برمجة “مهرجان عمّان السينمائي الدولي”، هذه الأيام، نلمس ذلك بوضوح لا يلغي التنوّع في المواضيع. يمكن أن نلاحظ، مثلاً، مسألتين متناقضتين، ولهذا التناقض ما يدعو للالتفات: الأفلام المتناولة للثورات العربية وتبعاتها قلّت، الأفلام ذاتها ماتزال حاضرة. أمّا لماذا قلّت فلذلك أسبابٌ سياقية، تخص -بكل بساطة- حالَ ما بعد الثورات والإنهاك الذي عاشه المُشاهد (مُشاهد التلفزيون وكذلك السينما) في السنوات العشر الأخيرة، فكان متوقَّعاً ابتعاد صانعي أفلام عن الموضوع الذي شغل الكثيرين منهم في السنوات العشر الأخيرة. أمّا لماذا ماتزال حاضرة، فذلك لأسباب تخصّ شدّة تأثيرها في زمانها، وبالتالي امتداد هذه الشدة إلى تبعاتها، وهو ما يعيشه النّاس، من بلدان هذه الثورات وفي بلدان اللجوء. اليوم، نجد ذلك في المهرجان في أفلام منها «الرجل الذي باع ظهره» و«أرض جيفار» و«فقط البحر بيننا» وغيرها. هي أفلام ما بعد الثورات، وهو حال كارثي بغض النظر عن أسبابه، مباشرة وغير مباشرة.
بذلك، تقدّم هذه الأفلام (باختصار كثيف، فلسنا أمام بحوث سوسيولوجية موسَّعة) الحال العربي بعد عقد الثورات، وهي أفلام صدرت أخيراً، صُنعَت إذن في النصف الثاني من العقد، النصف الذي بدأت فيه ملامح الكارثة الراهنة بالتشكل.
مقابل ذلك كله (والحديث دائماً عن الأفلام العربية)، كانت موضوعات اجتماعية شديدة المحلّية والفردية، وبشكل فاق حضور الأفلام المتناولة لموضوعنا أعلاه، حاضرةً في سياقها المحلي، مضيفةً تنوّعاً على ما درجت عليه الأفلام (الوثائقية تحديداً) في العقد الأخير، نجد أفلاماً منها «جزائرهم» من الجزائر، «نزال آخر» من المغرب، «مقرونة عربي» من تونس، «القصة الخامسة» من العراق، «حمام سخن» من مصر، و«غزة مونامور» و«٢٠٠ متر» من فلسطين، وغيرها مما لم يكن فيها لا للموضوع الرئيسي في أفلام العقد الأخير، ولا لتبعاته، أثراً أوّلياً أو حتى ثانوياً.
إطلالة سريعة على برمجة هذه الدورة من المهرجان، تكفي لإدراك الانعطافة في منحى المواضيع في الأفلام العربية (روائية ووثائقية)، و”عودة” السينما إلى “محلياتها” التي تأجّلت خلال سنوات الثورات. أمّا السبب (الاجتماعي/السياسي/الاقتصادي/الثقافي) في انحسار الثورات ومواضيعها في السينما العربية أخيراً، فذلك، موَسَّعاً، مبحَثٌ آخر.