محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون… هل يُعقَل أن المخابرات يزوِّرون بطاقاتهم كما نفعل نحن؟!

Pavel Filonov, Animals, 1930

فرج بيرقدار

شاعر سوري

حسمت الأمر في داخلي واعتبرتها تمثيلية. لا شك أن الفضيحة سترافقني طوال حياتي لو نجحوا في إيهامي، فإن لم يكن الأمر إيهاماً فليثبت لي المتحدث أنه رئيس الفرع. قلت:

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

01/10/2021

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

لو لم يكونوا شرطة، فما الذي يجعلهم يدقون الباب ويعرّفون عن أنفسهم؟

أياً كانوا فإن فتح الباب طوعاً أسلم أو أقل سوءاً من أن يفتحوه عنوة.

دخل خمسة أو ستة أشخاص، وراح أحدهم بفتش في الخزانة وبين الثياب المعلقة وراء الباب، ثم قال لي: واضح أن الإخبارية كاذبة، وربما كيدية، ولكن أنا مضطر أن أقول لكما يجب أن تتفضّلا معنا، ليراكما رئيس المخفر، ويعرف أن صاحب التقرير واحد سافل، وأنا أتعهّد بأن أعيدكما إلى هنا بنفسي.

لا أدري لماذا منذ البداية راودني الشك في أنهم مخابرات وليسوا شرطة. لطف حديث الرجل الذي يبدو لي أنه رئيسهم عزَّز شكّي، إضافة إلى أن الشرطة تستخدم كلمة “إخبارية” في حين أن المتداول لدى المخابرات كلمة “تقرير”، وهذا الرجل استخدم الكلمتين في سياق حديثه. بالطبع ثمة ما يريب، غير أن همي كان منصباً على محاولة إطالة الزمن لعلي أرسو على خطة هرب فور خروجنا. كان المذياع شغّالاً وقد صادف أن انطلقت منه أغنية لفيروز فرحت أدندن معها كما لو أن لا شيء يحدث. 

طلب مني الرجل، بلطف مبالغ فيه، إبراز بطاقة هويتي، فقلت إن عليه أن يبرز بطاقته أولاً. لم يتردد في إبرازها، وقد كان واضحاً فيها أنه مساعد أول في الشرطة.

هل يُعقَل أن المخابرات يزوِّرون بطاقاتهم كما نفعل نحن؟!

أبرزت له بطاقتي التي تشير إلى أني من ملاك مكتب الأمن القومي.

مدَّ يده ليتناولها، فرفعتُ له يدي إشارة إلى أن ذلك غير ممكن.

بالطبع لن أذهب معهم إلى المخفر في حال كانوا شرطة كما يدّعون، ولكني أيضاً لن أوحي لهم بأي ارتياب أو قلق لدي. 

يمكن لي عند الباب الخارجي أن أندفع راكضاً إلى اليمين بضعة أمتار، ثم إلى اليمين بضعة أمتار أخرى، أنعطف بعدها في زقاق إلى اليسار، وأغيب في زواريب المخيم القريبة من حيّ التضامن. 

أعرف أنهم سيطلقون النار عليّ، ولكن قِصَر الانعطافات يجعل احتمال النجاة ليس قليلاً.

ونحن خارجون من البيت أمسك بي اثنان، وفَتَح ثالثٌ الباب، لأجد نفسي في مواجهة سيارة بيجو ستيشن مفتوحة أبوابها على نحو يسدّ احتمالات مغامرة الهرب. 

كانت السيارات والشرطة العسكرية تسدّ مداخل الحيّ من ثلاث جهاته، حيث البيت هو الجهة الرابعة، وكانت الأسطحة مدججة بالمسلحين.

إذن لقد وقع الفأس في الرأس..

ما الذي يمكنني فعله الآن؟

ما هي الأمور الأكثر خطورة ولا بدّ أن يركّزوا عليها في الساعات الأولى، وكيف أتلافى الخسائر أو أجعلها أقل ما يمكن؟

هل ستتاح لي في الطريق فرصة أن أفتح باب السيارة وأدفع أحدهم، ثم ألقي بنفسي وراءه؟ 

فإن لم أستطع، فلا بد لاعتقالي في هذا البيت أن يوفِّر عليّ الاعتراف عن مكان سكني الحقيقي.

في السيارة همست لخولة: أنا مقيم معك في هذا البيت منذ ثلاثة شهور.

وجاءني أحدهم بمسدسه في خاصرتي: ولا كلمة.. ولا حرف. فالها بنبر إنذاري لا يقبل مماطلة ولا تأويلاً، فاستسلمت للصمت والعودة للتفكير بفرصة سانحة للهرب.

كان هناك سيارة تتقدمنا وسيارة خلفنا، وحين اقتربنا من المنطقة الأمنية في البرامكة أطلقوا زمامير السيارات ابتهاجاً، إلى أن وصلنا الباب الخارجي لفرع فلسطين حيث استقبلتنا أصوات الرصاص رشاً ودراكاً.

لا شك أنهم يحتفلون باصطيادي أخيراً.

ينظرون إلي كما لو أنني قادم من كوكب آخر. البهجة في أصواتهم وعلى وجوههم وهم يطلقون ترحيباتهم الساخرة وتعليقاتهم المشحونة باللؤم والشماتة.

أخذوا مني الساعة والزنار وربّاطات الحذاء ومبلغاً صغيراً من المال، ثم أدخلوني إلى إحدى الغرف وبدؤوا أسئلتهم عن اسمي الحقيقي وعن بيت اجتماعات قيادة الحزب ومكان إقامتي الفعلية وبيت الاعتراف وأقرب موعد لي مع الحزب. 

أسئلتهم أكثر خبرة وأكثر تحديداً مما تعرضت له في اعتقالي الأول لدى المخابرات الجوية، واعتقالي الثاني لدى مخابرات أمن الدولة.

كنت مصراً على ألَّا أقول أي شيء إلا بحضور رئيس الفرع.

غابوا قليلاً ثم عادوا ليقولوا: شرِّف.. لقد لبَّى رئيس الفرع طلبك وحضر بنفسه.

– شو في يا ابني.. قالوا لي إنك طلبتني.

يبدو أن كلامه موجّه إلي، وأنا معصوب العينين، فكيف أعرف إن كان المتحدث هو رئيس الفرع حقاً أم أنها تمثيلية؟ 

حسمت الأمر في داخلي واعتبرتها تمثيلية. لا شك أن الفضيحة سترافقني طوال حياتي لو نجحوا في إيهامي، فإن لم يكن الأمر إيهاماً فليثبت لي المتحدث أنه رئيس الفرع. قلت:

– أنا لم أطلبك.

– كيف.. ألم تقولوا لي إنه يطلبني؟

– نعم سيدي.. هو قال إنه لن يتحدث إلا بحضورك.

– أنا طلبت رئيس الفرع ولم أطلبك أنت.

– وكيف تعرف أنني لست هو وأنت معصوب العينين؟

– من صوتك.

– وما به صوتي؟

– يبدو مهزوزاً ومتردداً لا يدلُّ على ثقة بالنفس، كما يوحي أن صاحبه أصغر عمراً من العمر المفترَض لرئيس الفرع.

صاح أحدهم: يكفي أبو العبد.. لم تنجح لعبتك. روحوا خبِّروا المعلِّم.

عاد الصفع والركل واللكمات، وعادت الأسئلة عن اسمي الحقيقي وموقعي التنظيمي وأين أقيم.

– نحن نعرف اسمك الحقيقي وموقعك الحزبي، ولكننا نريد أن نسمعهما منك أنت. من تمّك أجمل يا أكحل.

وضع أحدهم ما يشبه العصا في مؤخرتي وراح يضغط قائلاً: لسّه ما شفت شي.. هادا أول المشوار يا محروق دينك. وهلَّق بس يجي رئيس الفرع منبلِّش حفلة الشوي.

كنت عائماً على زئبق الاحتمالات، حزيناً أكثر مني خائفاً من الموت. كنت كمن ينتظر قدره ويأمل أن لا يكون التعذيب أقوى من طاقته على التحمُّل.

كما لو أني محاط بأشداق مفتوحة على آخرها، وآثار دم وبقايا لحم على أنيابها.

أجَلْ أجَلْ.. كما لو أني أجذِّف في أعماق ظلمات الموت على أمل ضربة برق خاطفة تحقِّق مستحيلاً.  

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع