في السادس من هذا الشهر، انطلقت فعاليات مهرجان “البحر الأحمر السينمائي الدولي” الذي يقام في مدينة جدّة السعودية. لست واثقة من تسمية الأفلام الفلسطينية المعروضة خلال المهرجان بأنّها “ممثلة” لفلسطين، لكنها مشاركة فيه؛ وهي: “صالون هدى” روائي طويل لهاني أبو أسعد، “عَ البحر” روائي قصير لوسام الجعفري، “ضيف من ذهب” روائي قصير لسعيد زاغة، “استعادة” تسجيلي طويل لرشيد مشهراوي، والفيلم المُتبنى فلسطينيًا لتمثيلنا في الأوسكار، “الغريب” روائي طويل للمخرج أمير فخر الدين ابن الجولان السوري المحتل. أضيف إليها فيلم “أميرة” روائي طويل للمخرج المصري محمد دياب صاحب المشاركة الفلسطينية في إنتاجه، والذي يثير محتواه زوبعة في فلسطين تصل حد المطالبة بوقف عرضه.
تخلق هذه المشاركة الفلسطينية -جنسيةً أو مضمونًا- بعض البلبلة لديّ شخصيًا بسبب تكدّس التناقضات، أولها في التناقض ما بين الفن الملتزم بقضية شعبه، كتّاب سيناريو ومخرجون يسعون منذ سنوات طويلة لإعلاء شأن قضيتنا وإيصالها للعالم من خلال المهرجانات وشاشات السينما، وما يترتب على ذلك من لقاءات مع فنانين عالميين وصحافيين، ومحاولات لتوسيع دائرة التضامن وإعلان مواقف مناهضة للاحتلال وسياساته على الأرض؛ والواقع السياسي الذي نجتهد فيه كي لا تنصهر القضية في حاوية التطبيع، وبين حلولنا “ضيوفًا” على مهرجان سينمائي عربي حاملين قصص الولاء للوطن، والاستيطان، والاحتلال، والأسرى، تستضيفه السعودية التي تعترف قيادتها الجديدة بـ “حق” اليهود في بناء دولة على أرض فلسطين التاريخية إلى جانب الدولة الفلسطينية بمعزل عن الصراع القومي الدامي الذي ندفع ثمنه يوميًا! ذات الصراع الذي ولدت هذه الأفلام فيه وبسببه.
وفي تناقض آخر، تقدم أفلام فلسطينية عرضها الأول في بلد حاربت وجود السينما على أرضها لمدة زادت عن ثلاثين عامًا! وضمن مهرجان سعى للاستحواذ على المشهد السينمائي العربي من خلال رصد أموال طائلة لشراء حقوق عرض لا تَقدر على مجاراتها مهرجانات عربية أخرى وعلى رأسها مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” الذي حُرم من الحصول على حقوق عرض عدد من الأفلام لأنه لا يملك من القدرة المادية ما يتيح له مُجاراة مهرجان “البحر الأحمر”! ليس هذا عادلًا لا سينمائيًا ولا فنيًا، إنما استقواء فيه من القدرة على تطويع السينما العربية وتقييد محتواها وتخطيط مسارها مستقبلًا، وتجارة لأن السينما تحتاج المال، والجانب المُضيف يملك الكثير منه! لكن هل تتفق التجارة والنضال ونحن خير من شهد كيف يميع النضال بوجود المال!
قامت السعودية بإغلاق دور السينما منذ مطلع الثمانينات كجزء من حملة تقييدات مجتمعية وجندرية، وعاد نقاش فتح دور العرض مع مطلع سنوات الألفين عندما استضافت نوادٍ خاصة في المملكة وعدد من سفارات الدول الغربية عروض أفلام، وراجت السياحة السينمائية في الدول المجاورة التي شغّلت دور عرض واستقطبت الجمهور السعودي، كل هذا أتى مصاحبًا لتناقض داخلي مثير إذ تعود ملكية اثنتين من أبرز القنوات الفضائية التي تقدم الأفلام العربية والأجنبية لأموال سعودية وهي “روتانا” ومجموعة MBC! فكيف يُتاح للعرب والعالم ما يُمنع عن مواطني المملكة؟! وكيف ارتبطت إعادة فتح دور العرض مع مخطط الإصلاحات الاقتصادية العصرية لمحمد بن سلمان؟
في السنوات الأخيرة يشهد الإنتاج السينمائي الفلسطيني الكثير من التحديات، فنحن نفتقر للدعم، لا صناديق تمولها الحكومة ولا الجمهور، لا صناديق إنتاج بأموال فلسطينية خاصّة وخالصة؛ وإن وجدت هذه، فهي شحيحة بحيث لا تكفي لإنتاج فيلم روائي قصير. يُضاف إلى هذا تحدي الحصول على التمويل الأجنبي؛ وإلى جانبه معضلة عصيّة على الحل تتمثّل في صعوبة الإنتاج لدى السينمائيين من حملة جنسية الاحتلال وما يترتب عليهم من تقديم تنازلات خلال سيرورة الكتابة مرورًا بالمقاطعة الثقافية من قبل الدول العربية. أما على صعيد المضمون، فإن الأزمة السورية وما توّلد عنها من أزمة لجوء وانتهاكات لحقوق الإنسان باتت محط أنظار الممولين الأجانب وحتى صنّاع السينما منهم، الأمر الذي يشيح النظر عن القضية الفلسطينية التي كانت أكثر مركزية في الشرق الأوسط. ليس في هذا دعوة لتحييد المأساة الإنسانية السورية عن الشاشة لكن “لا يحرث الأرض إلا ثيرانها” وعلى صنّاع السينما الفلسطينيين زيادة الحرص على سبل إنتاج أفلامهم ومضامينها كي لا تتبعثر الرواية الفلسطينية وسط كل التغييرات الإقليمية التي تصاحب بمآسٍ تجتذب العدسات.
مع كل ما سبق، يتأرجح موقفي الناقد ما بين العتب والألم. فالسينمائيون حديثو العهد كسعيد زاغة ووسام الجعفري جديرون بالوصول الى مهرجانات عربيّة ونيل فرصة. لم أحظ بمشاهدة فيلم “ع البحر” لوسام الجعفري، لكن فيلم سعيد زاغة “ضيف من ذهب” فيلم جميل يتحدث عن الاستيطان، واستباحة البيوت والحرمات الفلسطينية المرتهنة لولدنات المحتلين، قصة تقدّم بقالب كوميدي ساخر يجعل طرح القضية أكثر ألمًا، لكن السؤال هو: هل تأبه إدارة المهرجان السعودي لهذا المحتوى، أم أن اختياره جاء نتيجة لجماليته السينمائية؟!
أما العتب الأكبر فيقع على المخرج الفلسطيني العالمي هاني أبو أسعد، وطاقم فيلمه، لعدّة أسباب أستهلها بافتتاح عروض الفيلم في هذا المهرجان دون غيره، وأتبعها بالتفكير في طاقم الفيلم الذي يحضر فعاليات المهرجان، وبينهم من يتحلّون بالجرأة للحديث ومعارضة انتهاكات حقوق الإنسان في بيئتهم -سواء في الداخل المحتل أو في الضفة الغربية- لكن هل تسعفهم ذات الجرأة لإعلاء صوت مناهض لقتل الأشقاء في اليمن من على منصة المهرجان أو خلال مقابلاتهم الصحفية؟
إن المشاركة الفلسطينية في مهرجان “البحر الأحمر” لا يمكن ألا تكون محل نقد. فالتماهي مع المظلومين لا يتجزأ، ومناهضة الاضطهاد ليست مرتبطة بالجغرافيا، والوطن ليس رهينة خطوط حمراء فاصلة رسمها المستعمر، والأهم… ورسالة الفن القيّم لا تكتب بالماء فتتبخّر مع أول هبوب لريح حارّة تأتينا من الصحراء.