عرّفَ أرسطو الزمنَ بأنهُ «مقدار الحركة لجهة المُتقدّمِ أو المُتأخّر»، أي أنّهُ أخرجهُ من مفهومٍ تجريديّ قائمٍ بذاتِهِ، إلى مفهومٍ ماديٍّ قابلٍ للقياس، لكنّ قابليّتهُ للقياس تنبعُ من الإدراك الشخصيّ، أي أنّ الزمنَ لا يُمكنُ أن يقيسَ نفسهُ بنفسِه. إنّما يقومُ العقلُ بهذه المهمّة استنادًا إلى الحواس والوعي والإدراك التي من خلالها نستطيعُ الانتباهَ إلى تقدُّمِ أو تأخرِ الأشياء.
سلّطَ محمود درويش الضوءَ في مقالتهِ «الزمن الأجوف» المنشورة في جريدة اليوم السابع بتاريخ ٢٩/٦/١٩٨٧ على سؤالٍ طرحتهُ جريدة «حداشوت» اليومية الإسرائيلية، التي كانت تصدرُ بين أعوام ١٩٨٤ – ١٩٩٣ على خمسةِ مفكّرين وفلاسفة إسرائيليين في سياقٍ تأمليّ، تزامنًا مع ذكرى مرور عشرين عامًا على حربِ حزيران ١٩٦٧. وكانَ سؤالُ الصحيفةِ آنذاك: لمصلحةِ من يعملُ الزمن؟
وبمعزلٍ عمّا يُذكّرُنا بهِ مقالُ محمود درويش من القصور الذي نعانيهِ حاليًا في الاطّلاع عمّا يدورُ في صحافةِ الاحتلال، ويعكسُ، بصورةٍ ما، ما يُفكّرُ بهِ المجتمعُ الإسرائيليّ، فإنّ من المفيدِ استعادة بعضِ الإجابات التي تلقّتها الصحيفة، واستخدام السؤال نفسه إزاء وضعنا الرّاهن، وتوسيع زاويةِ النظرِ، بحيثُ يصحُّ أن يطرحَ مواطنو الرّبيع العربي وأنصارهُ السؤال ذاتهُ على أنفسهم: لمصلحةِ من يعمل الزمن؟!
يتساءلُ درويش في بدايةِ مقالته: «هل تبلورَ مفهومُ الزمنِ في مجتمعٍ يطردُ من وعيهِ الخرافيّ ضرورة الاعترافِ بأنّهُ مجتمعُ احتلال؟ وهل تقاطعَ مفهومُ الزمن الموظّف لدى المُحتلّ، مع زمنِ الصراع لدى الواقعين تحت الاحتلال؟ وهل تتلاقى النظرةُ الإسرائيليّةُ الخائفةُ من الزمن، أو المُطمئنّةُ إليه، مع النظرةِ العربيّة المُطمئنّةُ إلى الزمن، أو الخائفة منه؟»
لا غرابةَ في أن يرى الواقفون على مُرتفعِ الخرابِ مُنتشينَ بانتصاراتهم أنّ الزمنَ يعملُ في صالحهم. ليس من المنطقيّ أن يروا غير ذلك، لا سيّما إذا كانوا يُدركون جيّدًا، وإن في قرارتهم، أنّهم يأخذونَ ما ليسَ لهم. أولئكَ ينطلقونَ دائمًا من فكرةِ الرّاهنِ في الزمن، فبالرّاهنِ، بالنسبةِ لهم، يُمكنُ القبضُ على المُستقبل، الذي يُصبحُ مع مرورِ الأيام أبدًا لا ينتهي. ذلك من صلافةِ الانتصارات وخيلاء المنتصرين.
ولأنّ هذه الصلافة واجبة في كلّ أنظمةِ الغطرسة، فمن غير المُمكنِ السماحُ بتزعزع قناعة السيطرة على المستقبل انطلاقًا من لحظة الانتصارِ الراهنة، فقد أقالت غولدا مئير موشيه ديان عقب حرب أكتوبر ١٩٧٣ بعد تحميلهِ مسؤولية الخسائر التي تكبّدتها دولة الاحتلال، إذ لا مكانَ لمن يُمكنُ أن يشكّ بقدرة السيطرة على الغد.
تستحقُّ بعض الإجابات التي تلقّتها الصحيفة الإسرائيلية التوقّفَ عندها، فالشاعرة «داليا رابيكوفيتش» مثلًا لم تكن تشكُّ في قدرة التحكمِ بالغد فحسب، بل كانت متيقّنةً من أنّ الكارثةَ قادمة: «أحسُّ بأنني مسافرةٌ في القطار إلى مسافاتٍ بعيدة، ستنتهي بارتطام. الآن كلّ شيء على ما يرام، ولكن كلّما اجتاز القطار مسافةً جديدة، اقتربَ لحظةً من موعدِ الارتطام.»
شكُّ رابيكوفيتش لن يكون مُستغربًا حينَ نتذكّرُ أولًا أنها ليست جنرالًا، وحين نعلمُ أنّها من مواليد فلسطين ما قبلَ النكبة ثانيًا (ولدت ١٩٣٦ – وتوفّيت ٢٠٠٥)، وأنها عارضت النزعة العسكرية، بل والسياسة الإسرائيلية برمّتها تجاه الفلسطينيين، وكانت تنشرُ قصائدها دعمًا لهم وتضامنًا معهم، بل وكتبت في جريدة الكرمل ثالثًا.
وفيما بدت الشاعرةُ قارئة لحتميّة التغيّر التاريخية، أحالَنا الفيلسوف «آسا كاشير» المولود في القدس ١٩٤٠، إلى التفكير في مفهوم الزمن من منظورِ الفلاسفة القدامى. كاشير، وقد كان أستاذًا في القانون ومؤلّفًا لمدوّنة قواعد وأخلاقيّات السلوك المهني للجيش الإسرائيلي (لنا أن نتخيّل نوعيّة القيم التي أرساها الرجل) ومهندسًا لحروبٍ إسرائيليةٍ كثيرة، رأى أنّ من أخطاء إسرائيل الجوهرية هو غياب مفهوم الزمن. إذ لا مفهومَ للزمنِ في المكانِ الذي لا يحدثُ فيهِ أيّ تغيير، وهو ما انطلقت منه السياسة الإسرائيلية عبرَ السيطرة على ما يجري، بحيثُ يُمكنُ تجميدُ الزمن عند لحظةِ السيطرة هذه.
وتقاطعت نظرةُ كاشير، جزئيًا، مع نظرةِ فيلسوفٍ آخر هو «يرمياهو يوفيل» المولود في حيفا (١٩٣٥-٢٠١٨) والذي نبّهَ لخطرِ تجميدِ الزمن في الوعي الإسرائيلي، بحيثُ يصيرُ الحاضرُ هو المُستقبل. إذ أنّ الزمنَ التاريخيّ، في رأيه، لا يُمكنُ تجميدُه. وانتهى يوفيل إلى اعتبار أنّ الزمن يعملُ على المدى البعيد لمصلحة الفلسطينيين وفي عكس مصلحة إسرائيل، فيما يعملُ على المدى القريبِ والمتوسط، وعلى نحوٍ كارثيّ، ضدّ الطرفين.
كلُّ تلكَ المقتطفاتِ من تأملات وإجابات المفكّرين الإسرائيليين على سؤال الزمن، تأخُذُنا، ولو على سبيلِ التحايلِ لا المقارنة، إلى التفكيرِ في السؤالِ ذاتِهِ الذي طرحتهُ جريدة حداشوت، بعد وضعهِ في سياقِ الربيع العربيّ ومآلاتهِ، لا سيّما وأنّ الثورة المضادّة لانتفاضاتِ التغيير تبدو أكثر وضوحًا بعد دخولِ تلك الانتفاضات عقدها الثاني، واتّخاذِ قوى تلك الثورة المضادّة خطواتٍ جادّة في إعادةِ تعويمِ الأنظمة العربية، سواءٌ بشكلٍ مباشرٍ كما يجري مع النظام السوريّ، أو من خلالِ التذاكي والالتفاف كما جرى في الحالةِ المصرية ويجري في ليبيا التي يستعدُّ سيفُ الإسلام القذافي للدخولِ إلى مُعتركِ انتخاباتها الرئاسية!
ولعلّ الدخولَ في مرحلةِ التطبيعِ العربي مع دولةِ الاحتلالِ الإسرائيليّ دليلٌ على أنّ قوى الثورة المضادّة تحاولُ التلاعبَ بالمستقبلِ من خلالِ الارتكانِ إلى تجميدِ الزمنِ عند الحاضر.
لكنّ السؤالَ يُطلُّ برأسهِ بمكرٍ: هل حقًا يُمكنُ تجميدُ الزمن؟