محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون… سيادة العقيد موافق على شرطك

Between Heaven And Hell, Jacek Yerka, 1989

فرج بيرقدار

شاعر سوري

ذات مساء فتح عسكريّ "شرَّاقة" زنزانتي ليقول لي: سيادة العقيد بسام عبد المجيد يرغب في لقائك للدردشة في أمور لا علاقة لها بالسياسة، بل بالثقافة والفلسفة، ويُبلغك أنك حرٌّ تماماً في أن ترفض أو تقبل لقاءه.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

27/12/2021

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

بعد أن يئسوا من إمكانية الحصول على إجابات سريعة عن كل ما يريدون، راحوا يركّزون تحقيقاتهم على منحى إثر آخر، مع جولات تعذيب صباحية ومسائية تستمرّ إلى أن يقتنعوا بأني حقاً لا أعرف أو لا يمكن أن أعترف.

بضعة أيام تحقيقات عن أعضاء قيادة الحزب والمنطقيات، بضعة أيام عما أسموه الجناح العسكري في الحزب، بضعة أيام عن المطبعة والفنيّين المعنيين بتزوير الوثائق والهويات الشخصية، ثم عن المراسلين الحزبيين، ميزانية الحزب ومصادر تمويله، علاقاتنا بالتنظيمات الأخرى السورية واللبنانية والفلسطينية، وعن علاقاتي ببعض الكتاب والفنانين. بدت لي أسئلتهم أشبه بلعِبٍ في وقت مستقطع، باستثناء تركيزهم على علاقتي بالروائي غالب هلسا. كنت خائفاً من أن يفاجئوني بمعلومة تؤكد معرفتي به أو لجوئي إلى بيته في الأوقات السوداء، أو تعاونه في إيصال منشوراتنا إلى بعض الكتَّاب والسياسيين المصريين.

مع كل اعتقالات أو اعترافات أو معلومات جديدة يعيدون فتح أحد الملفات مع ما يقتضيه من تجديد لجولات تعذيب يبدؤونها بحماس، ثم يواصلونها بتلقائية باردة وغير مفهومة. لا شك أنهم هم أيضاً يتعبون من قيامهم بالتعذيب، ولكنهم ربما لا يعرفون متى عليهم بالضبط أن يتوقّفوا. 

عدد السياط التي تلقيتها خلال شهور يكاد يعادل عدد الكلمات التي كتبتها خلال حياتي. والأنكى أنهم كسّروا لي أضراسي فعلياً، ولم يكن الأمر مجرد ترهيب وإضعاف معنويات كما توقعت.

ولأني كنت مسؤولاً عن الجانب التنظيمي في العامين الأخيرين، فقد كانوا يستدعونني إلى التحقيق كلما اعتقلوا أحداً من قيادات المناطق أو مراسيلها، كي يقاطعوا ما بين اعترافاتهم واعترافاتي.

ما أعتقد أنه أشدّ وطأة من التعذيب هو أن يجبروك على رؤية رفاقك وهم تحت التعذيب. كنت أعرف أن غرضهم إضعافي من خلال تعذيب رفاقي أمامي، وكنت أجاهد كي أبدو أني غير مكترث.

في إحدى المرات جاءوا بي من زنزانتي كي يشمتوا برؤيتي لشخص مرمي على الأرض، معصوب العينين ويداه مكبلتان إلى الخلف، وأمشاج من الدم تغطي وجهه وعنقه:

– آخيراً جئنا لك بأحد مناضليكم الشرسين، والحبل على الجرَّار.

لاحظ حيادية ردّ فعلي، فقال: 

– غريب.. ألم تعرفه؟

– لا.

– ستعرفه قريباً. وكما وعدناك، سنصطادكم كلباً بعد آخر.

كنت كمن سقط من شاهق وأنا أرى الرفيق بهجت شعبو، عضو اللجنة المركزية، في قبضتهم وبهذه الحال، وكان علي أن أنكر معرفتي به، بل كان عليّ أن أتظاهر بأن هذا الشخص لا يعنيني.

بعد أيام عرفت أن من رأيته لم يكن بهجت شعبو، بل عباس أبو ديمة أحد أقرب الرفاق إليّ في قيادة الحزب. 

ما الذي دهاني.. أإلى هذا الحد تخطئ عيناي؟!

في مرة ثانية قابلوني مع صديقي الدكتور أيمن داغستاني وسألوه أمامي: هل كان أبو المجد “هكذا كان اسمي” يعطيك جرائد الحزب وبياناته، فقال نعم، وهل كنت تدفع له تبرعات، فأجاب أيضاً بنعم. سبق وسألوني في بداية اعتقالي كثيراً عن أيمن وأنا أنكرت أن يكون لي معه أي علاقة سياسية أو تنظيمية.

قال لي أبو إياد، وهو صف ضابط برتبة مساعد ولكنه ذكي على عكس قادته، وكنا نلقبه بكومبيوتر الفرع: شو فرج.. على أساس ما في شي بينك وبين أيمن.

قلت: نعم لا شيء بيني وبينه، ولكن من الواضح أنكم عذبتموه إلى أن اضطر للاعتراف بهذه التفاصيل التي لا معنى لها ولم تحدث أصلاً.

كان ينبغي عليّ أن أترك الباب مفتوحاً أمام تراجع أيمن عن إفادته لو أراد. اعتقال أيمن آلمني جداً بالمعنى الشخصي. هو واحد من أعز أصدقائي، وكنت مشتاقاً إليه، ولهذا لم أكن أعرف حينها إن كنت سعيداً لرؤيته أم حزيناً لاعتقاله المتوقع.

في مرة أخرى قابلوني بصايل ناصيف أحد المراسلين المركزيين في الحزب. كان ظهره مشدوداً كقوس مقلوب تحت وطأة الكرسي الألماني، ولكن بدلاً من أن أرفع معنوياته راح هو يقوم بذلك من خلال ابتساماته وهو يتحايل بجسده للتلاؤم مع وضعية الكرسي.

وقد فاجؤوني مرة بأن قابلوني بالصديقة غادة العلي. قلت للضابط: على أي أساس تعتقلونها وأنتم تعرفون أنها تاركة الحزب منذ سنوات؟

تقدم الضابط نحوي مادّاً يده وهو يقول: كل واحد صافح شخصاً من حزب العمل أو قال له مرحباً، سنعتقله. أطبقت كفي على كفه وأنا أقول: ها أنت تصافح شخصاً من حزب العمل فاعتقل نفسك!

ارتبك الضابط، وكان برتبة ملازم أول وفي بداية تدريباته على التحقيق، غير أن غادة ابتسمت فاطمأننت على معنوياتها، وربما طمأنتُها أن أمورها لا تستدعي القلق.

خلال الشهور الأولى رتبنا روايات الرفاق واعترافاتهم بصورة أغلقت كل الثغرات التي يمكن أن تهدد أمن الحزب. كنا نتواصل همساً، وعبر نقرات المورس على الجدران.

ذات مساء فتح عسكريّ “شرَّاقة” زنزانتي ليقول لي: سيادة العقيد بسام عبد المجيد يرغب في لقائك للدردشة في أمور لا علاقة لها بالسياسة، بل بالثقافة والفلسفة، ويُبلغك أنك حرٌّ تماماً في أن ترفض أو تقبل لقاءه.

أمر غامض ومحيِّر أن يكون في فرع فلسطين ضابط يعلن عن اسمه صراحة، ويترك للسجين حرية قبول أو رفض لقائه. 

محمد حسن معمار “أبو خلدون” أحد أعضاء المكتب السياسي في الحزب، اعتُقِلَ قبلي ببضعة شهور، وقد كان هو ومن اعتقلوا في تلك الفترة معزولين عنّا تماماً، كي لا تتسرب إلينا اعترافاتهم فنبني اعترافاتنا على أساسها. كنت أعرف مدى صلابة أبو خلدون وتماسكه، بل كان لدي معلومات مسبقة تؤكِّد أنهم لم يستطيعوا انتزاع المعلومات المطلوبة منه في التحقيق، ووجدتُ طلب العقيد فرصة لاختبار جملة أمور في آن معاً. 

قلت للعسكري: أبلغ العقيد أني موافق على لقائه بشرط أن يحضر لقاءنا الرفيق محمد حسن معمار.

ذهب العسكري ثم عاد ليقول: سيادة العقيد موافق على شرطك. تفضّل معي.

كيف لي أن أصدِّق أن ذلك ليس حلماً، وأنه يجري في سوريا وفي فرع فلسطين. لا شك أنه استثناء لم يحدث من قبل ولن يحدث لاحقاً.

كنت أسمع بالعقيد بسام رغم أنه لم يكن مكلفاً بالتحقيق مع رفاقنا، وأتذكر مرة أن أحداً سلّم عليّ وأنا معصوب العينين أمام إحدى غرف التحقيق، وسألني عن صحتي وإن كنت بحاجة إلى شيء، فقلت: ولكنك لم تقل لي من أنت، فقال: أنا العقيد بسام عبد المجيد. 

أطل علينا المقدَّم عبد المحسن هلال من فوق الدرج، ليسأل إن كنا نسمح له بالانضمام إلينا، فرد عليه بسام: لا تسألني.. إسأل فرج.

كانت موافقة العقيد بسام على لقائي بالرفيق أبو خلدون أمراً غريباً لم أستطع إيجاد تفسير له. 

أمضينا قرابة الساعتين ندردش في معنى الثقافة وعلاقتها بالفلسفة والمجتمع وأسبقية المادة أم الروح، وفي النهاية أخذ العقيد بسام بذراع عبد المحسن قائلاً: لنترك لهما بضع دقائق فهما رفيقان وصديقان.

فور ابتعادهما حرَّك أبو خلدون إصبعه بشكل دائري كإشارة إلى وجود آلة تسجيل. رغم ذلك أبلغته بأني استقلت من قيادة الحزب منذ ثلاثة شهور، وبالتالي لا أعرف شيئاً عن أمور الحزب أو بيوته ولا عن المواعيد. ويبدو لي أن التحقيقات في نهايتها، إذ إننا قلنا كل ما عندنا ولم يعد هناك من أسرار.

كان هدفي تطمين أبو خلدون على أن أمور الحزب بخير، وفي نفس الوقت تأكيد رواية استقالتي في حال كان هناك تسجيل لحديثنا.  

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع