نحن أمام قصة غريبة وعجيبة لقريتين تجمعهما علاقة حميمة وصلة قرابة. والقصة ليست قديمة إنّما تعود إلى فترة بداية الاحتلال البريطاني (ويُسميه البعض الانتداب البريطاني). وبالرغم مما لحق بالقريتين إلاّ أنّ الأهالي بقوا على عهدهم مُتمسّكين بكل شبر منهما إلاّ أنّ حلّت النكبة اللعينة التي أتت على الأخضر واليابس وطمست من المعالم معظمها إلاّ ما بقي في ذاكرة الكبار والتي يتناقلها أبناء وبنات الأجيال اللاحقة للنكبة.
“صرفند”: الاسم والمعنى
من “صرفة” باللغة السريانية وتعني “صهر المعادن وتنقيتها”. أمّا في العهد الروماني فسُميت بـ “سريفين” أو “صريفين”. وفي فلسطين موقعين على الأقل يحملان الاسم ذاته. الموقع الأول الذي نحن بصدد التطرق إليه ويقع إلى الغرب من مدينة الرملة على بعد 5-7 كم. في حين أنّ الموقع الثاني يقع الى الجنوب من مدينة حيفا على بعد أقل من 15 كم، وهو قرية فلسطينية تعرضت للتدمير على يد آلة الدمار الصهيو-إسرائيلية في العام 1948. ولم يبقّ منها إلاّ أثارٌ دارسة.
“صرفند الخراب”
تبعد عن مدينة الرملة حوالي 7 كم إلى الغرب منها. وترتفع 50 مترًا عن سطح البحر الأبيض المتوسط. والسؤال هنا لماذا حملت هذا الاسم؟ كانت تسمى صرفند الصغرى تمييزًا لها عن الكبرى. ولكن ما حدث في العام 1919 هو المرتبط باسمها الكامل. حيث أنّه قُتِل جندي بريطاني كان مرافقًا لمجموعة من الجنود الإنجليز الذين دخلوا إلى القرية وهم سكارى وعاثوا في أرضها فسادًا وألحقوا دمارًا وخرابًا بالمزروعات والمحاصيل وبعض ممتلكات الأهالي فيها.ونتيجة لمقتل الجندي قام الإنجليز بإحراق القرية فتشرّد معظم الأهالي عنها، فعُرِفت حينها باسم “صرفند الخراب”. إلاّ أنّ الأهالي عادوا إليها وقاموا بإعمارها من جديد. وهناك من يعتبر نزوح الاهالي عن قريتهم أوّل حالة نزوح أو تشريد للفلسطينيين بعد الحرب العالمية الأولى وقبل وقوع النكبة في العام 1948. وحصل الأهالي بعد سلسلة من المفاوضات على إذن من حكومة الانتداب البريطاني لإعادة بناء قريتهم. عِلمًا أنّ بعض عائلاتها قد انتقلت الى الجوار وأقاموا بيوتهم في صرفند العمار. وسنأتي على ذكرها مفصلين اسمها ومقاصده.
عدد سكانها
استنادا إلى احصائيات متفرقة عبر الازمان فإنّ عددهم بلغ 330 نسمة في الاحصاء الأول الذي أجرته الحكومة العثمانية عام 1596. وبلغ في العام 1871 حوالي 110 نسمة موزعين على 22 بيتًا. أما مساحة أراضي القرية في هذه السنة فبلغت حوالي 1000 دونمًا، في حين أنّ نتائج المسح الذي قامت به دائرة أراضي يافا في العام 1874 أشارت إلى أنّ الأراضي التابعة لمسطح القرية بلغت مساحتها 4426 دونمًا.
ونتابع مع عالم الإحصاء لنلحظ أنّه في الإحصاء الانتدابي الأول الذي أجرته الحكومة في 1922 بلغ عدد سكان القرية 385 نسمة، ليرتفع في الاحصاء الثاني في 1931 ليصل إلى 974 نسمة. أمّا الاحصاء الذي أجرته الحكومة ذاتها في 1944/1945 فأشار إلى 1040 نسمة تقريبًا. وفي عام النكبة وقبيل الترحيل عن القرية وصل العدد إلى 1206 نسمة، موزعين على 255 بيتًا. وتوزع السكان من ناحية انتمائهم الديني على النحو التالي: 90% مسلمون، و 10% مسيحيون.
اقتصاد القرية
اعتمد سكانها كغيرهم من سكان فلسطين على الزراعة كمصدر رئيسي لمعيشتهم، وخصوصًا أنهم زرعوا الحمضيات والزيتون والحبوب على أصنافه. واستقوا المياه من آبار ارتوازية قاموا بحفرها في أنحاء مختلفة من مواقع القرية.
ولا بُدّ من الاشارة هنا إلى أنّ المؤسسات الاستعمارية الصهيونية قد اخترقت القرية واشترت 1291 دونما من أصل 5500 دونم من مساحة أراضي القرية.
التعليم في القرية
أظهر الأهالي في هذه القرية اهتمامًا بتعليم أبنائهم أُسوة بما بدأ يحصل في القرى الأخرى المجاورة. فتأسست مدرسة صرفند الخراب عام 1920 وتمّ تعيين معلم واحد، ثمّ أخذت تتقدم وتنمو ويزداد عدد الصفوف فيها حتى أصبحت في عام 1943/1944 مدرسة ابتدائية كاملة، بلغ عدد تلاميذها 258 تلميذًا. كذلك تأسست مدرسة للبنات في عام 1945، وكان عدد تلميذاتها 46 تلميذة.
احتلال القرية وسقوطها
تُشير المصادر التاريخية المتوفرة وبينها ما كشفه ونشره المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إلى أنّ السكان فرّوا من القرية في 20 نيسان من عام 1948، خوفًا من هجوم إسرائيلي في أعقاب انتشار أنباء عمّا حصل لقرية دير ياسين قبل ذلك. قبل أسبوع من ذلك، أي في 12 نيسان، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” (عن مصادر يهودية) قولها أنّ احدى وحدات اليهود قامت بضربة في عمق الأراضي العربية، وفجّرت 12 منزلًا عند مشارف الرملة ومشارف قريتين مجاورتين لها، وربما كانت صرفند الخراب احدى هاتين القريتين. لكن ربما لم تقع صرفند الخراب تحت الاحتلال الإسرائيلي الّا في اواسط ايار (أي تقريبا وقت احتلال شقيقتها صرفند العمار وجارتها بيرسالم). أي ان هناك التباس حول الموضوع، لكن الثابت أنّ الأهالي لم ينتظروا قدوم جيش الاحتلال فنزحوا عن قريتهم ريثما تهدأ الأحوال ويعودوا إليها لاحقًا.
مستعمرات على أراضيها
أقام الاحتلال الاسرائيلي على أراضي القرية مستعمرات عدة، منها: نس تسيونا والتي كانت قد تأسست في العام 1883 ولكنها استفادت من نزوح اهالي صرفند الخراب فوسعوا مُسطح المستعمرة بلوغًا إلى إعلانها مدينة. وكذلك مستعمرة “ياد اليعيزر”، ومستعمرة باسم “بيت حنان”. ولم يبقَ من منازلها إلاّ القليل يستعمله بعض سكان المستعمرات مخازن لأغراضهم.
معالم القرية الدينية
المسجد: بدأ الأهالي بإقامة مسجدهم إلاّ أنّهم استعملوا ما أنجزوه مدرسة لأبنائهم ريثما يتابعون عملية جمع المال اللازم لإتمام إعماره.
الديوان: ويُسميه أهالي القرية بـ “المقعد”: استعملوه لمناسباتهم الاجتماعية على مختلفة أنواعها، وكذلك بشكل يومي لاستقبال الضيوف ومناقشة المستجدات اليومية. وكان في القرية عدة دواوين عائلية، منها: مقعد(ديوان) عائلة ابراهيم، مقعد عائلة حمدان. ومثّل مختارا العائلتين رئاسة الديوانين باعتبارهما أكبر العائلات في القرية.
مقبرة القرية: كان للقرية مقبرة، إلاّ أنَها طمست بعد نزوح الأهالي وتدمير بيوتها.
“صرفند العمار”
ويسميها اهاليها باسم آخر وهو “صرفند العيون” أو بالتسمية القديمة “صرفند الكبرى”. وتقع إلى الشمال من مدينة الرملة على بعد 5 كم منها، على الساحل الفلسطيني الاوسط. أي بين قريتي وادي حنين وعيون قارة (أصبحت تحمل اسم “ريشون لتسيون” بعد الاحتلال الإسرائيلي لها. وتمرّ بالقرب منها سكة حديد تصل يافا بحيفا.
عدد سكانها
استنادًا إلى الإحصاء الذي أجرته الحكومة العثمانية في العام 1596م فإنّ تعداد سكان القرية بلغ 358 نسمة. أمّا في إحصاء حكومة الانتداب الاول الذي أجرته في العام 1922 فبلغ عدد سكان القرية 862 نسمة، ليرتفع في الاحصاء الثاني من العام 1931 ليصل إلى 1183 نسمة، وفي عام 1945م بلغ 1950 نسمة، وليصل في عام النكبة الى 2262 نسمة موزّعين على خمسمائة منزل.
اقتصاد القرية
اعتمد سكان القرية في معيشتهم بشكل أساسي على الزراعة ككروم الزيتون وبيارات الحمضيات والحبوب وأنواع من الفاكهة. بالإضافة إلى رعاية المواشي. ولكن بعد أن شيّد الاحتلال البريطاني قاعدة حربية له ومعتقلاً حمل اسم “صرفند” عمل عدد كبير من أهالي القرية في توفير الخدمات اللازمة لهذه القاعدة، طبعًا دون الخدمات الأمنية والعسكرية. ونشير هنا إلى أنّ هذه القاعدة ومعتقلها الشهير تمّ فيهما توقيف مئات من المعتقلين الفلسطينيين المعارضين لسياسات الاحتلال البريطاني وللمشروع الصهيوني، ومن بينهم كبار القياديين السياسيين، وبوجه خاص في أعقاب اندلاع وانطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936م.
التعليم في القرية
تأسّست في القرية مدرسة للبنين في العام 1921، وبلغ عدد طلابها بعد اكتمالها في العام 1947 قرابة 300 طالب. يقوم بتعليمهم ثمانية معلمين، دفعت القرية معاشات بعضهم، أمّا الباقي فدفعته دائرة معارف الانتداب. وتأسّست في العام 1947 مدرسة للبنات التحقت بها 40 طالبًا، خصصت لهنّ معلمتين، قبل إغلاقها جرّاء تصاعد وتيرة الأحداث في فلسطين في ذاك الوقت.
احتلال القرية وسقوطها
تعرّضت القرية إلى سلسلة من الهجمات قامت بتنفيذها فِرق من الهاغاناه، خاصة من فِرق الألغام، حيث قام عناصر من هذه الفرق بتلغيم عدد من منازل القرية ونجحوا في تدمير مبنى مؤلف من ثلاثة طبقات. قُتل نتيجة تفجيره 16 شخصًا، وجرح 21 آخرين. وآدّعت قيادة الهاغاناه أنّ هذا المبنى كان مُستخدمًا من قبل فصيل حسن سلامة، ومنه كانت تنطلق العمليات الحربية ضد مواقع يهودية. وفي واقع الأمر أنّ هذا المبنى كان ملجأ أو دارًا للأيتام الذين لاقى آبائهم حتفهم في ميادين الجهاد دفاعًا عن فلسطين. وبناه زهدي ابو الجبين أحد وجهاء وأثرياء مدينة يافا في أواخر عهد الانتداب البريطاني. وتبين لاحقًا أنّ جنديين بريطانيين هما قاما بعملية نسفه بعد أن اشتراهما اليهود بالمال. وجدير بالذكر هنا أنّ مفاوضات جرت بين الوكالة اليهودية وحكومة الانتداب على شراء القاعدة، إلاّ أنّ المبالغ لم تصل في الوقت المتفق عليه، فانتقلت القاعدة الى الجيش العربي (الأردني)، إلاّ أنّ وحدات من لواء جفعاتي تمكنت من احتلاله وعندها تم طرد سكان القرية بكاملها في 20 أيار 1948.
وجعل الإسرائيليون هذه القاعدة لجيشهم باسم “يادين” وهو أحد رؤساء اركان الجيش الاسرائيلي.
معالم القرية
المسجد: مسجد القرية قديم وملاصق لمقام لقمان الحكيم.
مقبرة القرية: مساحتها ثلاثة دونمات تقريبا. وخصصت مقبرة اخرى للقرية مساحتها اربعة دونمات وربع تقريبا اعتدت عليها بلدية ريشون لتسيون وشركات استثمارية لإقامة مشاريع إعمار مكانها.
مقام لقمان الحكيم: له قبة ومزار. وفي ليوانه اجتمع الأهالي في مناسبات دينية واجتماعية. وعقد اهالي القرية وقرى أخرى مجاورة سوقهم قرب المقام وخصوصًا زمن العيدين.
رابطة اهالي صرفند العمار
لأهالي القرية المهجرين والنازحين عنها جمعية اهلية مسجلة رسميًا لدى دوائر الحكومة الاردنية في عمّان منذ العام 1975. وتُشرِف على رعاية شؤونهم وتنظيم نشاطات اجتماعية وثقافية تخصّ القرية وأهاليها لجمع كلمتهم والحفاظ على أواصر القرابة والعلاقة بالجذور.