نشر موقع Notes from Poland مؤخراً للمرة الأولى باللغة الإنكليزية قصَّة مكتشفة حديثاً بعنوان “أوندولا” للكاتب البولندي برونو شولتز (1892-1942).
ترجمها إلى الانكليزية وكتب لها هذه المقدمة قصيرة: ستانلي بيل.
ترك الكاتب اليهودي البولندي برونو شولتز مجموعتين قصصيتين فقط وبعض المقالات المتناثرة عندما قتل على يد ضابط من قوَّات الأمن الخاصَّة التَّابعة للحزب النازي في مسقط رأسه دروهوبيتش العام 1942.
منذ مقتله، ألهمت أسطورة عمل عظيم مفقود، رواية بعنوان “المسيح”، تحقيقات عالمية وحتى أعمال جديدة لكل من فيليب روث، سينثيا أوزيك، وكتاب آخرين. إلى يومنا هذا لم يعثر على رواية “المسيح” بعد وليس هناك يقين من أنها وجدت على الإطلاق. لكن حدث اكتشاف مثير مؤخراً في مسقط رأس شولتز، البلدة التي تقع اليوم في غرب أوكرانيا.
أواخر السَّنة الماضية في أرشيف في مدينة لفيف، وجدت باحثة أوكرانية تدعى ليسيا خوميتش قصَّة غريبة في صحيفة بولندية تصدر عن صناعة النفط من العام 1922. تتبع القصَّة التي تحمل عنوان “أوندولا”، التخيلات الجنسية المازوشية لرجل مريض ملازم لفراشه في غرفة مسكونة بالظلال الهامسة والصَّراصير. شكَّت خوميتش في الحال أن يكون شولتز الكاتب، ولو أن العمل ظهر تحت اسم مجهول يدعى مارسلي ويرون. سرعان ما أكَّد خبراء بارزون في بولندا فرضياتها.
ولو أن وجود دليل حاسم ليس ممكناً، القصَّة هي قصة شولتز بشكل يكاد يكون مؤكداً، نشرت تحت اسم مستعار قبل أكثر من عقد من الزمن من صدور أعماله المعروفة الأولى العام 1933. لقب “أوندولا” وهو اسم اخترعه شولتز لشخصية امرأة شابة مركزية للميثولوجيا الجنسية المازوشية لرسوماته في بداية العشرينات. أنتج صوراً متعددة لـ”أوندولا” تلائم بإحكام أوصاف القصَّة-ربًّة متَّقدة تزدري بطل القصة الذي يتعبدها.
تتوقع مصادر منفصلة أخرى شخصيات من قصص شولتز الأخيرة: خادمة مغرورة تدعى اديلا، خالق “دميرج”، صراصير شبيهة بالسَّرطانات، وبطل سقيم في حبس انفرادي.
الأسلوب الرمزي بغزارة للقصة جلي أيضاً، ولو أن جودة متفاوتة تعكس حالته التجريبية. أفضل كتابات شولتز تجازف جمالياً، عندما بغزارة يضع المجاز فوق المجاز. في هذا المخطوط المبكر، النتيجة خرقاء أحياناً أو متكررة. معان بعينها تظل غامضة. مع ذلك القصة أيضاً تحتوي على فقرات رائعة وعناصر جديدة مدهشة توسِّع فهمنا لشولتز.
“أوندولا” هي قصة جنسية بشكل أكثر صراحة من القصص الأخيرة اللاتي رويت غالباً من وجهة نظر طفل. هنا الراوي الراشد يختلق جواً أقرب إلى رسومات شولتز الإيروتيكية التي تزدحم بإفراط بصور الفنان نفسه يحبو عند قدمي الشابة الرشيقة. تقريباً تشكل القصة الجديدة صلة مفقودة بين الجوانب التخطيطية والأدبية في حياته الإبداعية.
تبدو صحيفة تخص صناعة النفط مكاناً غريباً للنشر الأصلي لهذا العمل السريالي العام 1922. ربما يكون الرابط هنا شقيق شولتز الأكبر إزيدور وقد عمل في مجال النفط الذي هيمن على منطقة دروهوبيتش. ربما يكون قد سهَّل النشر باسم مستعار أحوجه إليه شعوره أو شعور برونو بالإحراج من محتوى القصة الجنسي الصريح.
بعد عقد من الزمن، العام 1933 موَّل إزيدور نشر المجموعة القصصية الأولى لشقيقه، دكاكين القرفة. ربما بشكل مغاير، كان مال نفط موطن شولتز الأصلي ما ضمن الرحلات الشِّعرية لأعماله الأدبية.
يتيح اكتشاف ما يمكن أن تكون أول قصص شولتز المنشورة الاحتمال المعذِّب عن كونه نشر أعمالاً أخرى بأسماء مستعارة. يمشط باحثون أوكرانيون وبولنديون حالياً أرشيفات كلا البلدين بحثاً عن مزيد من الآثار. تقريباً بعد ثمانين عاماً على مقتله في الهولوكوست، قد تكون صورة حياة برونو شولتز وعمله بعيدة جداً عن أن تكون مكتملة. مع الكشف عن ربَّة جديدة في “أوندولا” قد يكون هناك أمل لهؤلاء الذين لا يزالون ينتظرون “المسيح”.
أوندولا
تأليف مارسيلي ويرون (برونو شولتز)
ترجمها إلى الإنكليزية ستانلي بيل
لابد أن أسابيعاً أو شهوراً مرَّت الآن وأنا حبيس في هذه العزلة. لا زلت أغطُّ في النَّوم ثم أستيقظ ثانية، فتتشابك أطياف اليقظة مع تلفيقات الظلمة المنوِّمة. وهكذا يتدفَّق-الوقت. يبدو لي أني عشت في هذه الغرفة الطويلة المعوجَّة من قبل، في ماض بعيد ما. أتعرف أحياناً على الأثاث الضخم الذي يتطاول حتى السَّقف، هذه الخزائن المصنوعة من خشب البلوط البسيط تنتصب بسقط متاع مكسو بالغبار. يتدلى مصباح كبير متعدد الأذرع من الصَّفيح متأرجحاً برفق من الأعلى.
أستلقي في زاوية سرير طويل أصفر، لا يحتل جسدي ولو ثلث مساحته إلا بالكاد. هناك لحظات تبدو فيها الغرفة المضاءة بالضُّوء الأصفر للمصباح، أنها تتلاشى من حقل رؤيتي. في الفتور الثَّقيل للفكر، أشعر فقط بالإيقاع الهادئ الشديد لنفَسي، عندما يرفع صدري في وقع منتظم. بانسجام مع هذا الإيقاع تأتي نفحة كل الأشياء.
يتسرَّب الوقت مع الهسيس المضجر للقنديل. الأثاث القديم يتصدَّع ويصرّ في الصَّمت. ظلال تتربص وتكيد في أعماق الغرفة-مسننة، ملتوية، ومكسورة. إنها تمط أعناقها الطويلة وتحدِّق بي عبر أذرعها. لا أتقلَّب. من أجل ماذا؟ حالما أنظر سوف يكونوا جميعاً هادئين في أمكنتهم ثانية، وفقط الأرضية والخزانة القديمة سوف تصران وتزحران. كل شيء سوف يكون ساكناً غير متغير كسابق عهده. مرة أخرى سوف يحل الصَّمت والمصباح القديم سوف يسلِّي سأمه بهسيس ناعس.
تقف صراصير كبيرة سوداء هامدة، تحدِّق في الضُّوء ببلاهة. يبدوا أنهم موتى. ثم على حين غرة تلك الأجساد المسطحة عديمة الرؤوس تنطلق في جري سرطاني عجيب يعبرون الأرضية قطرياً.
أنام، أستيقظ، ثم أغفو ثانية، أشقُّ بأناة طريقي عبر خمائل شاحبة من أوهام وأحلام. تصبح متشابكة ومتداخلة وهي تتجول معي-أجمات ناعمة، حليبية، خصيبة، مثل تبرعمات البطاطا الليلية الشاحبة في السَّراديب، مثل النَّماء الضَّخم لفطر مريض.
*
ربما في العالم الخارجي حلَّ الربيع بالفعل. لا أعرف كم من أيام وليالي مرت منذ ذلك الوقت… أتذكر ذلك الفجر الرمادي الثقيل لنهار شباطي، ذلك الموكب الأرجواني لكهنة باخوس. عبر أي ليال شاحبة من العربدة، عبر ضوء القمر في متنزهات الضَّواحي لم أحلِّق خلفها، مثل عثَّة مسحورة بابتسامة أوندولا. وفي كل مكان رأيتها في أكتاف الراقصين: أوندولا، متوانية وتتمايل بإغواء في نسيج شفاف أسود وسروال تحتي، أوندولا، عيناها تضطرمان خلف الدانتيل الأسود لمروحة. وهكذا تبعتها وسعار عذب يحترق في قلبي، إلى أن لم تعد ساقي المغشي عليهما تحملاني والكرنفال لفظني نصف ميت على ثمَّة شارع فارغ في العتمة الكثيفة قبل الفجر.
ثم جاءت تلك الجولات المصمتة والنَّوم في عيني، على أدراج قديمة أصعد عدداً كبيراً من الطوابق المظلمة، معابر من فسحات سوداء علوية، طلعات هوائية عبر أروقة تتمايل في هبوب الرياح المعتمة إلى أن ابتلعني ممر مألوف هادئ ووجدت نفسي عند مدخل شقتنا في سنوات طفولتي. أدرت القبضة والباب انفتح نحو الداخل مصدراً صوت آهة غامضة. طوقتني رائحة ذلك الداخل المنسي. انبثقت خادمتنا اديلا من أعماق الشَّقة تخطو بلا ضجيج على نعلي خفيها المخمليين. كيف زهت بالجمال خلال غيابي، كيف كان بياض اللؤلؤ في كتفيها تحت فستانها الأسود غير المزرر. لم تكن ولو قليلاً متفاجئة بعودتي بعد كل تلك السَّنوات. كانت ناعسة وفظَّة. كان بوسعي أن أصنع أقواساً شبيهة بالبجع من ساقيها الممشوقتين عندما اختفت عائدة إلى الأعماق السَّوداء للشقة.
تلمستُ طريقي عبر الضُّوء الشَّحيح إلى سرير غير معد، بعينين يغشاهما النوم، دفعت رأسي في الوسائد.
نوم كئيب تقلَّب فوقي مثل عربة ثقيلة، محمَّل بغبار الظلمة، يغطيني بعبوسه.
ثم بدأت الليلة الشَّتوية تحوِّط نفسها بحجارة العدم السَّوداء. المطلق يمتد مكثَّفاً نحو صخرة صمَّاء عمياء: كتلة ثقيلة مصمتة تنمو في الفراغ بين الأشياء. العالم تحجَّر إلى عدم.
*
كم من الصَّعب أن تتنفس في غرفة تطبق عليها ليلة شتوية بكماشاتها. عبر الجدران والسَّقف يمكن للمرء أن يشعر بضغط ألف طبقة من الظلمة. الهواء قاحل، يفتقر إلى قوت الرئتين. ينمو الفطر الأسود في ضوء المصباح بإفراط. نبض المرء يخفت ويصبح سطحياً. ملل، ملل، ملل. في مكان ما سحيق في الكتلة الصَّلبة لليل، يسير عابرو سبيل وحيدين على طول الممرات المعتمة للشتاء. محادثاتهم البائسة وحكاياتهم الرتيبة تبدو أنها تصلني. تضطجع أوندولا في سريرها العطر في رقاد عميق يرتشف منها ذاكرة اللهو والجنون. جسدها النَّاعم اللين-وقد خلع عنه قيود الشَّاش والسِّروال التحتي والجوارب-اختطفته الظلمة التي تمسك بها بأربع براثن هائلة مثل دب عظيم مكسو بالفراء يجمع أطرافها البيضاء المخملية إلى قبضة واحدة حلوة يلهث فوقها بلسان أرجواني. وهي، غير مستجيبة، عيناها في أحلام بعيدة، خدرة تسلم نفسها لتفترس بينما عروقها الوردية تنبض بدروب حليبية من نجوم، النشوى في عينيها بتلك الليالي الكرنفالية المدوِّخة.
أوندولا، أوندولا، آه يا للروح اللهفى لأرض السعيد والمثالي! كيف امتدت روحي في ذلك الضُّوء، عندما وقفت، أنا أليعازر المتواضع، عند عتبتك المتألقة. من خلالك، في رعشة محمومة، عرفت تعاستي وقبحي في ضوء كمالك. كم كان عذباً أن أقرأ من نظرة واحدة حكم إدانتي إلى الأبد، وأن أذعن بالمهانة الأكثر عمقاً لإيماءة يدك، ترفسني عن طاولات ولائمك. كنت سأرتاب بكمالك لو فعلت أي شيء آخر. الآن حان الوقت لكي أعود إلى الأتون الذي أتيت منه، خرباً ومشوهاً. أذهب لأكفِّر عن خطأ ديميرج الذي خلقني.
أوندولا، أوندولا! عاجلاً سوف أنساك أنت أيضاً، حلم متألق من تلك الأرض الأخرى. الظلمة النهائية ودمامة الأتون تقتربان.
*
يتقطر المصباح سأماً، يهسهس أغنيته الرتيبة. أبدو كما لو أني سمعتها من قبل، قبل وقت طويل، في مكان ما عند بداية الحياة، عندما رضيعاً، مهجوراً وسقيماً قلقت وتآكلت غيظاً عبر ليال مغرورقه بالدموع. من حينها صرخ لي وأعادني عندما ابتغيت بتهور درب العودة إلى العدم الأمومي الأصلي؟
كيف المصباح يدخِّن. انبثقت الأذرع الرمادية للشمعدان من السَّقف مثل زائدة لحمية. تهمس الظلال وتكيد. صراصير تعدو بصمت عبر الأرضية الصَّفراء. سريري طويل للغاية حتى أني لا أستطيع رؤية طرفه الآخر. كالعادة، أنا مريض، مريض على نحو خطير. كم هو مرير ومفعم بالكره الطريق إلى الأتون.
ثم بدأت. هذه المحاورات العقيمة والرتيبة والألم قد نال مني تماماً. بلا طائل أتجادل معه، متعنت فلا يمكنه أن يصلني كعقل نقي. بينما كل شيء آخر يصبح مشوشاً وغائماً، أشعر بوضوح أكبر كيف هو-المعذب-منفصل عن ذاتي الرقيبة. ومع ذلك في الوقت نفسه أشعر بوخز الوجل الدَّقيق.
لهب المصباح يحترق دوماً بعبوس وتجهم أكبر. تمد الظِّلال أعناقها الطَّويلة كالزرافات نحو السَّقف، يريدون أن يروه. أخفيه بعناية تحت اللحاف. هو مثل جنين صغير عديم الشَّكل دون وجه، عينان، أو فم، ولد ليتعذَّب. كلّ ما يعرفه عن الحياة أشكال ومسوخ المعاناة تلك الذين يلتقيهم في أعماق الليل الذي فيه هو منغمس. حواسه متجهة نحو الداخل، بجشع يتجرع الألم بكل صنوفه. لقد أخذ عذاباتي على عاتقه. أحياناً يبدو أنه لا شيء سوى مثانة هوائية عظيمة انتفخت بالألم، أوردة العذاب الحارة على أغشيته.
لماذا تبكي وتثير ضجَّة طوال الليل؟ كيف يمكنني أن أخفِّف عنك آلامك يا بني الصَّغير؟ ما الذي عليَّ فعله معك؟ تتلوى، تقطب، وتتجهم، لا يمكنك سماع أو فهم الكلام البشري، ومع ذلك لا تزال تثير ضجيجاً وتهمهم بألمك الرتيب عبر الليل. الآن أنت مثل لفيفة حبل سري مفتول ونابض.
*
لا بد أن المصباح انطفأ بينما غفوت. هناك ظلمة وهدوء الآن. لا أحد يذرف الدَّمع. ليس هناك من ألم. في مكان ما في أعمق أعماق الظلمة، في مكان ما خلف الجدار، أنابيب التصريف تبقبق. يا رب! إنه ذوبان الثلج!… فسحات العليَّة تزمجر بخفوت مثل أجساد آلات موسيقية هائلة. الشِّق الأول لا بد أنه تشكَّل في الصَّخرة الصَّلبة لذلك الشِّتاء الأسود. كتل عظيمة من الظلمة تتفكك وتتفتت في جدران الليل. تنهمر الظلمة كالحبر عبر تلك الشُّقوق في الشِّتاء، تمتمة في أنابيب التصريف والمجارير. يا رب الربيع قادم…
خارجاً في العالم هناك، تحرر البلدة نفسها ببطء من قيود الظلمة. ينحت الذَّوبان منزلاً بعد منزل عن ذلك الجدار الحجري للظلمة. أوه أن أستنشق النَّفس المظلم للذوبان في صدري ثانية، أن أحس على وجهي بالصفائح السُّود الرطبة للريح تنجرف على الشَّوارع. ألسنة النَّار الصَّغيرة للمصابيح على نواصي الشَّوارع تنكمش في ذبالاتها مزرقَّة عندما تطير تلك الصَّفائح الأرجوانية للريح من حولها. أن أتسلل الآن وأهرب، تاركاً إياه هنا وحيداً إلى الأبد مع ألمه الأبدي… أي غوايات دنيئة تهمسين بها في أذني، يا ريح الذَّوبان؟ لكن في أي حي من البلدة هي تلك الشَّقة؟ وإلى أين تتجه تلك النافذة، التي قرع على مصراعها؟ لا أستطيع تذكر شارع بيت طفولتي. أن أتطلع من تلك النافذة وأن ألتقي بنفحة الذوبان…