عادةً ما يُفضي سؤالُ الثقافةِ في زمنِ الثورة، إلى جدلِ الأنا والآخر، في محاولةٍ جادةٍ للتأمُّلِ في الواقع، لاقتراحِ أرضٍ جديدةٍ يُمكنُها رسمُ ملامحِ المستقبل. وسواء قاد سؤالُ الأصلِ إلى سؤالِ الفَرع، أو تمكنِ الأخيرِ من شَغلِ مِساحةِ الأول، فإنَّ هذينِ العنصرينِ، سؤالَ الثقافةِ، وجدلَ الأنا والآخر، يُعتَبَرانِ الأرضيةَ المُشكِّلةَ لكلِّ ثابتٍ ومتحرِّكٍ في السرديةِ الفلسطينية.
من هنا يُمكِنُنا رصدُ ما اتَّكَأت عليه الروايةُ الوطنيةُ الفلسطينيةُ في زمنِ الثورة، وهو ما نُلاحِظُهُ بشكلٍ واضحٍ في النِتاجِ الأدبي بكلِّ أجناسِهِ حينذاك، فما بينَ مقولةِ اليسارِ التي تُشيرُ إليها كتاباتُ فريقٍ قادَهُ غسان كنفاني، ويسارِ الوسطِ المتمثِّلةِ في كتاباتٍ أخرى وقفَ على رأسِ فريقِهِ محمود درويش مسافةً لا تكادُ تُذكَرُ أو تُلاحَظ، ولكنَّها كانت مسافةً تكاملية، فالفريقُ الأولُ نادى بالثورةِ والمقاومة، والثاني استجاب لها. وما بينَ هذه وتلك، “وُلِدت الهُويةُ الفلسطينية، في خصوصيتِها، من الصراعِ المتواتِرِ مع المشروعِ الصهيوني، ورأت في بداهةِ مواجهتِهِ شرطاً لها”(١) على حدِّ تعبيرِ فيصل دراج.
هذه الخصوصيةُ التي لعبت دوراً أساسياً في خطِّ ملامحِ الهُويةِ الوطنية، من موقعِها النقيضِ للمشروعِ الاستعماري في فلسطينَ والمنطقة، ارتبطت ارتباطاً عضوياً بسؤالِ الثقافة، من حيثُ هو الاستجابةُ الفعليةُ لسؤالِ إثباتِ الذاتِ في مواجهةِ محاولاتِ إنكارِ الآخرِ لوجودِهِ في الزمانِ والمكان، الأمرُ الذي دفعَ المنظومةَ الثوريةَ المتمثِّلةَ في منظمةِ التحريرِ الفلسطينية، لتبنّي الخطابِ الثقافيّ عبر تأسيسِ أرضيةٍ فعالة، كمّاً وكيفاً، لتشكيلِ ملامحِ هذا الخطاب، عبر إنشاءِ شبكةٍ شبهِ تكامليةٍ من المراكزِ البحثيةِ والمؤسساتِ الإعلامية، منها على سبيلِ المثالِ لا الحصر، مركزُ الأبحاثِ الفلسطينية.
ولعلَّ الأصواتَ الشعريةَ الفلسطينيةَ حينذاك، والتي عُرِفَتْ لاحقاً باسمِ “شعراءِ الأرضِ المحتلة”، هي الأصواتُ المبادرةُ لتحقيقِ الذاتيةِ الفلسطينيةِ في ظلِّ صراعِها القائمِ مع الآخرِ النقيض، إذ باتت إحدى أهمِّ الأدواتِ المشتبِكَةِ مع مقولتِهِ الزائفة حول هُويةِ المكانِ وناسِهِ، لنستمعْ إلى محمود درويش في قصيدتِهِ “بطاقة هوية” الشائعة بعنوان “سجل أنا عربي” عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةٍ وستينَ، وقصيدةِ ” أشدُّ على أياديكم” لتوفيق زياد عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وستين، وغيرِهِما من نصوصٍ شعريةٍ أنتجها شعراءُ الأرضِ المحتلة، ليُشكِّلُوا اللَّبِنةَ الأولى للمقولةِ الوطنيةِ من الداخلِ المحتل في الثورةِ الفلسطينيةِ المعاصرة.
وإذا ما قمنا بمعاينةِ هذه الحقبةِ التاريخية، سنجِدُ أنَّ الكفاحَ المسلَّحَ منتصفَ ستينياتِ القرنِ الماضي، مَهَّدَ الطريقَ على نحوٍ مؤسسٍ لما يمكِنُ تشبيهُهُ بصياغةٍ سرديةٍ فلسطينيةٍ مجابهة؛ فإلى جانبِ الشعرِ، بدأ حضورُ الجنسِ الروائيِّ يأخذُ في التصاعدِ، بوصفِهِ الرافعةَ المُفصِّلَةَ لماهيةِ الذاتِ الفلسطينيةِ، المتكِئةِ على الموروثِ الوطنيِّ من جهة؛ والمستجيبةِ لما يطرَحُهُ الإطارُ الفكريُّ المُنتجُ على خلفيةِ الكفاحِ الثوريِّ المسلحِ من جهةٍ أخرى. حيث تنتمي هذه الأعمالُ كما يُؤكِّدُ فاروق وادي في دراستِهِ لأعمالِ غسان كنفاني “إلى نتاجِ المرحلةِ ذاتِها التي شَهِدَتْ صعوداً سياسياً، فاستجابت لمتطلباتِ السياسةِ من تعليمٍ وتحريض.”(٢)
ونتاجُ المرحلةِ التي شهِدَتْ تبلورَ الفعلِ الفلسطينيِّ الثوريِّ النابتِ من منبعِ الحاجةِ لتسجيلِ الحضور، لم يأتِ على سبيلِ المصادفة، ولم يكُنْ منفصِلاً عن السياقِ العام في المنطقة، حيث “تجدٌّد انبثاقُ فكرةِ القوميةِ العربية وتصاعدُ وتائِرِ صعودِها وانتشارِها بعد أنْ تبنتها ثورةُ يوليو عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ واثنينِ وخمسينَ المصرية، أفضى، بالتضافرِ مع عواملَ أخرى، إلى تجدُّدِ انفتاحِ الهُويةِ الفلسطينيةِ على فكرةِ القوميةِ العربيةِ ومشروعِها الوَحدوي، وذلك على قاعدةِ انتماءِ الثقافةِ الفلسطينيةِ إلى الثقافةِ العربيةِ – الإسلامية، انتماءِ الجزءِ إلى الكل”.(٣) وفقَ رؤيةِ عبد الرحمن بسيسو.
هذه الاستجابةُ دفعت بدلالاتِ سؤالِ الثقافةِ للتمظهرِ الفعَّالِ والمختلفِ في الصراعِ الدائرِ بين محمولِ مقولةِ الأساطيرِ الزائفة، وروايةٍ تربطُ الأحداثَ والأماكنَ والبشرَ بمدارِهِم التاريخيِّ والجغرافي، إذ تمكَّنَ الشعراءُ والمثقفونَ “من تحريرِ أنفسِهِم من القبضةِ الاجتماعيةِ والفكريةِ العقائديةِ للنخبةِ السياسيةِ المساومة”(٤)، على حدِّ تعبيرِ بشير أبو منّة، وذلك خلافاً أو تحدياً للمقولةِ الرائجة بأنَّ المنتصرَ هو من يصنعُ الثقافةَ ويطلقُها.
ولأنَّ “الصورةَ عن الآخرِ تتحررُ، تدريجياً، مما كان يُحيطُ بها من تجريد، دونَ أن يعنيَ ذلك أنَّ الصورةَ عن الذاتِ قد تحررت من أوهامِها”(٥)، على حدِّ قولِ محمود دويش، كان لتداخلِ الثقافي بالسياسي، مبرراتٌ استدعت ضرورةَ تنظيمِ العلاقةِ بين المشروعِ السياسي، ورديفِهِ الثقافي، ما أدى إلى ارتباطٍ تلقائيٍّ بين العفويِّ والمنظَّم، دفع بمثقفٍ سياسيٍّ كغسان كنفاني للدعوةِ إلى ما أسماه في حينِهِ “إصلاحًا ثقافيًّا وأخلاقيًّا، يهدِفُ إلى تغييرِ دلالةِ السياسة، بحيث تنتقِلُ الجماهيرُ المقاتلةُ من وضعِ الأداةِ الاستعماليةِ إلى وضعِ الفاعلِ المبادرِ المتمتِّعِ باستقلالٍ ذاتي”.(٦)
وتغييرُ دلالةِ السياسةِ، يعني بالضرورةِ تغييرَ منظومةِ المفاهيمِ الدالةِ على طبيعةِ العلاقةِ القائمةِ بين السياسيِّ والثقافي، ما أنتج خطاباً سياسياً بمحمولٍ ثقافيٍّ في سياقِ حركةِ التطورِ التي طرأت على الحركةِ الوطنيةِ الفلسطينية، كردةِ فعلٍ طبيعيةٍ لما أصابَ النسيجَ الاجتماعيَّ من حالةِ تشريدٍ وتشرذم، تجلت في المنفى وفي الداخلِ المحتلِّ على حدٍ سواء، حتى منتصفِ ستينياتِ القرنِ العشرين. وهي ردةُ فعلٍ يُمكِنُنا ملاحظةُ تجلياتِها الأولى في قصيدةِ شاعرٍ كمحمود درويش وهو يذكرُ اسمَ فلسطينَ سبعَ مراتٍ في مقطعٍ شعريٍّ واحد، في قصيدتِهِ “عاشقٌ من فلسطين” في العامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وستةٍ وستينَ حين يقول:
فلسطينيةَ العينين والوشمِ
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهمِّ
فلسطينية المنديل والقدمَين والجسمِ
فلسطينية الكلمات والصمتِ
فلسطينية الصوتِ
فلسطينية الميلاد والموتِ
لتصبحَ هذه القصيدةُ وفقَ تحليلِ إلياس خوري، “الأكثرَ تعبيراً عن أسئلةِ الهُويةِ الوطنية، لأنها في إصرارِها على استعادةِ الاسمِ الفلسطيني، قامت بصَوغِهِ انطلاقاً من العلاقةِ الثلاثيةِ بين الأرضِ والتاريخِ واللغة”.(٧)
إن المتتبِعَ لمحطاتِ منظومةِ المفاهيمِ المتغيرةِ بين السياسيِّ والثقافيِّ في الحالةِ الفلسطينية، يلحَظُ حركةَ تنقلِها المتكررِ بين حالٍ طوعيٍّ وآخرَ جبريّ، أي أنها شهِدَت حالاتٍ متقلِّبةً من المدِّ والجزر، مرةً لصالحِ المشروعِ الوطنيِّ المتفقِ على خطوطِهِ العامةِ بلا اتفاق، ومرةً لصالحِ المشاريعِ السياسيةِ المختلَفِ عليها في ظلِّ تفجُّرِ عديدِ الأسئلةِ الضديةِ ما بين سؤالِ الداخلِ والخارج، الحلِّ السلميِّ والمقاومة، إلى آخرِهِ من ثنائياتٍ تَطرحُ سؤالَ الثقافةِ ولا تُجيبُ إلا عن سؤالِ الأنا والآخر برواياتٍ تقِفُ على مسافةٍ واحدةٍ من القضيةِ الأم، فلسطين الأرضُ والإنسان.
على هذا النحو، كان لتنوُّعِ الإجاباتِ عن سؤالِ الأنا والآخر بوصفِهِ مكوِّناً أساسياً من مكوناتِ سؤالِ الثقافةِ في زمنِ الثورة، الدورُ المؤصِّلُ لثقافةِ المقاومة، المناهضةِ لحساباتِ السياسة، بيدَ أنَّ الصراعَ بين هذه وتلك ما زال يُعَدُّ صراعاً محتدماً يتَّسِمُ بالصدامِ اللفظيِّ حيناً، والبراغماتية أحياناً، دونَ الخضوعِ لإكراهاتِ الجغرافيا وشواهدِها المعزولةِ عن سقوفِ التاريخ.
إحالات:
-
فيصل درّاج، ذاكرة المغلوبين، وزارة الثقافة الفلسطينية – ص404
-
فاروق وادي “ثلاثُ علاماتٍ في الروايةِ الفلسطينية” المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص77
-
عبد الرحمن بسيسو، بحث “الثقافة ومعركة الدِّفاع عن الهوية الفلسطينية”، مركز التقدم العربي للسياسات، 2019
-
بشير أبو منّه، “الروايةُ الفلسطينية”، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص25
-
محمود درويش، مقال “إلى الخائفين”، اليوم السابع العدد 271، 17-7-1989.
-
فيصل درّاج، بؤس الثقافة ص142
-
دراسة محمود درويش: الهوية وسؤال الضحية، مجلة الدراسات الفلسطينية ص52- 60