يُثير اختيار أفلامٍ عربيّة في مهرجان “كانّ” السينمائي، في مسابقته الرسمية ومسابقات/تظاهرات أخرى، أسئلة عدّة: النظرة الغربيّة إزاء أفلامٍ ومخرجين/مخرجات عربٍ، يُقيمون في بلدانهم أو يعيشون في المهجر؛ أسباب الاختيار ومعانيه، ثقافياً وفكرياً واجتماعياً؛ مدى الموازنة بين مضمون مهمّ وشكلٍ سينمائيّ، يُفترض به أنْ يستوفي شرطه السينمائيّ البحت.
طرح تساؤلات كهذه، بمناسبة الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) للمهرجان، غير متأتٍ من موقفٍ ثقافي ـ إيديولوجي، يقول باستعلاء غربي، أو بتنازلات عربية. طرحٌ كهذا يسعى إلى فهم حالةٍ، لا إلى مناقشة ما يتردّد عن “علاقات مشبوهة” بين عربٍ وأجانب، تتطلّب من الأوّلين “خضوعاً” للغرب كي يُوافق الغرب على إشراكهم في محافله الثقافية والفنية المختلفة، أو عن “إحساسٍ عربيّ بالمؤامرة”، تلك التي يصفها البعض بأنّها “بطاقة دخول” عربيّ إلى الغرب.
هذا كلّه غير مُفيد (ولعلّه غير صحيح أيضاً، أقلّه بشكل عام) في نقاشٍ، يجهد في فهم آليات اختيار الأفلام كلّها في مهرجانات سينمائية، بعضها مُصنّف “فئة أولى”، كالـ”برليناله” (مهرجان برلين) و”كانّ” و”لا موسترا” (مهرجان فينيسيا). تجارب سابقة تكشف أنّ بعض الاختيار غير متوافق مع أبرز شرطٍ له (الاختيار): الجودة الفنية والدرامية والجمالية والبصرية، التي يجب أنْ تكون غالبة، بل أساسية، في إتاحة مجالٍ أمام فيلمٍ، لعرضه في مهرجان دولي.
آخر مثلٍ على ذلك: اختيار “مفاتيح مُكسَّرة” (2020)، للّبناني جيمي كيروز، لعرضه في برنامج “أفلام أولى”، في الدورة الـ73 لمهرجان “كانّ”، غير المنعقدة في موعدها المحدّد (12 ـ 23 مايو/أيار 2020)، بسبب تفشّي وباء كورونا (نسخة مُصغّرة منها تُقام في 3 أيام فقط، بين 27 و29 أكتوبر/تشرين الأول 2020).
الحجّة، التي يُمكنها أنْ تُبرِّر الاختيار من دون قبولها بالضرورة، كامنةٌ في أنّ البرنامج المذكور معنيٌّ بتقديم أفلام أولى لمخرجين/مخرجات جدد. هذا حاصلٌ أيضاً في تظاهرتين مهمّتين في المهرجان نفسه: “نصف شهر المخرجين” و”نظرة ما”، المهمومتين باكتشاف الجديد (أول و/أو ثاني فيلم). غير أنّ الحجّة تواجه سؤال كيفية الاختيار، فالنتاجات السينمائية السنوية في العالم، الموسومة بكونها أول/ثاني تجربة لصانعيها، كثيرةٌ، والاختيار صعبٌ، والمعاينة النقدية تُفيد بأنّ أفلاماً عدّة منها متمكّنةٌ من شرطها السينمائيّ في مقارباتها المختلفة. أمّا “مفاتيح مُكسّرة”، فمحتاجٌ إلى تأهيل سينمائيّ جذريّ، لخلله ـ الدرامي والفني والجمالي والتمثيلي ـ في قراءة مشهدٍ، إنسانيّ أولاً، يتمثّل بعيشٍ في حيّز جغرافي خاضع لإرهابٍ دينيّ مُسلّح. حكاية الموسيقيّ الشاب كريم (طارق يعقوب)، الذي يُمنع من العزف على البيانو في بلدته (عراقية/سورية !)، بعد سيطرة تنظيم “داعش” عليها. يوميات أناسٍ يعانون قهراً وخوفاً وارتباكات عيشٍ، فيُحاول بعضهم تدبير خروج آمن إلى مهجر أو منفى، للخلاص من الجحيم.
الاشتغالات السينمائية معطّلة، خاصة في مسألتي المعالجة الدرامية، بكلّ ما فيها من حكايات وحالات وتفاصيل مرتبطة بأفرادٍ كهؤلاء، أو بعيشٍ في بيئة “داعشية”؛ والفنّيات المختلفة، خاصة الأداء، فكيروز يختار ممثلين وممثلات لبنانيين لتأدية شخصياتٍ عراقية/سورية، من دون تدريبٍ على نُطقٍ سليم للهجة العراقية/السورية، بالإضافة إلى تمثيلٍ عاديّ (ومتصنّع أو مُبالغٍ فيه أحياناً)، رغم أنّ لبعضهم إمكانيات تمثيلية هائلة.
هذا لن يكون تفصيلاً عابراً، في قراءة سؤال اختيار مهرجانات سينمائية أفلاماً مختلفة. فالخلل، متنوّع الجوانب، في أول روائي طويل لجيمي كيروز، واضحٌ تماماً، ورغم هذا يُتاح له الحصول على وسم “الاختيار الرسمي” من أبرز مهرجان دولي في العالم. ألن يُحرِّض فعلٌ كهذا على التساؤل عن كيفية اختيار الأفلام كلّها، رغم أنّ أفلاماً كثيرة تُعرض في مهرجانات دولية، ويكون بعضُها أوّل فيلمٍ، تمتلك جماليات صناعة بصرية، تمتّع العين والقلب، وتحثّ العقل على تفكيرٍ ونقاشٍ؟
“كفرناحوم”، للّبنانية نادين لبكي، مثلٌ آخر: اختياره في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/أيار 2018) لمهرجان “كانّ” نفسه، يؤدّي إلى فوزه بـ3 جوائز، إحداها مهمّة، لكونها تحمل اسم “جائزة لجنة التحكيم”. مُشاهدته تُثير سؤال الاختيار والفوز، خاصّة أنّ في المسابقة الرسمية أفلاماً أهمّ وأعمق وأقوى، سينمائياً ودرامياً وسردياً وفنّياً، كـ”كتاب الصورة” للفرنسي السويسري جان ـ لوك غودار، الممنوح “سعفة ذهبية خاصّة”، و”يوم الدين” للمصري أبو بكر شوقي، و”شجرة الكمثرى البرّية” للتركي نوري بيلجي سيلان، و”ليتو” للروسي كيريل سِرِبْرنيكوف، مثلاً.
تضافر عوامل عدّة في لحظةٍ واحدة تُساهم في الاختيار والفوز. وضع المرأة، السينمائية خاصة، في العالم، بعد فضيحة المنتج الهوليوودي المستقلّ هارفي وينستين: لـ”كفرناحوم” مُخرجةٌ، لها دعمٌ إنتاجيّ فرنسي فاعل، بفضل مُنتجة تُدعى آن ـ دومينيك توسّان، رغم أنّ في المسابقة نفسها فيلمين لمخرجتين، الايطالية أليس رورفتشر الحاصلة على جائزة السيناريو مناصفة مع الإيراني جعفر بناهي (3 وجوه) عن “لعازر السعيد”، رائعتها الأهمّ من “كفرناحوم”؛ والفرنسية إيفا أوسّون عن “فتيات الشمس”؛ تأثيرات الفضيحة نفسها، والجدل الحاصل بخصوصها في تلك الفترة (“النيويورك تايمز” و”النيويوركر” تكشفان الفضيحة في أكتوبر/تشرين الأول 2017)؛ اختيار كايت بلانشيت رئيسةً للجنة تحكيم المسابقة الرسمية، ولبلانشيت مواقف سلبية من وينستين. هذا كلّه لا علاقة له بـ”كفرناحوم”، فالفيلم غير سويّ سينمائياً، ونظرته إلى وقائع وحقائق لبنانية متعالية وغير واقعية وغير صحيحة، وبعضها يُحسِّن الصورة السيئة لأجهزة أمنية وقضائية. رغم هذا، يتمّ اختياره، ويُمنح إحدى أبرز جوائز المسابقة الرسمية، بالإضافة إلى جائزتي لجنة التحكيم المسكوني لـ”كانّ” (لجنة مستقلّة مؤلّفة من مسيحيين يعملون في مهن لها علاقة بالسينما، كالصحافة والإخراج والتدريس)، و”المواطنيّة”.
أفلامٌ عربيّة جديدة (إنتاج 2022)، مختارة لعرضٍ دولي أول لها في مهرجان “كانّ الـ75” (مسابقة رسمية ومسابقات/تظاهرات أخرى)، غالبيتها لمخرجين/مخرجات مُقيمين خارج بلدانهم العربية، وبعضها القليل يحمل جنسية بلد إقامة المخرج/المخرجة، أي بلد الإنتاج أيضاً: فيلمٌ واحدٌ بينها، “صبيّ من الجنّة” للمصري السويدي طارق صالح، يُعرض في المسابقة الرسمية باسم السويد. في “نظرة ما”، هناك “حمى البحر المتوسّط” للفلسطينية مها الحاج (ثاني فيلم روائي طويل لها بعد رائعتها الأولى “أمور شخصية”)، و”حرقة” للتونسي لطفي ناثان (المُقيم في الولايات المتحدة الأميركية)، و”القفطان الأزرق” للمغربية مريم التوزاني (الفيلمان الأخيران مُشاركان في “مسابقة الكاميرا الذهبية”). 3 أفلام عربية أخرى مُختارة لـ”نصف شهر المخرجين” (أو “أسبوعا المخرجين”)، اثنان منها يُشاركان في “مسابقة الكاميرا الذهبية”: “تحت شجرة التين” للتونسية أريج السحيري، و”السدّ” للّبناني علي شري، بالإضافة إلى “أشكال” للتونسي يوسف الشابي.
تستحيل كلّ قراءة نقدية لتلك الأفلام قبل مشاهدتها. لكنّ مشاركتها في مهرجانٍ دولي كهذا تُشير إلى حيوية الإنتاجات العربية وغزارتها، وبعض جديدها، المُنتج في الأعوام الثلاثة الأخيرة على الأقلّ (بينها عامان موسومان بوباء كورونا)، يشي بتكاملٍ بين تلك الحيوية وجماليات سينمائية، تروي وقائع وحكايات، وتُصوّر حالاتٍ وانفعالاتٍ، بلغة مُثيرة للمتعة والتفكير والتأمّل، لما في نصوصها من أسئلةٍ منبثقة من أحوالٍ فردية (بغالبيتها) وجماعية، في راهنٍ عربيّ مرتبك وممزّق وخائبٍ ومنهار. الأفلام الجديدة تُكمِل، بحسب المتداول عن مواضيعها/حكاياتها/حالات أفرادها، ما يُصنَع في السينما العربية الجديدة، بانتظار المُشاهدة، التي ستكشف، من أمور أخرى، مدى التزامها الشرط السينمائي في قراءة راهن وذاكرة وتاريخ، ومدى صوابية/عدم صوابية اختيارها في “كانّ الـ75”. أفلامٌ سابقة لبعض هؤلاء المخرجين/المخرجات تقول إنّ لدى هذا البعض أساليب اشتغال ترتكز على مفرداتٍ سينمائية تتكامل، في صوغها النصّ السينمائيّ كلّه، مع مضامين تمسّ جوهر الفرد وجماعته، في زمنٍ عربيّ آنيّ.
إلى ذلك، هناك تشكيل لجان التحكيم، الذي يمنح عرباً مواقع لهم فيها. هذا يطرح، أحيانا، سؤال الاختيار، إذْ أنّ أسماء عربية عدّة أقلّ أهمية من أسماء أخرى، ومع هذا يتمّ اختيارها، أحياناً، في تلك اللجان. الدورة الـ75 لمهرجان “كانّ” تؤكّد أنّ للمهنيّة والحِرفيّة حضوراً وأولوية، أقلّه في هذا الإطار: المخرج المصري يُسري نصرالله رئيساً للجنة تحكيم “سينيفونداسيون” والأفلام القصيرة، والمخرجة التونسية كوثر بن هنيّة رئيسةً للجنة تحكيم مسابقة “أسبوع النقّاد”، وهذا برنامج/مسابقة له أهميّة فنية وثقافية، لكونه حيّزاً للنقّاد السينمائيين، يُتيح لهم اختيارات ونقاشات تؤدّي بهم إلى منح جوائز لأفلامٍ جديدة. هذا لن يحول دون اختيار من لا علاقة له بالنقد في لجان التحكيم.
هناك أيضاً المغربي هشام فلاح، المدير العام لـ”مهرجان الفيلم الوثائقي في أغادير”، المختار لعضوية لجنة تحكيم “العين الذهبية”.
رغم هذا كلّه، ورغم أخطاء وخلل في دورته الـ75 (أعطال تقنية تحول دون تمكّن نقاد وصحافيين سينمائيين من حجز مقاعد لهم لمشاهدة أفلام المسابقات المختلفة؛ فرض إدارة المهرجان على نقاد وصحافيين سينمائيين الاطّلاع على نصوص الحوارات التي تُجرى مع مسؤولين فيها قبل نشرها، ما يؤدّي إلى تدخّلها في الحذف والتصحيح والمنع؛ إلخ.)، يبقى مهرجان “كانّ” قُبلة السينما والسينمائيين/السينمائيات، ومرجعاً ـ أبرز وأهمّ ـ في الاكتشاف والتقديم والدعم.