الحكي فعل حب: حب للمحكي لهم؛ حب للحكاية؛ وغالباً حب للمحكي عنهم. لذا يقترن الحكي بالأم والجدة، التجسيد الأكبر للحب. وبينما لم تكن أمي Nahed Abul Ela استثناءً في ممارستها للحكي، فإن محتوى حكيها يختلف عن الشائع. فهذه المرأة العصرية بامتياز لم تكن شغوفة بحكايات مثل الشاطر حسن وأمنا الغولة وما شابه مما تركته لجدتي، ولا أذكر مما كانت تقرأه لي في سنوات الطفولة المبكرة بتأثر بالغ سوى قصة “الأرنب يبحث عن ماما” التي يتعلم الأطفال من خلالها التمييز بين أنواع الحيوانات المختلفة بينما تتسرب إلى دواخلهم، عبر رحلة الأرنب الصغير بحثاً عن أمه التي تاه عنها، مشاعر الحب الفطري بين الأم والوِلد (بكسر الواو). وعلى الفور انتقل لي عبر صوتها الساحر تأثرها بالقصة، وصرت كلما ابتعدت عنها (لشهور بسبب السفر أو حتى لسويعات قليلة) افتقدها أشد الافتقاد، واستحضر قصة “الأرنب يبحث عن ماما”، والأمر المؤكد أن الأرنب داخلي لا يزال وسيظل يبحث عن ماما…
لكن حكايات أمي عدا ذلك وبعده كانت منسوجة من الواقع المعاش، لا يكاد يلعب الخيال فيها دوراً في مضمون الحكاية أو وقائعها، بل في طريقة سردها وإبراز مغزاها بطبقات الصوت ونبرته ونظرة العينين وتعبيرات الوجه وحركات اليدين، حكايات عاشت وقائعها واختارت أن تعيدها على مسامع من تحب المرة تلو الأخرى بما يناسب لحظة أو موقف ما.
سأقص عليكم هنا واحدة من حكايات أمي تحمل العنوان الغريب الوارد أعلاه، علماً بأن الاستماع إليها منها مباشرةً أحلى وأغنى وأدفأ بما لا يقاس، وسأعرج منها إلى قصة أخرى فرعية لما بين القصتين من دلالة مشتركة على طبيعة الحس الأخلاقي عند أمي.
***
التحقت أمي بكلية الهندسة، جامعة القاهرة، في مطلع الستينات وسرعان ما برزت بين أقرانها بتفوقها الدراسي وشخصيتها الدمثة المحببة وانكبابها على مختلف الأنشطة من رحلات ومسابقات رياضية وثقافية وغير ذلك. وبطلة قصتنا هي زميلة لها في الكلية كانت تحمل نفس اسمها، ناهد. ناهد الأخرى هذه جاءت على ما يبدو من خلفية محافظة حديثة العهد بالمدينة، ووجدت صعوبة في الاندماج في أجواء الحياة الجامعية القاهرية الصاخبة والمتحررة، وهي صعوبة فاقم منها خجلها وانعزالها النسبي فضلاً عن ضعف تحصيلها العلمي إلى جانب ارتدائها الحجاب، وهو الأمر النادر جداً وقتها حتى أن أمي تكاد تجزم بأن زميلتها هذه كانت الفتاة الوحيدة التي ترتدي الحجاب في الكلية آنذاك.
تعاطفت أمي مع ناهد الأخرى، و”صعبت عليها” هذه الفتاة الخجولة المنعزلة وحرصت على التفاعل معها وإخراجها من عزلتها وأخذت تساعدها على استيعاب ما صعب عليها من دروس والأهم أنها راحت تشجعها على الاندماج في الحياة الجامعية الواسعة. وإزاء هذا العطف وتلك المساعدات القيمة، تعلقت ناهد بأمي جداً ونشأت بينهما صداقة متينة.
وإذ لمست ناهد المحجبة مقدار ما في زميلتها وصديقتها وسمّيتها ناهد، أمي، من مودة إنسانية وحب للخير وطيبة واستعداد لمد يد العون للغير، راحت تُعبِّر لها مراراً وتكراراً عن امتنانها، مؤكدة في الوقت نفسه أن أمي لا ينقصها، بكل هذا السمو الأخلاقي، سوى أن “تلتزم دينياً” بالانتظام في الصلاة وسائر العبادات.
وتروي أمي أنها لم تكن سعيدة بهذا التطفل على حياتها الخاصة ولم تكن متحمسة للدخول في نقاشات دينية وفلسفية مع زميلة لها طيبة القلب لكنها ضحلة الثقافة ومفتقرة إلى العقل النقدي، ولم تكن بها رغبة في الوقت نفسه لصدم صديقتها بالإعراب لها عما يساورها في سن الشباب والجموح هذه من شكوك إزاء الدين وما يعتريها من شغف بالمعرفة وانفتاح على العالم ينأى بها عن التدين التقليدي، ولذا فإنها كانت تتهرب من إلحاح صديقتها بتغيير الموضوع تارة ومسايرتها تارة ووعدها بأن تفكر في الأمر تارة، وهكذا.
وذات مرة، وإزاء إلحاح صديقتها عليها، نفد صبر أمي وقالت لصديقتها شيئاً من قبيل: “اسمعي يا ناهد؛ أنا إنسانة لديّ حس روحاني ما ومحبة للخير، لكنني لست مقتنعة بالتدين التقليدي الطقوسي؛ تقدري كده تقولي إني بوذية”. وتؤكد أمي أنها في ذلك الوقت لم يكن لديها سوى فكرة مبهمة جداً عن البوذية، ولم تعن ما قالته حرفياً، لكنها قصدت بذلك الاستخدام العابر لكلمة “بوذية” أنها تشعر داخلها بشيء ما يربطها بالإنسانية والكون والمقدس دون اقتناع بالتدين التقليدي واتباع تعاليم ديانة معينة لمجرد أنها نشأت في محيط يدين بها. القصد، أغلقت أمي باب النقاش في موضوع الدين مع صديقتها، وبدا أن هذه الأخيرة قبلت منها هذا ولو على مضض.
***
فاست فوروورد إلى أوائل السبعينات… عشرة أعوام جرى فيها ما جرى من زلازل وتغيرات على الصعيدين العام والخاص: شكَّلت هزيمة 67 صدمة قاتلة لأحلام المجد القومي التي داعبت جيل أمي بقوة وغاب عبد الناصر عن الساحة تاركاً فراغاً هائلاً؛ وتخرجت أمي من الجامعة وتزوجت من أبي ثم أنجبت ابناً فبنتاً وراحت، وهي الطالبة المتفوقة، تستكمل الدراسات العليا في الهندسة بينما تخوض غمار حياة العمل وبناء أسرتها الصغيرة في آن واحد، وفي خضم ذلك كله انقطعت صلتها بصديقة سنوات الجامعة الطيبة المتدينة ناهد.
وفجأة يجيء زلزال خاص هذه المرة يعصف بحياة أمي، وهو رحيل أبيها عن دنيا الناس فجأة في ديسمبر 72. فقدان الأب في سن الشباب فاجع، فما بالك إن كان الأب هو فارس أحلام ابنته ومثلها الأعلى وصديقها الحميم. سيأتي فيما أرجو أوان الحديث عن جدي لأمي، هذا الطبيب الواسع الثقافة المتنوع المهارات والاهتمامات والمفعم بالإنسانية، الدكتور جلال أبو العلا ابن الشيخ أبو العلا محمد رائد التلحين ومعلم أم كلثوم الأول. لكن لكي لا أقطع سير القصة التي ترويها أمي فدعوني أكتفي بالقول بأن رحيله هز كيانها بعمق.
القصد، تجلس أمي منهارة في عزاء أبيها، فإذا بها تجد من بين المعزين صديقة الجامعة ناهد التي ظلت على طيبتها الأولى وتدينها البكر. تأثرت أمي كثيراً بوفاء صديقتها مثلما تأثرت ناهد الأخرى بحزن أمي، فإذا بها تحتضنها وتشاطرها الأحزان وتكفكف دموعها. لكن يبدو أن ناهد لم تنس عبارة أمي العابرة التي ذكرتها لها قبل نحو عشر سنوات، ومن فرط تدينها وخوفها على مصير والد صديقتها في حياة الخلد، سألتها على استحياء السؤال التالي: “وبابا الله يرحمه… كان بوذي برضه”؟!! فإذا بها تنتزع الضحك والقهقهة من قلب الدموع والأحزان.
***
فاست فوروورد إلى أوائل الثمانينات… عشر سنوات أخرى مضت. وحكاية أخرى أسيرة لدى أمي كنتُ أنا شاهداً عليها وطرفاً فيها هذه المرة. أنا الآن مراهق يتلقى العلم في مدرسة العائلة المقدسة (الجيزويت) المشهورة بصرامتها الشديدة إلى جانب جودة ما تقدمه من تعليم. أثناء حالة هرج ومرج في الفصل بين حصتين، يدخل المشرف الإداري الأستاذ نادر لكي يعيد إلى الفصل انضباطه ويلاحظ هياجاً غير عادي في صفوف الطلاب يثير حسه الأمني بحثاً عن الباعث عليه، ثم يشاء حظي العاثر أن يلمح الارتباك في عيني فينقض عليّ ويضبطني متلبساً بالنظر في ورق كوتشينة عليه صور نساء عاريات.
جرى اقتيادي إلى مكتب الناظر، الأب نبيل (Père Nabil) الذي كنا نرتعد خوفاً لمجرد ذكر اسمه. وبعد فاصل من النظرات الغاضبة الثاقبة والتوبيخ وأسئلة التحقيق جاء قراره بفصلي من المدرسة ثلاثة أيام. كان هذا في منتصف اليوم الدراسي الطويل في المدرسة، والذي كان ينتهي في الرابعة مساءً. وبعد خروجي من المدرسة وتمالكي لأعصابي بعض الشيء، هدتني “ذكاوتي” إلى الذهاب للنادي والتسكع لحين مجيء وقت عودتي الطبيعي إلى المنزل، وكأن شيئاً لم يكن!!
ما لم يتفتق عنه ذهني هو أن المدرسة اتصلت تليفونياً بالمنزل وأبلغت أمي بما حدث، وإن امتنع المتحدث عن شرح سبب العقوبة، مكتفياً بالقول بأنني ارتكبت فعلاً جسيماً يستحيل الإفصاح عنه هاتفياً!
القصد، رجعت إلى البيت وبراءة الأطفال في عينَيْ، وبعد بعض الأسئلة واجهتني أمي بحقيقة معرفتها بما حدث، فإذا بي أنهار أمامها معترفاً باكياً!
بعد أن هدأت أمي من روعي، لقنتني درساً لن أنساه: قللت تماماً من أهمية السبب الذي أدى إلى فصلي من المدرسة ثلاثة أيام من جهة، لكنها من جهة أخرى صبت عليّ جام غضبها لأنني كذبت عليها، مؤكدةً لي أن كل شيء يمكن التسامح معه إلا الكذب، الذي وصفته بأنه نقيصة كبرى في الشخصية، ودليل على الجبن وانعدام الأمانة والنزاهة، وأنه مفتاح الشرور كلها في هذه الدنيا!
لا تزال كلماتها عن هول الكذب وشناعته ترن في أذني؛ لكن هذا لم يكن هو الدرس الوحيد في هذه المناسبة. ففي صباح اليوم التالي، اقتادني إلى المدرسة وطلبت مقابلة الناظر المخيف الأب نبيل الذي أصر عند استقباله لها على بقائي خارج المكتب.
وبعد نحو خمس دقائق مرت عليّ كالدهر، جرى استدعائي لدخول المكتب، وعلمت بعدها أن ذلك تم بناء على إصرار أمي. كانت خلال الدقائق الخمسة قد أبدت اعتراضها على العقوبة التي أنزلها بي الناظر وطلبت منه تفسيراً لها، فقال الأب نبيل إنني ارتكب خطيئتين جسيمتين: الأولى هي نظري بإمعان في أوراق الكوتشينة الفاضحة، والثانية هي إصراري على عدم الإفصاح عن هوية زميلي الذي أتى بها إلى المدرسة.
هنا أصرت أمي على دخولي إلى المكتب، وقالت للأب نبيل أمامي: أما عن الخطيئة الأولى، فإن “ما فعله ابني” هو أمر “طبيعي” للغاية، وهو أن تستوقفه وتستلفت نظره وهو الفتى المراهق صورٌ كهذه، مؤكدةً أن غير ذلك كان سيكون هو السلوك المقلق بحق على تركيبة ذلك الفتى النفسية! أما عن الخطيئة الثانية، وهنا علت نبرة أمي، “فاسمح لي mon père أن أقول إنني فخورة بابني الذي أبى أن يفتن على زميله وصديقه، واسمح لي أن ألاحظ أنكم تريدون، باسم طاعة السلطة، تنشئة جيل جبان يمارس الغدر والوشاية لكي ينجو بنفسه من العقاب، وأنا أدعوك بمنتهى القوة إلى إعادة النظر في هذا الأمر، وأؤكد مرة أخرى فخري بابني وبشجاعته وشهامته وحسن أخلاقه”.
لم يزد على انفراج أساريري و”انشكاحي” في هذه اللحظة سوى دهشتي إذ أرى Père Nabil مستكيناً أمام سلامة منطق أمي، التي سرعان ما أضافت لكي تعيدني إلى جادة الصواب أن خطيئتي الحقيقية هي كذبي عليها وأنها وبختني بما تظن وتأمل أن فيه الكفاية على هذا، وتأمل في الوقت نفسه أن يعتدل ميزان القيم المقلوب في المدرسة!
***
لا شك عندي أن روايتي للواقعتين/الحكايتين تفتقر إلى سحر الحكي عند أمي، وما باليد حيلة! لكن ما هو القاسم المشترك بين الحكايتين؟ هو في تقديري حس أمي الأخلاقي الصارم والراقي في غير تقليدية. فعل الخير عندها، في الحكاية الأولى، لا ينبع من دين بعينه ومن تدين تقليدي طقوسي، بل من فطرة إنسانية سليمة وتنشئة تغذيها، والعيب في الحكاية الثانية لا يتمثل في انتهاك بريء وطبيعي لأعراف السلوك السليم المحافظة بل في الكذب الذي تورط فيه ابنها والحض على الوشاية الذي تورط فيه ناظر المدرسة مهيب الجانب!
***
كم أنت جميلة نبيلة رقيقة قوية… ويبقى الأرنب يبحث عن ماما..