من كتاب «فضيحة القرن» (el escandalo del siglo) عن دار فينتاج إسبانيول عام 2018.
نُشر في الأصل في جريدة الباييس عام 1982.
دَفعَني طَيشي مُؤخّرًا إلى أن أقول لمجموعةٍ من طلّابي عن إمكانيّةِ تعلّم الأدب العالمي في ظهيرة واحدة، أجابَتني على الفور فتاةٌ من المجموعةِ متعصّبةٌ للأدبِ الجميلِ وناظمةٌ للأشعارِ الغزليّة: “متى يُمكننا المجيء إذًا كي تعلّمنا هذا؟”.
هكذا قدِم الطلّاب يوم الجمعة التالي عند الثالثة عصرًا وتحادثنا حول الأدب حتّى السادسة، لكننا لم نتمكن من إتمام الرومنسيّة الألمانيّة، لأنهم هم أيضًا، ارتكبوا حماقةَ قبولِ دعوةٍ لحضور حفل زفاف في نفس اليوم. قلتُ لهم أنّ أحد شروط تعلّم الأدب بأكمله في ظهيرة واحدة هو بالضرورة عدم قبول دعوة لحضور حفل زفاف وندوة لتعلم الأدب في ذات اليوم، ذلك أنّ الوقت المُتاح للمرءِ للزواج والهناء يفوق بأضعاف ذاك المتاح للإلمامِ بالشِّعر.
كل شيءٍ كان قد بدأ واستمرّ وانتهى على سبيل الدعابة، لكنّه وفي نهاية الأمر خلّف لديّ كما لدى الطلّاب الانطباع ذاته: على الرّغم من أنّنا لم نتعلّم الأدبَ خلال ثلاث ساعات، إلّا أنّنا شكّلنا على الأقل مفهومًا مقبولًا إلى حدٍّ ما دون الحاجة لقراءة جان بول سارتر.
إذا ما قرأ المرء كتابًا وأبهره أو إن استمع إلى موسيقى وأعجبته فالدّافع الطبيعيّ هو البحث عن شخصٍ ما لإخباره عن ذلك. حدثَ لي هذا عندما اكتشفتُ بالصدفة خماسيّة بيلا بارتوك للرباعية الوترية والبيانو والذي لم يكن معروفًا حينئذ. تكرّر ذلك عندما سمعتُ مصادفةً في إذاعة السيارة كونشرتو جميلًا جدًا ونادرًا لأوتورينو ريسبيجي على آلة الكمان. كان من الصعب جدًا العثور على أعمالهما ولم يسبق لأيٍّ من أصدقائي المحبين للموسيقى أن سمع عنهما، لذلك قمتُ بقطعِ مسافاتٍ طويلةٍ في محاولة العثور على الأسطوانتين والاستماع إليها مع شخصٍ ما.
أمرٌ مشابهٌ يحدث لي منذ عدّة سنوات مع رواية بيدرو بارامو لخوان رولفو، أعتقد أنّني قمتُ بتوزيع طبعةٍ كاملةٍ منها حتّى اليوم كي يتوفّر لديّ بشكلٍ دائم نسخًا متاحة ليأخذها الأصدقاء معهم بشرطٍ وحيدٍ هو أن نلتقي في أقربِ وقتٍ ممكن للحديث عن ذلك الكتاب المحبّب.
بالتأكيد، أوّل شيء كنت قد شرحته لطلاب الأدب الجيّدين لديّ هو فكرتي التي ربّما تكون شخصيّة جدًّا ومبسطة عن طريقة تدريسي لهم.
في الواقع، لطالما اعتقدتُ أنّ محاضرةً عن الأدب الجيّد لا ينبغي أن تكون أكثر من دليلٍ للكتبِ الجيّدة التي عليهم أن يقرؤونها. لا يحتوي كلّ عصرٍ على العديد من الكتب الأساسيّة على خلاف ما يدّعيه المعلّمون الذين يُسعدون بترويع طلابهم، وبالإمكان مناقشتها كلّها في أمسيةٍ واحدة شريطة عدم وجود موعدٍ لحضور حفلة خطوبة أو زفاف لا مفرّ منه.
تُعدّ قراءة هذه الكتب الأساسيّة بمتعةٍ وتركيز أمرًا فريدًا للغاية يمتدّ بطبيعةِ الحال على مدار العديد من فترات ما بعد الظهيرة في الحياة، لكن إذا كان الطلاب محظوظين كفاية ليكونوا قادرين على القيام بذلك فسينتهي بهم الأمر إلى معرفة الكثير عن الأدب معرفةً عميقةً تضاهي معرفة أكثر معلميهم ضلوعًا وخبرة.
الخطوة التالية هي الأكثر إخافة: التخصّص. تليها مباشرة خطوة أخرى تعد من أكثر ما يمكن القيام به غِلظًا في هذا العالم ألا وهي المطالعة. لكن في حال كان ما يريده الطلاب هو التباهي وحسب فلن يضطروا إلى المرور بأيّ من تلك “المُطهّرات” الثلاثة، كلّ ما عليهم هو شراء مجلّدين من عمل العناية الإلهية المسمى “ألف كتاب” الذي ألّفه كلّ من لويس نويدا ودون أنطونيو إسبينا عام 1940 وأدرجا فيه أكثر من ألف كتاب أساسيّ في الأدب العالمي حسب الترتيب الأبجدي مرفقة بفكرة كلّ كتاب ونبذة عنه وموجز تعريفيّ رائع عن مؤلفه والحقبة التي صدر فيها.
بالطبع إنّه كمّ هائل من الكتب يفوق ما هو مطلوب لندوة مسائية، لكنّ الاطلاع على هذا المجمع الضخم له ميزة وهي أنّه لا يتعيّن عليهم قراءة كل تلك الكتب ولا ينبغي الخجل من ذلك، إذ أنّني أحتفظ بهذين المجلدين المنقِذين على طاولة مكتبي منذ سنوات عديدة وقد أنقذاني من صعوباتٍ خطيرة في جنّة المثقّفين، كما ولأنّني أعرف محتواها يمكنني أن أؤكد لكم أنّ العديد من نجومِ الحفلات الاجتماعيّة وكتّاب الأعمدة الصحفيّة يمتلكونها ويستخدمونها.
لحسن الحظ فإنّ كتب العُمر ليست بالكثيرة، منذ فترة وجيزة سألَت مجلة بالوما من بوغوتا مجموعة من الكتّاب عن أهمّ الكتب بالنسبة لهم وطلبت الاستشهاد بخمسة كتبٍ فقط دون ذكر البديهية منها كالكتاب المقدس أو الأوديسة أو دون كيشوت.
كانت قائمتي النهائية كالتالي: ألف ليلة وليلة، أوديب ملكا لسوفوكليس، موبي ديك لهرمان ملفي، وغابة الشعر الإسباني وهي مختارات من تأليف دون خوسيه ماريا بليكوا تُقرأ كرواية بوليسية، وقاموس للغة الإسبانية على ألا يكون بالطبع قاموس الأكاديمية الملكية.
القائمة قابلة للنقاش بالطبع مثل جميع القوائم وتُقدّم موضوعًا للحديث عنه لساعات عديدة، لكن أسبابي لطرح هذا بسيطة وصادقة، إذ أنّني إن لم أكن قد قرأت سوى هذه الكتب الخمس -إلى جانب الكتب البديهية بالطبع- لكان لديّ ما يكفي لكتابة ما كتبته، بمعنى أنها قائمة مهنيّة بامتياز. على أنّني لم أصل إلى موبي ديك بتلك السهولة، في البداية كنت قد وضعت مكانها كونت مونت كريستو لألكسندر دوماس والتي هي باعتقادي رواية مثالية، لكن ولأسبابٍ هيكليّة بحتة كانت رواية أوديب الملك أكثر إرضاءًا لهذا الجانب.
لاحقًا فكّرت في رواية الحرب والسلام لتولستوي والتي برأيي هي أفضل رواية كُتِبت في تاريخ هذا النوع، لكنّها في الواقع رائعة جدًّا لدرجة بدا لي أنّ من العدل حذفها من قائمتي وضمّها إلى الكتب البديهيّة المتّفق على عظمتها.
من ناحيةٍ أخرى منحني موبي ديك، الذي يعد هيكله الفوضوي أحد أجمل الكوارث في الأدب، نَفَسًا أسطوريًا كنت سأفتقدهُ بلا شكّ في الكتابة.
في جميع الأحوال يقودنا كلّ من استفتاء الكتب الخمسة ودورة الأدب في ظهيرةٍ واحدة إلى التفكير مرّة أخرى في العديد من الأعمال التي لا تُنسى والتي نسيتها الأجيال الجديدة بالفعل.
ثلاثة منهم، منذ ما يزيد عن عشرين عامٍ بقليل كانوا في الصفوف الأولى: الجبل السحري لتوماس مان، وقصة القديس ميشيل لأكسيل مونثه. ومولنيس العظيم من تأليف هنري ألان فورنييه. أتساءل كم عدد طلاب الأدب في وقتنا الراهن -حتى الأكثر اجتهادًا منهم- الذين تكبّدوا عناء التساؤل عمّا يمكن أن يوجد داخل هذه الكتب الثلاثة المهمّشة.
لدى المرء انطباع أن مصيرهم كان غاية في الروعة لكن أيضًا أنّهُ كان مؤقّتًا كأعمال البرتغالي إيجا دي كيروز والفرنسي أناتول فرانس، كنقطةٍ مقابلة تأتي أعمال ألدوس هكسلي التي كانت مثل الحصبة في سنواتنا الزرقاء وأيضًا رجل الأوّز للكاتب جاكوب وازيرمان الذي ربّما يندرج في خانة الحنين إلى الماضي أكثر منه في خانة الشعر، أو المَحافظ المزيفة (المزيِّفون) لأندريه جيد والتي ربّما كانت أكثر زيفًا ممّا اعتقدهُ مؤلّفها نفسه.
هناك حالة واحدة مفاجئة في ملاذ الكتب المحالة إلى التقاعد ذاك ألا وهي حالة الروائي الألماني هيرمان هيسه والتي جاءت كنوع من الانفجار المذهل عندما حصل على جائزة نوبل عام 1946 ثم سقط في النسيان، لكن في السنوات الأخيرة تمّ إنقاذ كتبه بنفس القوة التي كان عليها في الماضي على يد جيل وَجدَ فيها ميتافيزيقية تتزامن مع شكوكه الخاصة.
بالطبع كلّ ما سبق ليس مقلقًا على الإطلاق لكنه أشبه بالأحجية الحقيقة أنّه لا يتوجّب أن تكون هناك كتب إجباريّة أو كتب للتكفير عن الذنب أو ما شابه وأنّ الطريقة المثلى هي التخلي عن الكتاب عند الصفحة التي تصبح معها القراءة لا تطاق. مع ذلك هناك صيغة معينة بالنسبة للمازوشيين الذين يُفضلون المضي قدمًا على الرغم من كلّ شيء: أن يضعوا الكتب غير المقروءة في المرحاض، ربّما وبعد عدّة سنوات من الهضم الجيّد يمكنهم الوصول إلى النهاية السعيدة لـلفردوس المفقود لِجون ميلتون.