أعلنت لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي بأنهم واعتبارًا من يوم الأحد 28/8/2022، فإنهم سيدخلون في حلٍ تنظيمي، سوف يستمر حتى مع دخولهم في الإضراب عن الطعام. فما معنى أن يقوم الأسرى بإعلان حل التنظيم السياسي في “السجن”؟ ثم كيف يتماهى هذا الشكل النضالي في الحياة اليومية للأسرى الفلسطينيين؛ وذلك كمقاومة أسميها هنا “الفوضى الصوتية”؟
في محاولة لتفكيك هذا الشكل النضالي فإنني سوف أستند على تأطير أدوار المسرح عند إرفنغ غوفمان، حيث تتشكل المواقع الأمامية والمواقع الخلفية، وسوف أدعي من خلال ذلك بأن حل التنظيم السياسي قد أعاد إرباك الأدوار الأمامية والخلفية؛ وذلك كمواقع أمامية تتجسد عليها أصوات “ممثلي” الفصائل التنظيمية، ومواقع خلفية تتجسد عليها أصوت الأسرى.
مَكمَّن التنظيم السياسي
أطرح الخطاب العام حول مَكمَّن التنظيم السياسي من وجهة نظر الفلسطينيين:
الجانب الأول: إن التنظيم السياسي لهو من الأهمية الضرورية في ضبط العلاقة مع إدارة “السجن”، وذلك في محاولة لمنع تعريض أيًا من الأسرى الفلسطينيين لوضعية الاستفراد به من قبل “إدارة السجن” بهدف ضغطه أو تهديده. يأتي ذلك في سياق حياة يومية قائمة بالأساس على التقسيم الفصائلي لتنظيم هذه العلاقة مع “إدارة السجن”؛ فهناك قسم لأبناء حركة حماس، وقسم لأبناء حركة فتح، وقسم لأبناء الجهاد الإسلامي، وقسم للجبهة الشعبية… الخ، ويكون لكل تنظيم من هذه التنظيمات عنوان وهو “الممثل” والذي يشكل نقطة التواصل ما بين الأسرى من التنظيم الذي ينتمي إليه وما بين “إدارة السجن”.
الجانب الثاني: تنظيم الأنشطة اليومية في داخل “السجن”، من قبيل مواعيد الأكل ومن يقوم بإعدادها، وأوقات الخروج إلى الساحة أي “الفورة”، ومواعيد الجلسات الثقافية للغرف وإدخال الملابس وقائمة “الكانتين”… الخ، وهو ما يعني الحدّ من الإشكاليات التي قد تنتج بفعل “العشوائية” في تنفيذ الأنشطة الروتينية اليومية بين الأسرى؛ في حيّز مغلق محدود حيث كثافة العدد؛ عدد الأسرى.
إن هذه الجوانب لمن الأهمية الكبيرة بحيث أنتجت تنظيمًا يوميًا إلى حدٍّ ما “سلطويًا”؛ وإن كنت في هذا الصدد لا أتطلع إلى تفكيك ماهية السلطوية بقدر ما أريد أن أتطلع إلى أهمية خطوة حل التنظيم السياسي في داخل “السجن”، والذي ينفذه الأسرى الفلسطينيين كخطوة تصعيدية قبيل إقرار اللحظة الثورية الأكبر وهي لحظة الإضراب عن الطعام.
فما معنى حل التنظيم السياسي بالنسبة إلى إدارة “السجن”؟
إنه بكل تعقيداته إنما يتجسد في وجود شخصية “الممثل”؛ فإذا ما أخذنا بالاعتبار أن “السجن” قائم على أساس التقسيم الفصائلي فإن هذا يضعنا أمام واقع يتشكل عليه “ممثل” لكل فصيل سياسي، يُعهد إليه تنظيم العلاقة ما بين أسرى فصيله السياسي وما بين “إدارة السجن”، ثم العمل على تنظيم الأنشطة اليومية في داخل “السجن” بين أسرى التنظيمات المختلفة، أما في الحالة التي يُعلن عنها الأسرى حل التنظيم السياسي فإن التنظيم بممثله يصبح غير مسؤول بتاتًا عن أي تصرف يسلكه أي أسير ضمن فصيله، وغير مسؤول عن تنظيم الحياة اليومية للأسرى الفلسطينيين، وهو ما سوف يترتب عليه اضطرار إدارة السجن للتحدث مع جميع الأسرى، وليس مع ممثلين عنهم ، ما يؤدي إلى ما أطرحه في هذا المقال بـإرباك المواقع الأمامية والخلفية.
فما الذي تعنية حالة الإرباك هذه؟
يعتقد إرفنغ غوفمان بأن استخدام المسرح في التحليل سيمكننا من فهم التفاصيل الدقيقة والخفية في حياتنا، معتبرًا أن سلوكنا في حضور الآخرين إنما هو أداء، نسعى من خلاله إلى التلاعب في انطباعات الآخرين عنا(1)، وهو ما يعني في سياقنا هنا إنتاج انطباعات واعية تحمل سمات الغضب؛ الغضب على سياسات “إدارة السجن” قبيل التوجه للحدث الأكبر أي حدث الإضراب عن الطعام، جاء ذلك عبر تصعيدًا سُمّي “حل التنظيم”؛ وهي حالة اضطرت فيها “إدارة السجن” للاستماع إلى كل الأسرى الفلسطيينين في آن واحد، وتنفيذ مطالبهم في آن واحد، وهو ما أعني به الفوضى الصوتية التي توجب على إدارة السجن الإصغاء لكافة أصوات الأسرى وليس لممثلين عن تنظيماتهم التي ينضوون بداخلها.
وفي هذا الإطار يجب أن نوضح طبيعة الأدوار على المسرح، فهناك المواقع الأمامية وهناك 'المواقع الخلفية”. وإذا كان جوفمان يرى أن الحياة الاجتماعية تشبه إلى حد بعيد ما يدور على خشبة المسرح، فإن المواقع الأمامية تمثل ما يؤديه الفاعلون من أدوار رسمية؛ تلك الأدوار التي تتباين عما يؤدونه في “الكواليس” أو ما يطلق عليه المواقع الخلفية، أو بمعنى آخر أن أنماط السلوك التي تؤدى على خشبة المسرح باعتبارها مواقف رسمية تؤدى في حضور السلطة تتباين عما يدور في كواليس المسرح حيث تظهر فيه (2)، وفي سياقنا هذا فإننا لا نتحدث عن حياة اجتماعية بقدر ما نتحدث عن حياة تتكرس فيها ما يطرحه جورج أغامبين بالشمولية الحديثة وذلك كحرب قانونية تتيح إمكانية التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة لسبب أو لآخر بأنهم غير قابلين للاندماج في النظام السياسي(3)، وهنا فإن المسرح في سياقنا لا يتشكل في الحياة الاجتماعية بقدر ما يتشكل في سياق حرب شمولية “قانونية” على المقاومين الفلسطينيين والتي تستهدف المنظومة الاستعمارية أجسادهم عبر سيادة مطلقة؛ سيادة “إلهية” في إطار حياتهم اليومية، وعلى أرضية هذه الحرب الشمولية تتخلق المواقع الأمامية حيث “الممثل” والمواقع الخلفية حيث “الأسرى”، ولكن؛ هذه الحرب الشمولية لا ينتابها النفاق والخوف أمام السلطة؛ والقوة خلف السلطة؛ كما في الحياة الاجتماعية التي ناقشها أغامبين بقدر ما تتوزع فيها المواقع بين الأسرى ذاتهم لضبط حلقة التواصل مع إدارة السجن في سياق استعماري مطلق على الجسد المقاوم، فكان إرباك المواقع الأمامية والخلفية فوضى صوتية شكلت وأنتجت الصوت الجماعي الموحد للأسرى نحو المطالبة بردع سياسات “إدارة السجن” والتي عادة ما تنفذها من خلال سياسة الإهمال الطبي، والغرف الضيقة، والأكل الردئ، والعزل في الزنازين الانفرادية، والعقوبات الجماعية، وإدخال الملابس والكتب للأسرى..الخ، إنها لمفارقة كبيرة أن يضحى الصوت الفوضوي صوتًا جماعيًا ضاغطًا بقوة!
الفوضى المنظمة
إن هذه الفوضى الصوتية في المواقع الأمامية والمواقع الخلفية لا تَنفَذُ إلى الحياة الاجتماعية بين الأسرى ذاتهم، وإنما هي خطوة تصعيدية تتشكل ما بين الأسرى أنفسهم وما بين “إدارة السجن”، يطرح راضي الجراعي بأن الأسرى الفلسطينيون عندما يعلنون حل التنظيم فإنهم يعلنوه في وجه “إدارة السجن”، ولا علاقة له بحل التنظيم السياسي ذاته في “السجن”، فداخليّاً تستمر حالة من التوجيه(4)، وإذا ما تحدثنا هنا عن التوجيه فإننا نتحدث عن قيام هذه التنظيمات السياسية بممثليها بتنظيم هذه الفوضى الصوتية عبر فعل التوجيه من خلال ما يسميه الأسير المحرر (ق، زيد) حالة التكثيف للطلبات بتكثيف والشكاوي لكل أسير على حدّه(5)، وبموازاة حالة التكثيف هذه تضطر “إدارة السجن” لتوفير “عاملين” لخدمة الأسرى؛ على سبيل المثال توفير العمال لتوزيع الطعام على غرف الأسرى بعد أن كان الأسرى الفلسطينيون أنفسهم يقومون بتوزيع الطعام على بعضهم البعض، وكذلك “توفير جنود لتنظيم دخول وخروج الأسرى إلى ساحة “السجن” أي “الفورة”، واستلام طلبات “الكانتينا” وصرفها، وهو ما يعني ضغطًا كبيرًا في التعامل مع المتطلبات اليومية للأسرى الفلسطينيين جميعهم في آن واحد؛ في الوقت الذي يبقى فيه العنوان واضح وهو “الممثل”.
الهوامش