التحقيقات في أواخرها، وجولات التعذيب تتباعد. كما لو أن الحرب انتهت عملياً رغم استمرار سماع أصوات بعيدة لبعض الانفجارات المتفرّقة.
مع تراجع القلق والخوف والآلام الجسدية، تتحرَّض وتستيقظ رغبات وأمنيات وتفاصيل كثيرة كانت هاجعة في الأعماق. الغناء رغبة هاجعة، عناق الأهل أيضاً، المشي والقراءة والكتابة وسماع الأخبار، وكذلك وأولاً أطياف النساء وظلالهن وأصواتهن. السجن جزيرة من الرجال معزولة ونائية، وأفترض أنه، بالنسبة للنساء، شيء من هذا القبيل، ولكن من الضفّة المقابلة.
انتهاء التحقيقات يعني نهاية مبررات وجودنا في فرع فلسطين، وضرورة نقلنا إلى أحد السجون، حيث للحياة إيقاع محدَّد تضبطه الزيارات وخطط ملء الوقت حسب مَيْل كل سجين، وتوفّر الاحتياجات الأساسية من كُتُب وجرائد وطعام وشراب وحمّام وسجائر وراديو ورياضة.
أحد الرفاق الذين يفضّلون سقيفة المزدوجة رأى من فتحة الإضاءة الضيقة فوق الباب صبيةً أعادها أحد السجانين إلى مزدوجة البنات. ما كاد ينقل لنا ما رآه حتى انفتحت أنفاق الأسئلة والتساؤلات عن ثيابها وقوامها ولون بشرتها، وإن كانت سورية أم لبنانية أم فلسطينية. الشيء الوحيد الذي كان الرفيق متأكداً منه هو أنها تلفّ شعرها بقمطة على الطريقة اللبنانية. في المساء منحناها أصلاً ونَسَباً، وكسوناها بتشكيلة من الثياب، ثم حسم الرفيق أبو ديمة لون قمطتها بدفء صوته وهو يردد أغنية فيروز:
“عنبيّة.. القمطة عنبيّة.. من عشيّة.. لبستها الصبيّة.. وغمزة الصبيّة عنبيّة”.
عذوبة غناء أبو ديمة تجعل ظروفنا الحجرية أقل قسوة.
في تلك الليلة كنا سنودِّع العام 1987.
لقد انتهى الجزء الأخطر من هذه الإلياذة الملعونة، وسنعرف كيف نتعامل مع الأوديسة التي تنتظرنا بكل ما فيها من مفاجآت ومغامرات قد تطيل زمن رحلتنا لأكثر من عشر سنوات. في بدايات الاعتقال سئلت عن تقديري للمدة التي يمكن أن نقضيها في السجن. كان جوابي، بعد تمهيد وتمسيد وترشيد وترويد، أنها قد تصل إلى خمس سنوات. يومها شتمني أحد الرفاق واعتبرني بوم شؤم. تفهَّمت انفعاله واكتفيت بأن أبتسم. كنت أعرف أن البوم رمز للحكمة لدى بعض الشعوب، وأن اعتقالنا قد يكون أطول مما يتوقع أكثرنا تشاؤماً.
ولأن الحياة لا تستمر على نسق واحد، ولأن جهنم نفسها لا يمكن أن تخلو من محطات واستراحات ولطائف وواحات، فلا بد لنا أن نخلق استراحاتنا وواحاتنا بأنفسنا.
عقدت اللجنة اجتماعاً للتداول في ما يمكننا فعله لسهرة رأس السنة. أحدهم اقترح توزيع سيجارة إضافية لكل مدخِّن، بالإضافة إلى توزيع مخزون المربى الذي جمعناه خلال الأسبوعين الماضيين لهذه المناسبة، كما كان هناك اقتراح لإدراج فقرة تتضمن تمثيل مقابلة صحفية يجريها أحدنا مع الشاب اللبناني عليّ شرط أن تكون ارتجالية بدون تحضير أي أسئلة أو أجوبة، فحديث عليّ الطبيعي، يوحي أنه زعيم لبناني خارج لتوه من إحدى مسرحيات زياد رحباني، ليلقي خطاباً تاريخياً مسبوقاً ومعزَّزاً ببضعة صواريخ مضروبة، وفق تعابير الحشاشين عندما يتحدثون عن “سجائر حشيش رديء”. واقترحت أنا أن تتضمن السهرة إلقاء قصيدة شعرية لي مع قراءة نقدية لها يقدمها الرفيق أنور بدر، ثم نختتم بالغناء.
اتفقت مع أنور أن أكتب قصيدة موزونة تضج بالموسيقا والصور والجزالة اللفظية شريطة أن لا تكون قابلة للفهم أو التفسير، على أن يكتب هو قراءة نقدية مشابهة في غموضها ومليئة بالمصطلحات الأجنبية من مثل سكولائية وابستمولوجية وميثوبيا ودادائية وسيكوباتية وفينومينولوجيا إلخ. واتفقنا أن نكشف في النهاية عن أن القصيدة لا تقول شيئاً وأن القراءة النقدية حاولت شيئاً شبيهاً، وأننا قمنا بذلك كمحاولة لمقاربة بعض ما يُنشَر من قصائد ونقد في الصحف والمجلات.
بين حين وآخر أمرّ بعليّ أطمئنّ على استعداده بأن يترك العنان لنفسه في المقابلة، وأن لا يكترث لمن سيضحكون، لأن غرضنا أن نجعلهم يضحكون ونبقى نحن عابسين، فإن ضحكنا فستكون فقرتنا فاشلة.
لم يخيبني عليّ.. ولم يترك في دهاليز الآخرين ضحكة مخبوءة أو منسية إلا نبشها، وحين أنهيت مقابلتي معه استأذنني بأن يقرأ قصيدة من تأليفه. صفَّق الشباب تشجيعاً وترحيباً، فانحنى عليّ تواضعاً وامتناناً. صمتَ علي ما يقارب دقيقتين وهو يتفحَّص الجمهور ويهز برأسه انسجاماً مع ما يعتمل في داخله من مشار، ثم بدأ قصيدته التي يخاطب فيها حبيبته ويدعوها أن لا تبكي: أرجوك يا حبيبة كلبي “يقصد قلبي” أن تمرّي بكبري “يقصد قبري” ولكن بحكّ “حقّ” حبّنا، لا تزفري “تذرفي” الدموع، فتحركيني “تحرقيني”.
في الحقيقة عليّ حشّاش خطير ولكن بدون حشيشة. كانت المقابلة تمثيلاً عفوياً طبيعياً، وقد أجاد عليّ طبيعته في تمثيله، أمّا انفعالاته أثناء إلقاء القصيدة فقد كانت حقيقية بصورة كاملة. كان يحرِّك يديه ويميل يرأسه يساراً مع انحناءة حزن وانكسار، يميل بعدها إلى اليمين، ثم يقمح برأسه إلى الأعلى، كما لو أنه يريد بناء المشهد بكامل تفاصيله ومأساويته. فجأة صمتّ علي برهة، ثم أضاف: بتصدقوا يا شباب إني متفاجئ.. اي اي متفاجئ.. متفاجئ بحالي. هيدي أول مرة بحياتي بترغل فيها شعر من قلبي.
زادت شعبية عليّ لدى الجميع باستثناء “إبليس” الذي شعر بالغيرة من اهتمامنا بعليّ، فصار يترصده ويصطاده عند كل تفصيل يمكن تأويله بأنه مخالف للقوانين، بل كان يهدده بأنه سيريه حجمه الحقيقي عندما يخرجان من السجن ويعودان إلى لبنان، وكان عليّ على عادته طويل بال ومسامحاً، غير أن إبليس اعتبر تسامحه نوعاً من الإهمال أو الازدراء، فاختلق ذات مرة انفعالاً راح يشحنه ويغذّيه، منتظراً أي رد فعل من عليّ، وما إن قال عليّ “شو باك يا زلمة خدنا بحنانك” حتى هجم إبليس عليه وبطحه أرضاً. كان إبليس يضغط بساعده على رأس عليّ ويرشقه بصليات من شتائمه القذارة، وكان عليّ بكامل هدوئه يقول لإبليس: ليك.. ترى بعدني ما استخدمتش معك العنف.
بنية عليّ الجسدية أفتى وأقوى كثيراً من إبليس، غير أن الشرّ يمتلك قوى غير منظورة. لاحقاً قال بعض الشباب أنهم تأخروا عن التحجيز بينهما على أمل أن يغضب عليّ ويلقّن إبليس درساً، ولكن للأسف أن عليّ كان مسالماً أكثر من اللازم.
قصيدتي التي ألقيتها في السهرة خلقت نوعاً من الوجوم أضفت عليه قراءة أنور دهشة وتوجّساً إلى أن تفلَّتت من أحدهم ضحكة أسدلت الستارة معلنة نهاية الفيلم.، كانت القصيدة قصيرة ووزنها يساعد على حفظها، بعكس القراءة المطوَّلة والمعقدة التي أعدَّها أنور، لذلك سأكتفي هنا بتثبيت القصيدة من دون قراءتها النقدية.
قاموس الرمل
لا يشتهي الساري غرائر نجمهِ المرجانْ
إلا إذا انطفأت على مَهَل غرانيق الصدى
وتقوَّست في الآس شهوة ما يجيء مع الإياب
ألا ترون خطوفَها نجلاء ناشزة الحواشي
والسلالة كلها دغَشٌ يشفُّ
ألا ترون قطوفها رهجاء فاتكة الصنوج
كطعنة النسرينْ؟
ليت الوشائلَ نادباتٌ ليلهنَّ
وراهزات السفح ما ترث البحار من اللجاجة
طعنتين بوردةٍ
والرمل قاموسٌ
وبين الضفتين من النصال وميضها
ومن الفهاهة طبلها وفداحة المكتوب في المشكاة
وحدك من يرى ما لا نراه
كأننا قِمم منكَّسةٌ
وكأننا رِممٌ مطرمَسةٌ
وكأننا وترٌ على سكّينْ.