ترجمة الفاجعة: حول “أشياء قد تجدونها مخبأة في أذني” لمصعب أبو توهة

ريم غنايم

شاعرة ومترجمة فلسطينيّة

"هكذا نجونا" يكتب مصعب، مثل وردةٍ تطلع من بين الأنقاض. ولعلّ النّجاة هنا هي المدى الرّحب الذي يحتاجه العابرون من الفاجعة وإضفاء معانٍ لا حصر لها حول مفهوم صيرورة الناجين.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

15/02/2023

تصوير: اسماء الغول

ريم غنايم

شاعرة ومترجمة فلسطينيّة

ريم غنايم

وباحثة، حاصلة على لقب الدكتوراة من جامعة حيفا في مجال الأدب المسرحيّ. عملت محرّرة مشاركة في مواقع أدبيّة ثقافيّة فلسطينيّة، وتكتب باستمرار في الملاحق الأدبيّة والثقافيّة العربيّة. صدرت باكورة أعمالها الشعريّة باسم “ماغ: سيرة المنافي” عام 2011، ومجموعتها الشعريّة الثانية “نبوءات” عام 2014. صدرت لها “أشعار”- ترجمة أشعار لجيمس جويس إلى العربيّة عام 2013. أشرفت على اعداد وتحرير كتاب “السؤالان: مقالات في الشعر والنثر” عام 2014. صدرت لها ترجمة رواية للأديب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي بعُنوان «مكتب البَريد» عام 2014، ومجموعته القصصية ” أجمل نساء المدينة” عام 2015. في نفس العام صدرت لها مجموعتها الشعرية الثانية “نبوءات”، ومختارات من الشعر الزنوجيّ الأمريكيّ بعُنوان “الموت في أرضٍ حرّة”. صدرت لها ترجمة “المدمن” للكاتب الأمريكي وليام س. بوروز (2017)، وترجمة رواية “مانديلا” للروائيّة تمار فيريتي زهافي (2017). في عام 2018 صدرت لها ترجمة قصائد هايكو للكاتب الأمريكيّ ريتشارد رايت بعنوان “هذا العالم الآخر”، وهي ترجمة لـ 817 قصيدة هايكو للكاتب. تصدر لها قريبًا ترجمة رواية “الغداء العاري” للكاتب وليام س. بوروز.

“أتكلّمُ العربية والإنجليزية، لكني لا أعرف بأي لغة كتب قدري. لست متأكدًا إن كان ذلك سيغير شيئًا.”
 

ثلاثة أعمدة تتحكّم في هذا الإعلان: الازدواج اللغوي (الفعل)، الوجهة (القدر)، وربّما سؤال الجدوى. وعندما تجتمع هذه الثلاثة معًا في قلب قضيّة فرعيّة كبرى لسؤال الهويات الفلسطينيّة، تتّخذ غزّة المكان-الزمان-الوجود شكلا آخر مغايرًا عمّا نعرفه بصفته موقعًا، ومكانًا في آن واحد.

عند الحديث عن صوتٍ شعريّ قادم من غزّة، فلا بدّ أننا نتحدّث عن صوتٍ يتصوّر المكان بوصفهِ ذاتًا لا شيئًا خارجًا عن الذات، حيث يتحوّل الإحساس بالمكان الى إدراك حسّي له معنى وجوديّ، وعبر هذا الادراك الحسيّ تتفتّح المعاني الأخرى للفاجعة والألم والفقد، توليدها وولادتها من جديد.

البحث عن مخرج جديد

في القصائد التي يقدّمها مصعب أبو توهة في كتابه الشعري الصادر مؤخًرا بالإنجليزية عن منشورات سيتي لايتس الأمريكية “أشياء قد تجدونها مخبّأةً في أذني” Things You May Find Hidden in my Ear (والذي حصد جائزةَ الإبداع ضمن  جوائز فلسطين للكتاب) تُطرحُ أسئلة كثيرة دائريّة الأسلوب حول هذه الأعمدة التي تشدّها قاعدة اسمنتيّة واضحة هي لغة الحواس فالمكان الغزيّ يُدركُ بحواسّ الطّفل- الشابّ- الابن-الصديق-الأب- الحفيد- المسافر-الشّريد، كلّها أسماء-ألقاب الذات المتكلّمة التي يرى عبرها المكان الذي تردّم والحكايات التي تتولّد من ذاكراته المتعددة. إنّه ببساطة مجبرٌ على التورّط في فاجعة المكان بحواسّه ومجازه حتى يتمكّن من الخروج منه. الحركة التي يُبنى فيها الألم هي حركة دائريّة شديدة الرّقة، تبدأ في البسيط الوجودي وتنتهي في محطة البسيط الوجوديّ، لكنّ الرحلة بينهما محمّلة بالتفاصيل الصعبة، والمركّبة التي تترجم الانطلاق من الألم إلى منتهى آخر له لغة القوّة الخارقة التي تجمعُ بين تجربة الذات (الميكروكوسموس) لتمثّل العالم الأكبر بقليل (غزّة). حالة من التطابق والتوافق بين العالمين بوسيط الحواس يمكن تشبيهه بالضغط الاسموزيّ في الشّعر، حيثُ مولّدات الأمل في جسم القصيدة توازي مولّدات الألم خارجه. فالمكان الذي يحيطُ بالذّات هو ما يكتبُ حضور الألم فيها من جهة، وهو ما تسيرُ معه القصيدة حتمًا إلى محصّلة الألم. 

هكذا على سبيل المثال تترجم الحواسّ الى أفعال القول والنسج والسؤال والبناء والركض والرؤية كلّها تدعم الألم وتلوح به في القصيدة:

“القصيدة ليست مجرد كلمات وُضعت على سطر. الكلمات رداءٌ. محمود درويش أراد أن يشيد بيته، منفاه، من كل كلمات العالم. أنسج قصائدي بعروقي. أريد أن أشيد قصيدة مثل بيتٍ متين، لكنّي آمل ألا أشيده بعظامي. في 23 تموز 2014 هاتفني صديقٌ وقال: “قُتل عزت”. سألته “عزت من؟”. “عزت صديقك”. انزلق هاتفي من يدي، وبدأت أركض، لا أعرفُ وجهةً. ما اسمك؟ مصعب. من أين أنت؟ فلسطين. ما هي لغتك الأم؟ العربيّة لكنها مريضة. ما لون بشرتك؟ لا ضوء يكفي ليساعدني على الرؤية”.

تدخلُ الذات المتاهة الصّغرى عبر الهروب إلى حيّزها الخاصّ-الشّعري-الخياليّ لتعود وترتطم فجأة على صخرة الألم الملموس الذي لا فكاك منه-الموت. يحاول الشّاعر أن يستخدمَ فكرة الجسد من أجل الإعمار، إعمار البيت-الكلمات، لكنّه إعمارٌ في المخيال الشّعري النّاعم الذي يتهاوى فجأة ويرتطم على صخرة الواقع في هيئة أسئلة موجزة تعيدنا من اعمار الحياة الى الموت الذي يغمر المكان. هكذا من النقيض الى النقيض تُبنى القصيدة عند مصعب أبو توهة في زمنيّة شعريّة شذريّة لا فكاك منها.

القصيدة ليست مجرد كلمات وُضعت على سطر. الكلمات رداءٌ. محمود درويش أراد أن يشيد بيته، منفاه، من كل كلمات العالم. أنسج قصائدي بعروقي. أريد أن أشيد قصيدة مثل بيتٍ متين، لكنّي آمل ألا أشيده بعظامي. في 23 تموز 2014 هاتفني صديقٌ وقال: “قُتل عزت”. سألته “عزت من؟”. “عزت صديقك”. انزلق هاتفي من يدي، وبدأت أركض، لا أعرفُ وجهةً. ما اسمك؟ مصعب. من أين أنت؟ فلسطين. ما هي لغتك الأم؟ العربيّة لكنها مريضة. ما لون بشرتك؟ لا ضوء يكفي ليساعدني على الرؤية.

ما الذي يحاول مصعب أبو توهة استرداده بمنطق الكتابة ببلاغة والشّعور ببلاغة أخرى؟ إنّه لا شكّ فعلُ ترجمةٍ للعالَم الغزيّ، وترجمة فاجعته إلى منطقة محايدة، الفاجعة التي تتحوّل فيها المفردات والشّعور إلى كتابة موصولة بمستوى تخييلي له بعد عاطفي شعريّ مغاير، وكأنّ كتابة الفاجعة بـ “ترجمتها” لغويًا إلى لغة “غريبة” تضمنُ لها النّجاة من شعريّة الفاجعة بلغتها العربيّة وهويّتها الغزيّة.  هنا، الفرار من العربيّة وجرجرة الشّعور الى أرضٍ غريبة يُدخل التّجربة في التغريب الحسّاس الذي يجعل للفاجعة ظلا يغطّي عليها ويحتويها. وهكذا تصبح الفاجعةُ اسمًا ممددًا في ظل الكلمات.

الانتقال من الغزيّة المحليّة إلى الغزيّة “الكونيّة” عبر وسيط اللغة “المحايدة” يشكّل في هذه الحالة مدخلا لفهم ما ترتكبه الثنائيّة اللغوية التي ذكرناها أعلاه البلاغة في منطقتي الكتابة والشّعور.  تتحوّل التجربة التي ترتكنُ إلى الحواسّ والأفعال (الحزم، الحشو، الوضع، التوسّل، الفتح، اللمس، الوقوف، الكون إلخ) إلى حالة من “الاحتماليّة” والحركة وكسر الرتابة والعبور إلى المعاني اللانهائيّة التي تفتحها لغة الغريب المحايدة على الفاجعة ويعطيها طابع الاختلاف. أن يكتب ابن غزّة تجربة الشّريد الأبديّ “عاموديًا” من التأكيد على خطية الأفعال العاديّة والحركة اليوميّة الغزيّة، كلّها ملفوفة في لغة ثالثة محايدة، نافية، بعيدة-يعني كتابة الاختلاف والتحوّل:

“قبل رحلتي الطويلة، أحزم أمتعتي-حشوها ببعض الرمل من أرضنا- رائحة من مطبخ أمي، وأصوات عصافير في الصباح. وفي جيوبي أضع الاتجاهات الأربعة. يداي بوصلة، في المطار، توسلت إلى الضابط ألا يفتح الحقائب وإذا لزم الأمر، أن يلمس ملابسي-بلطف. وإلا، فلن أقف على شيء، لن أحاط بشيء، لن أرى شيئا، سأكون عديم الوزن وشريدًا إلى الأبد”.

غياب البلاغة العربيّة لقصيدة تكتب فاجعةً وتقديم فكرة الشريد الى الأبد والاختفاء عبر سلسلة خطيّة من الأفعال التي نعرفها، هي بشكلٍ آخر، توثيق حضورٍ لا ينتهي وكتابة المخرج الجديد اللانهائيّ، اللامحدود بالحدود اللغوية ولا الجغرافيّة. في حالة مصعب، تتمّ التّضحية باللغة الأم، التي يجيدها تماماً ويحسّها تماماً ويعيشها تماماً، لصالح الخلاص المفتوح على مدى واسع. “التضحيّة” اليسوعيّة – إذا جاز التعبير مجازًا- باللحم أي البلاغة الأم في محاولة النّجاة بالمكان ومن المكان وخطابه نحو خطاب “آمن”، تصبحُ فيه الأفكار عن غزة وعن ذاكرتها وعن أحداثها شكلا من أشكال “نفي” العنف اللغة. كأنّ الشعريّة العربيّة التي تكتبُ غزّة محمّلةً بعنف المكان نفسه الذي يسعى الشّاعر إلى الإطاحة به والاستعاضة عنه بشعريّة أخرى تخفّف من وطأة العنف وربّما بذلك يحاول أن يخلّص اللغة الأولى من حمولة العنف التي أغرقها المكان-غزّة، الزمان-غزّة، به.

بالتالي يكون فعل “الترجمة” هنا، ترجمة الأفكار الى غير لغة، ترجمة التاريخ والذاكرة إلى غير لغة، هي الفعل المسؤول الأكثرُ صيرورة وتحولا ونجاةً على الإطلاق في مهمّة المترجم بالمعني البنياميني لمهمّة المترجم.

كتابة التعويض

الكتابة في “فضاء محايد” هو فضاء لغويّ يغيّب شعريّة المأساة، ليكتبَ حضورَ ظلّ المأساة، يساهمُ هنا في بناء معجمٍ مختلف، معجمٍ تعويضيّ تتخذ فيه الأفعال البسيطة معنى آخر، معنى ال “ما بين” الذي يهرب من ثقل الفاجعة ويكتب قوة التحرر من سطوتها. لكنّه في نفس الآن يفعل ذلك في إطار ظلّها المتمدّد، فهي بذلك تحضر بقوّة لا تغيب، ويكون فعل “الترجمة” هنا فعلا أكسب التجربة اللغويّة في المستوى الذاتي والجمعي، الزماني والمكاني، الطفولي والناضج، اللغوي والذاكراتيّ، حضورًا ومعنى وخصوصيّة جديدة في قلب عبثيّته يستوطنُ الانسانيّ الخافت والصّعب في آن:

“في غزة

التنفس مهمة

الابتسام أداءُ

في جراحة تجميلية

في وجه المرء،

والنهوض صباحًا،

في محاولة النجاةِ يومًا آخر

هو عودة

من عند الموتى

مرة أخرى” 

“إن العمل لا يكون أهلا للترجمة إلا إذا أفصح عن استعداد للاختلاف”، ولو أخذت هذا التصريح لموريس بلانشو سأجد أن مشروع كتابة غزة شعريًا بلغة أخرى تحجب أو تخفي أو تتجنّب تقادم فعل الموت وشكله والذاكرة وهيئتها والفاجعة وأشكال تناولها بلغة الأم، وسأجد أن الشاعر هنا يحاول كتابة الاختلاف بتكرار ما، وهو جوهر وعماد فعل التّرجمة. إنه المشهد ذاته الذي يتحوّل من سكن “الموتى” إلى سكن “الأحياء” مقيمًا متنفّسًا ناهضًا بنفسه في حياة أخرى، وتتحوّل الحواسّ هنا أيضًا إلى مصدر معرفيّ- تجريبيّ عريض فلا يدخلُ في منطقة “التضاد الآمن” الذي قد تحمله الكلمات في سياق الفاجعة: إمّا الحياة أو الموت. على عكس ذلك، تأخذنا الحواسّ والحركات والمفردات التي تظللها البساطة، إلى أبعد مدى من الحياة ومعانيها بالخروج أو العودة من الموت.

“هكذا نجونا” يكتب مصعب، مثل وردةٍ تطلع من بين الأنقاض. ولعلّ النّجاة هنا هي المدى الرّحب الذي يحتاجه العابرون من الفاجعة وإضفاء معانٍ لا حصر لها حول مفهوم صيرورة الناجين.

الأعمدة الثلاثة التي بدأت بها المقالة: الفعل، والوجهة وسؤال الجدوى، هي أعمدة الكتابة الكارثيّة لكتابة في طور النجاة. وهي نفس الأعمدة التي تبني من جديد سؤال الهوية الغزيّة هنا والآن-وجودًا-مكانًا-وزمانًا. لكنّ الحواسّ، بصفتها البطل الحركيّ الأهمّ في هذه المجموعة تصبحُ محورًا تمارَسُ عليه ترجمةُ المكان الى الممكن القادم دون خسارة إرث الألم.

الكاتب: ريم غنايم

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع