في عام 2017، كانت مجموعة “تحريض للأفلام” تعرض فيلماً عن أرشيف سينما الثورة الفلسطينية من إخراج أحد أعضائها، في اليابان، حينما اقتربت امرأة حاملةً بيدها قائمة تتضمن أسماء أفلام تتعلق بالقضية الفلسطينيّة عملت على جمعها وحفظها مجموعة تضامن يابانية نشطت خلال السبعينيات والثمانينيات في عدة مدن يابانية.
وهكذا وبمصادفة غير متوقعة، تمكنت المجموعة من الوصول إلى بيت في ضواحي طوكيو، حيث يقبع الأرشيف الخاص بمجموعة التضامن مع فلسطين في السنوات الثلاثين الأخيرة، ومن ضمنها مكتبة فيلمية (بصيغة 16ملم) تحتوي على عدد من الأفلام التعليمية والسياسية عن القضية الفلسطينية والموجهة إلى الجمهور الياباني، بعض تلك الأفلام كانت معروفة لأعضاء المجموعة وأخرى كانت جديدة تماماً.
نرمم التضامن ونبحث عن الأرشيفات غير المثالية
أطلقت “تحريض للأفلام” على هذه الشرائط اسم شرائط طوكيو (Tokyo Reels) وشكّلت هذه الأفلام مثالاً حياً لما تسميه المجموعة بـ”الأرشيفات غير المثالية”، وهي المواد الأرشيفية غير المكتملة التي تحتمل إضافة سرديات متعددة، بعكس أرشيفات الحكومات أو أرشيفات القوى السائدة.
فهذا النوع من الأرشيف البعيد عن المثالية ينتمي، وفق رأي المجموعة، إلى الناس وغالباً ما يرتبط بنضالات ما بعد الاستعمار غير المكتملة كالنضال في فلسطين والصحراء الغربية وأرتيريا وغيرها من النضالات المرتبطة بتيارات سياسية شعبية مثل الحركات العمالية والطلابية في أوروبا وأمريكا الشمالية والحركات التضامنية من دول تحالف القارات الثلاث (Tricontental).
فـ “تحريض للأفلام” ترى نفسها معنية بأسئلة من قبيل؛ لماذا يختفي الأرشيف ولماذا يظهر؟ ومن هم المنتفعون من إختفائه، أو من ظهوره؟ وهل يمكن قراءة مشهد سياسي من خلال النظر في أرشيفه السينمائي؟ ولهذا يقول مؤسسوها بأن اللافت بالنسبة لهم، بعد عشر سنوات من البحث والعمل في مجال الممارسات الأرشيفية، لم يعد بحث مضمون الأفلام نفسها، وإنما الأنماط المتكررة لفعل التضامن نفسه وآليات مشاركتها مع جمهور أوسع كفعل سياسي، فحركات التضامن من القرن الـ 20 مع القضية الفلسطينية عكست، بجانب التضامن، المشهد السياسي في البلدان التي صدرت منها. وبذلك، فأفلام طوكيو تشكّل بالنسبة للمجموعة دليلاً ملموساً على حركات التضامن المُجتمعية اليابانية المختلفة عن سياسات الجيش الأحمر في تلك الحقبة.
وبالتالي لم تر “تحريض للأفلام” أن مهمتها تقتصر على ترميم الأفلام؛ فمعظمها لم يكن نادراً أو ضائعاً، لكن بالأحرى، المفقود هو قراءة هذه الأفلام ضمن السياق الذي وجدت فيه والتساؤل عن دلالات إنتاجها وعرضها ضمن اليابان نفسها في تلك الفترة الزمنية، فالمهم هنا كما تقول المجموعة هو “ترميم التضامن” وليس ترميم أشرطة النيغاتيف.
على مدار الأشهر التي تلت حصول المجموعة على “شرائط طوكيو” قام أفرادها بعمليات ترميم للأفلام وتصحيح ألوانها وأصواتها إضافةً إلى عمليات الترجمة لتلك الأفلام التي قدمت للجمهور باللغات العربية والإنكليزية واليابانية. وتم تقديم المجموعة الفيلمية ضمن عمل فني أدائي لأول مرة بعنوان “مهرجان شرائط طوكيو السينمائي” بعد ذلك عٌرض العمل في التظاهرة الفنية المعروفة بـ “دوكيومنتا” وهي فعالية تتكرر كل خمس سنوات في مدينة كاسل الألمانية إذ تكون أشبه بمعرض مفتوح يلتقي فيه الممارسون والفنانون المعاصرون لعرض نتاجهم الفني والبحثي.
تحريض للأفلام في مواجهة حملة شرسة
أول أمر لفت انتباه المجموعة أثناء عرض أفرادها مشروعهم في دوكيومنتا كان تفاعل الناس مع الأفلام التي يرونها واكتشافهم رواية أخرى لفلسطين مغايرة عما تخيلوه، ففي صور النيغاتيف الملوّنة بالأبيض والأسود شاهد الجمهور الألماني للمرة الأولى صوراً تحمل سرديات مغايرة وسمعوا طروحات حداثية تخلو من العنصرية تجاه اليهود كيهود. هذا الأمر بالطبع أسعد البعض لكنه استفز من وجهة نظر المجموعة بعض أطراف النظام السياسي في ألمانيا الذي يتبنى فكرة الحفاظ على وجود إسرائيل كالضمان لعدم عودة ألمانيا إلى الفكر القومي المتطرف، ما مهّد لموجة عنيفة من الهجوم على عدد من المشاركين في دوكيومنتا ومن ضمنهم “تحريض للأفلام”.
في الأعوام الأخيرة تبنت بعض التيارات السياسية (الخضر مثلاً) تعريفات متطرفة تفيد بأن أي تعرض لاسرائيل حتى كنظام سياسي هو سبب كاف لتحريك مشاعر اللاسامية ضد اليهود، فالعديد من الشركات الألمانية الكبرى والمؤثرة كشركتي “لوفتهانزا” و”مرسيدس” تبنّت تعريفاً “محدّثاً” لمعاداة السامية ويسمى اختصاراً (IHRA) إذ يعتبر أي نقد لإسرائيل معادٍ للسامية على اعتبار أنه يعرّض اليهود للخطر. وبناء على ذلك انطلقت حملة شعواء هاجمت معرض الدوكيومنتا بصورة عامة ومشروع “شرائط طوكيو” بصورة خاصة. فهكذا أثار فيلم “بيروت82” للمخرج الياباني ريوشي هيروكاوا، على سبيل المثال، الكثير من الغضب على اعتبار أنه يوثّق لمجزرة صبرا وشاتيلا ويوضح مسؤولية إسرائيل في وقوعها من خلال كاميرا المخرج التي كانت من أوائل الكاميرات التي دخلت إلى المخيمات.
“هنا تكمن قوة الأرشيف وقوة هذه الأفلام” يقول أعضاء المجموعة، فالأرشيف بنظرهم يسترجع لغة الخطاب الثوري والإطار الفكري للنضال، ويستحضر صوراً من الماضي عن إمكانيات وطرق مقاومة الاستعمار بجميع أشكاله سواء كانت استنزافية أو استيطانية، فهذه الممارسات تم التغاضي عنها أو فقدانها إثر ما يُسمى بـ”اتفاقات السلام” من دولة الاحتلال.
اتهامات بمعاداة السامية
عملت الصحافة الألمانية في الأيام الأولى من بدء فعالية دكيومنتا على الترويج بصورة مريبة لفكرة أن “أفلام طوكيو” نتاج البروباغندا الخاصة بالجيش الأحمر الياباني، ولتأجيج الرأي العام الألماني بصورة أعمق بدأت تستنكر السماح بعرض هذا النوع من الأفلام بالتزامن مع الذكرى الخمسين لما يعرف بعملية ميونخ التي تم فيها احتجاز رهائن إسرائيليين أثناء دورة الأولمبياد الصيفية المقامة في ميونخ عام 1972. فعرض هذا النوع من الأفلام في قلب ألمانيا في هذا التوقيت كان بنظر “تحريض للأفلام” أشبه بمحاولة لعب في ملعب ألمانيا التي لطالما دعمت الاحتلال عسكرياً واقتصادياً، خاصةً وأن الفعالية جذبت أكثر من 750 ألف مشاهد.
الحملة الشرسة التي شنتها الصحافة دفعت ببرلمان مقاطعة هيسين والتي تقع ضمنها مدينة كاسل المحتضنة للدكيومنتا، إلى تشكيل لجنة “علمية” للتحقيق في مضمون الأعمال لمعرفة إذا ما كان هناك بالفعل مضامين معادية للسامية. حيث أوصت اللجنة بإيقاف عرض مشروع “شرائط طوكيو” من دون التواصل مع مجموعة “تحريض للأفلام”.
الجنوب يتحرك
ضمن هذا الجو المتوتر حدث ما هو غير متوقع؛ فالمؤسسة التي تنظم لفعالية دوكيومنتا والتي استضافت مجموعات ممارسين وفنانين أغلبهم من دول الجنوب، كي تتفاعل وتلتقي بصورة “سطحيّة وترويجيّة”، لم تتخيّل أن يتحول هذا التفاعل ما بين هذه الجماعات إلى آلية دعم وتواصل مع بعضها البعض بصورة حقيقية. “الأوساط الثقافية الغربية تعودت على التعامل مع الإيغو الخاص بفنانين أفراد، لكن هنا كان الأمر متعلقاً بجماعات فنيّة لا تفكّر ببيع نتاجاتها البحثية والفنيّة، ما حرم القائمين على دكيومنتا والمنظومة المتخفية وراءه من ممارسة سلطة أو تأثير على هذه الجماعات” تعلق المجموعة على ما حدث في ذلك الوقت. فسرعان ما انطلقت داخل المعرض حملة تضامن واسعة تجلّت في توقيع بيان يرفض الممارسات العنصرية والرقابة من المؤسسة المنظمة، ومن ضمنها إيقاف مشروع “شرائط طوكيو”، الذي رفض القائمون عليه بدورهم الرضوخ لقرار منعهم من العرض واستمروا في عرض أفلامهم طوال مدة دوكيومنتا “100 يوم” رغم التهديدات والمضايقات التي تعرضوا لها.
خلال فترة المعرض التزمت “تحريض للأفلام” وغيرها من الجماعات بمعايير لضمان السلامة كالتحرك ضمن جماعات وتشكيل مجموعات تواصل رقمي تشير إلى الأماكن والمناطق التي يفضل تجنبها، وتبقي أفرادها على اتصال في حال تعرض أي فنان للخطر.
الحطة مسموحة على المسرح ممنوعة في المظاهرات
ترى “تحريض للأفلام” أن الكثير من الفنانين والممارسين من المنطقة العربية والجنوب بشكل عام، غير مطلعين على تنامي العنصرية الموجهة ضد الفلسطينيين في بلدان أوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا، خاصة وأن الكثير من هؤلاء الفاعلين الثقافيين قد يحصلون على دعم وتسهيلات من ذات المنظمات والمؤسسات التي تمارس الضغط على الفاعلين الفلسطينيين.
ففي الوقت الذي تدعم فيه الحكومة الألمانية العديد من الانتاجات الثقافية فيما يسمونه “المناطق الفلسطينية” والمنطقة العربية، أصدرت الشرطة الألمانية في الشهر الخامس من 2022 تحذيراً من رفع أي علامات دالة على ذكرى النكبة الفلسطينية. حيث بادرت الشرطة لسجن كل من يرتدي الحطّة الفلسطينية. تختصر تحريض للأفلام هذا التناقض بالقول: “يسمح لك أن ترتدي الحطة برمزيتها الثقافية على المسرح بتمويلٍ من الحكومة الألمانية، لكن ارتداءها في الشارع وبين الناس ممنوع لقوتها على التحريض”. مع ذلك تلمس “تحريض للأفلام” تعمّق وتعاظم التيار الذي يناهض الإمبريالية ويفسح المجال لنقاش معمق حول نظريات ما بعد الاستعمار وفشلها في التعامل مع القضية الفلسطينية، لكنها في الوقت ذاته تدرك تعاظم التيار المعاكس الذي يدافع عن مصالح الشركات المهيمنة ومصالح إسرائيل، فالجماعة تختصر الأمر بالقول: “سعدنا بشبكة التضامن التي شكلتها مجموعات فنية وفنانات/ين من دول الجنوب، لكننا ندرك أن المعركة لم تنته”.