– اسمعوني كلكم. وقّفوا على حيلكم.. ظبّطوا الطميشات على عيونكم منيح، وكل عرصا يحطّ إيدو على كتف رفيقو..
– صفّاً.. سِرْ.
تقدمنا كقطار، تتدافع مقطوراته وتتراجع، متلاطمة تبعاً لحركة القاطرة الأولى، التي يقودها أحد العساكر.
متاهة مضاف إليها عمى الطمّيشات.
هكذا ابتدأت رحلتنا في سجن تدمر ملجلجةً ومضرّجة بكثير من العواء والدم و “التشريف” الذي استقبلونا به من لحظة اجتيازنا الباب الخارجي، وما تلاه من أبواب خلف أبواب خلفها أبواب، كل باب منها يسلمنا إلى متاهة أبعد وأعمق وأكثر توجساً.
يبدو أن الأقلام هنا لا تُرفَع ولا تجفّ الصحف.
– تحرَّك يا حيوان تحرَّك.. اِرفع رجلك عند الباب.
يجب أن نخمِّن ونحدس ونتحسّس بأقدامنا المتورِّمة أين أرضية أو “برطاش” الباب.
الأوامر متلاحقة: تقدَّمْ.. تابعْ.. اِرفع رجلك عند الباب.. توقَّف.. تابع.. إلى اليمين يا جحش.. تابع.. يساراً.. قلت يساراً يا حمار.. تابع.. اِرفع رجلك يا شرموط.. أكملْ.. إلى اليمين.. إلى اليمين أيضاً. قفْ.. تقدَّمْ قليلاً.. اُدخلْ.. اُدخلْ.. قف.
لقد لفت انتباهي، خلال خدمتي الإلزامية في الجيش، أن الأوامر العسكرية أثناء المسير والتفقّد ودروس الرياضة وفي حقول التدريب على الرمي تكون دائماً بالفصحى.
– قلنا قف يا حيوان.
– شيلوا الطمِّيشات تا شوف.. هيدا مهجعكم، وهيدي البطانيات.. خلال نص ساعة بدّي المهجع جاهز..
– مين العسكريين بيناتكم؟
رفع العسكريون أيديهم.
– شو رتبتك أنت؟
– رائد.
صفعة خاطفة مدرَّبة..
– بتقول رائد حضرة الرقيب.. وأنت الخرا التاني شو رتبتك؟
– مساعد حضرة الرقيب.
– معناها أنت رئيس المهجع.. انتبه منيح لتقديم الصف، كلما انفتح الباب، وكلما تسكَّر.. مفهوم؟
لقد وقعت صاعقة القضاء والقدر برئاسة المهجع على رأس محمد الصمودي أبو عبيدة.
أن تكون رئيس مهجع في سجن تدمر يعني أنك مكسر عصا غضب الإدارة والعساكر وما يضمرونه من شهوات النهش والتنكيل والانتقام والتشفي والضرب العشوائي أثناء التفقّد الصباحي والمسائي، وأثناء إدخال الفطور والغداء والعشاء، وأثناء مناوباتنا الليلة لحراسة “البخشة”، هكذا يسمُّون التواليت والمغسلة، وذلك لضمان أن يكون الدخول فردياً حفاظاً على الدين والأخلاق، وعدم اختلاط رجُل برجُل.
ما إن ابتعدتْ خطوات العساكر، حتى تدحرجت عيوننا مستكشفةً هذه الزريبة التي يسمونها مهجعاً.
بدا المكان واسعاً متآكلاً.. مخنوقاً بالغبار.. والجدران أشبه بلوحات سوريالية مطروشة بالدم والوسخ ولطخات متنوِّعة من الدهان والبقع المرمَّمة بشيء من الإسمنت.
صارت ذاكرتي مثل حجر الرحى وهي تدور وتدور مستحضِرةً أسطورة اسطبلات أوجياس التي نظَّفها هرقل، إلا أننا كنا مهدَّمين ومشلشلين بدمائنا وأوجاعنا، وما كان بيننا من هرقل.
زريبتنا أوسع من أي توقعات لسجناء كانوا في زنازين فرع فلسطين ومهاجعه الضيقة.
كنا ثلاثة عشر هيكلاً لا أرقام لها ولا أسماء، بل أوصاف مستمدة من الملابس أو اللون أو حجم الجسم.
هنا، في سجن تدمر، لا أرقام ولا تحقيقات، إلا أن التعذيب يبقى مستمراً كما لو أنه بحكم العطالة.
كنا تسعةُ أعضاء لجنة مركزية: محمد حسن معمار، وجيه غانم، يوسف البني، أكرم البني، فرج بيرقدار، سمير الحسن، عباس عباس، نزار مرادني وراشد صطوف.
وأربعةُ عسكريين متطوعين: نعمان حبيب، محمد الصمودي، سليمان منصور وعدنان خضّور.
التعذيب في سجن تدمر بهيمي أعمى لا يستهدف انتزاع معلومات. هو نوع من تزجية الوقت أو العبث أو الانتقام.
في كل يوم يُخرِجون السجناء على دفعات، ليصطفوا في الباحة على أنساق، ثم يُطلب إليهم الجلوس بعيون مغمَضة وظهور محنيّة ورؤوس مطأطئة والأيدي مشبوكة عند الرُكب مثل وضعية الأسرى. هذه العملية هي ما يطلقون عليها اسم “فسحة تنفس”، وهي واجب على السجين وليست حقاً له، ولهذا لا يجرؤ أحد على رفضها. في الحقيقة كان ينبغي أن يسمّوها فسحة قطع أنفاس، إذ كثيراً ما يعذّبون خلالها سجيناً، لا على التعيين، إلى أن تنقطع أنفاسه تماماً.
نواقيس الهواجس في رؤوسنا تدقّ سؤالاً واحداً مفاده: لماذا نقلوا مئات الرفاق إلى سجن صيدنايا، في حين أنهم نقلونا نحن الثلاثة عشر فقط إلى سجن تدمر؟
قال لنا مرّة مدير انضباط السجن:
– أنتم هنا لأنكم تختلفون عن كل قيادات الحزب السابقة.
– وبماذا نختلف إذا كانت مواقف الحزب لم تختلف؟
– لا أريد أن أناقش في مثل هذه الأمور. يكفي أنكم قيادة متحالفة مع الإرهاب والإخوان المسلمين.
– ولماذا لا أحد بين المحققين في فرع فلسطين واجهنا بمثل هذه التهمة؟
– يكفي.. لم أسمح لأحد بالكلام.
جولات التعذيب في تدمر تختلف بأدواتها وأساليبها وأهدافها عن كل ما عاينّاه سابقاً. حتى السياط مختلفة. في فرع فلسطين يجلدون بكابل كهرباء رباعي، في حين أن سياطهم هنا مصنوعة من أقشطة مراوح الدبابات، وهناك من يتدرّبون فينا على الكاراتيه، أو يسلخون جلودنا في الحمّامات بمياه بلغت درجة الغليان وما من وسيلة لتبريدها.
يضعون لنا الطعام في أوانٍ بلاستيكية سعة عشرين ليتراً، يسمونها “جاطات”، ثم يدوسونها بجزماتهم العسكرية إمعاناً في الإذلال والإهانة.
يرمون فئراناً ميّتة في الجاطات، وأحياناً يطعمونها لأي سجين تقع عليه المصادفة.
يطلبون من رئيس أحد المهاجع أن يُخرِج بضعة سجناء مصابين بالسلّ، ثم يأمرونهم أن يبصقوا في بعض جاطات الطعام.
يتسلى أحد العساكر، خلال نوبة حراسته على أسطحة المهاجع، بأن يرمي حجراً أو بلوكة على رأس أحد السجناء، فيعلن القضاء والقدر أن أجَله قد انتهى.
يقوم عسكري آخر بحمل مطرقة كبيرة “مهدّة” ويهوي بها على رقبة أقرب سجين إليه، فندرك أن الموت يمكن أن يكون مشهداً تمثيلياً إيمائياً.
عسكري آخر يحمل قضيب حديد يشبه الإزميل، ثم يدور كالمجنون إلى أن يختار ضحيته الملائمة لموت استثنائي.
كل شيء يشير إلى أنهم جاءوا بنا إلى هنا من أجل تصفيتنا. هكذا يرى بعضنا، في حين يرى بعض آخر أنه لو كان غرضهم تصفيتنا لفعلوا ذلك في فرع فلسطين.
يمكن للزمن أن يمضي مثل كركرة المياه في الينابيع والجداول، ويمكن له أن يكون بطيئاً وثقيلاً كالزئبق، غير أنه في سجن تدمر يمكن أن يصبح حجرياً، أو شيئاً يشبه التغرغر بالأسيد.
بعد أيام يمكن حسابها بالسنوات، فتحوا باب المهجع. أدخلوا إلينا ثلاثة أشباح، قالوا إنهم رفاقنا، ثم أغلقوا الباب وغادروا.