بما أنّ العنوان هو العتبة الأولى للدخول إلى أيّ نتاجٍ إبداعي، فإن إبداع الكاتب يتجسّد من اللحظة الأولى التي يُقرأ فيها عنوان أيّ عمل، وفي “الحلاّق الوفي لزبائنه الموتى” للشاعر حسام معروف (“دار النهضة العربية” – منحة “آفاق” لعام 2023) بما يحمله من رمزيّة، وبما يلوح به أمامنا من إشاراتٍ وجودية كونية، ودلالات كثيرة، يجعل العقل يتأرجح بين عالمين عالم الوجود العبثي، وعالم العدم. مكثّفًا في هذه الصورة التي اختارها عنوانًا لمجموعته، مسيرة حياة، يكون الموت فيها تجربة مكرّرة معاشة، ويضعنا أمام درسٍ يُحلّله من منطلقٍ فلسفي وجودي، راسمًا فلسفته الخاصة، معبرًا عن القيمة الإنسانية الفاضلة (الوفاء)، هذه القيمة الثقيلة التي لا يمكن لأي إنسان أن يحملها ويتحملّها.
الإنسان سجنٌ مضيءٌ للحزن
يتكئ الشّاعر على الحزن في معظم نصوصه الشّعرية، لتكون مادته الخام التي ينبثق منها المعنى، في ظلّ غوصه العميق. يبدأ ديوانه بمعمودية الحزن، يقوم بتجريد الوجود، ليقول لنا إنّ الحزن هو من يُفعّل الإنسان، هو الثابت الذي احتاجه العالم ليدور حوله، فالحزن عنده هو “الشكل المخيب، الذي ينتهي إليه الفرح”، وأنّ الضحك في الأصل، هو حزنٌ، له صوت دحرجة. و”الحزن المنبعث من الناي، هو في الأصل حبّ متخفٍّ… ” ليقدّم لنا الحزن من منظوره ورؤيته الفلسفية، بأنّه المادة الخام للضحك.
بين الطين والمعنى
فيما يبحث الشاعر ويتأمّل، يفكّك، يحلّل ويشكل، يَسأل ويتساءل حول كتلة القناعات التي لا تحيا ولا تموت والتي تكوّن الإنسان، وحول قصة الخَلق، تأخذ نصوصه طابعًا تأمليا فلسفيًا ممزوجًا بصور الكاتب الحركية، وبتفسيراته التحليلية الواعية النابعة من تجربته الشّعريّة المجدّدة المتجددة، وبذلك يكون قد حقق تفاعلًا نصيًا عبر التلميح، مع فلسفة خلق الإنسان في معظم الديانات والأساطير القديمة، والتي تقول إنّ الإنسان خُلق من الطين. ليرى أنّ المعنى يندفع في الطين، والطين يندفع في المعنى فيتكوّن الإنسان.
“من الطين الطري، الموضوع في الفراغ، خُلق الشاعر، ومن الطين الناشف في القوالب خلقت الثوابت”
بين الداخل والخارج
إنّ الخيالَ الإنساني قادرٌ على أن يشتغل بشكل أكبر، فهو عادة ما يدور ويدور ليجد ذريعة تضاعف قدرته على التقاط المشاهد، ولو تفحصّنا عن قرب الصور الفلسفية التي يلقيها علينا الشاعر بتجربته الذهنية، وخياله المتفرّد في مجموعته هذه، من منظور الداخل والخارج والجدل القائم بينهما، نجده ينسحب إلى داخله، مكثّفًا ذاته وجوديًا في الخوف من إزعاج التراب “وأمشي داخلي؛ كي لا أزعج التراب”. وفي صورة أخرى يقول: “هل أمشي إلى عمقي، وفاجعتي تقيم في الداخل”
إذا أردنا استخراج دلالة هذه الصورة لا بدّ من أن ندخل إلى هذا العمق، الذي تتمركز فيه الفاجعة، ولشدّة عمقها لا نستطيع أن نراها، لدرجة أنّها اتحدت مع الذات، ليظهر القلق الوجودي في هذه الصورة، وكيف أنّه متأصل بالذات الإنسانية ومقيمٌ داخلها. وعادة ما يكون التأكيد الزائد والإلحاح على صورة أو فكرة، قد يُفقد الدهشة، لكن مع معروف نجد دهشتنا متجدّدة في كل مرة يطرق فيها باب الفكرة نفسها، والسبب أنّه يضفي عليها شعاعاً من الحقيقة يصفع به جدار العقل يقول:
“إيقاع القلق في الداخل أعلى من صوت قذيفة تسقط بالقرب…”
ويجسد الشاعر في صورة حركية مكثفة مسيرة حياة الإنسان التي تنتهي بالموت، الموت كتجربة طويلة لا تنتهي خلال الحياة عندما قال: “النبتة التي تسللت إلى خارج الصخرة، ما هي إلا زفير ميت، يستعجل انتهاء العالم” ممثلًا بذلك النفس القلقة بنبتة ماهي إلا زفير ميت يتوق لمغادرة هذا العالم الموحش الذي يقلق وجوده، فالتأمل في الوجود في الخارج يكون أكثر حريّة، لأن الخارج يتجاوز القياس.
العالم
العالم هي الكلمة الأكثر شيوعًا في هذه المجموعة الشعرية، فيُظهر لنا أنّه لا غنى عنها في نصوصه الوجودية، وأنّها في كثير من الأحيان تضفي على النّص الشعري معنىً مضاعفًا، فيوحّد من خلالها عالم أفكاره مع العالم والكون الواسع، وكأنّها بحضورها، الإيقاع الذي يتنفس من خلاله النص، وتكرارها طبيعي، فمَن غير هذا العالم الغامض الكبير خارجنا، والعميق في ذواتنا، يثير الخوف والحزن في النفس البشرية، فالعالم كما قال ريلكه: ” كبير، ولكنّه في داخلنا عميق كالبحر” والأمثلة كثيرة على حضور هذه المفردة نذكر منها “لو أنني لم آت إلى هذا العالم لوصفته بشكل أجمل” و”العالم صغير جدًا بدليل أنّ الحزن يحتوي عليه، بضم ذراعيه حوله”.
المرأة وآلة المعنى
المرأة في نصوص معروف هي اليد التي تنتشله من وحدته وعزلته، تنقذه من وحشة هذا العالم، تسحبه من قلقه، لتضعه على بر الأمان والطمأنينة، تخلّصه من عجزه، تسكن وعيه وذاته، لتكون صوته وخلاصه، فبيدها تدور آلة المعنى.
“مثل هواء محبوس في قنينة العالم،
ما أحوجني ليدك كلما نزعت السدادة.”
“يدك الراية المنتصرة على الكآبة، مثل ضحكة جسد مثقل بالتفاصيل.”
“لا تخرجي يدك من النهر، أنت كلُّ طينه”
التفاصيل المتناهية في الصغر
يغيّم الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة في بعض نصوص الشاعر، فتشحب الصور، وتوضع العدسة المكبرة على هذه الأجسام الصغيرة، يُضاء عليها بالضوء الساطع للخيال، فيزيح الغبش عن المشهد لتتضح الرؤية، ويغدو هذا المتناهي في الصغر عالمًا قائمًا بذاته. من التفاصيل الصغيرة التي وضع الشاعر عدسته المكبرة عليها العِرق في الجبين، جعله مركزًا للدهشة حين قال: “العِرق الذي يظهر في جبينك حين تضحكين، هو شجرتي التي أختبئ خلفها، حين تهب رياح الخوف” ليلعب لعبة التحولات فينقلنا من الصغير إلى الكبير، من العِرق إلى الشجرة، فيربط بين هذا العِرق الدقيق جدًا، والشجرة المتناهية في الكبر بالنسبة إليه. ويقول: “يدك الأصغر من اللغة، الأكبر من العالم، القادرة على ترويض خيبتي وأحزاني”
هذه اليد المتناهية الصغر بالنسبة إلى العالم،هي أكبر من العالم.
“لا أقصد الهامش، حينما أقول شامة على خدك، بل مركزًا تتفتّح منه الدوائر.”
لنجد الشاعر يذهب هنا بعيدًا، يفتّش عن زاوية الأمان، يلجأ إلى التفاصيل التي تبعث قيمًا عميقة، ويضفي انحناءات متعددة على هذه الشامة الصغيرة في هذا العالم الواسع الكبير لتكون مركزه ونواته، ومنها تنبثق دوائر المعنى.
سيطرة الصور
كثيرًا ما يدخلنا الشاعر في عالم من الصور المستحيلة، والأصوات الغريبة، ومعروف من الشعراء الذين يسعون إلى بث موجات تولّد وعيًا بالعالم، ودهشة تشع من ذاته الواعية، والصور التي سيطرت بغرابتها وترسخت بكثافتها كثيرة نذكر منها:
“حين يجيب النبات بكفه: لا”
“من نقل العتمة من مكانها لينفضح السر؟”
من أين يكون للدرب فتحتان، ليمر الهواء”
“إنني ألسع ظهر العالم ، ليستيقظ”
لنجد أن معروف قدّم مجموعته الشعرية مليئة بالصور الفريدة التي تفرض نفسها على عقل القارئ، وتفرض قانونها على حواسه. فنظن أنّنا قد نعبر هذا البحر، دون أن نبتل ، وكيف لا نبتل عندما نجده يربط الصور الغريبة وكأنها صور واقعية معقولة، كيف لا وهو يجعل العالم والإنسان الذي هو (نحن)، متحدين يجمعهما حوار في حزنهما وعزلتهما، كيف لا وهو يفجّر جيشًا من الأسئلة بحديثه عن الوجود القَلِق غير المستقر، الذي يشغل الإنسان ويربكه.
ولكي نقرأ هذا الكتاب قراءة تسبر أغواره، وتستخرج مكنوناته، لا بدّ أن نعي بأنّنا يجب أن نقترب أكثر من الصور ونلتفت إلى التفاصيل، بغية أن لا نُفقدها توازنها عند تمريرها على خيط العقل، علينا أن لا نذهب إلى المعنى السطحي، فهذه مجازفة تبعدنا عن كثافة الأفكار وعبثية المشهد وعمقه الذي جسّده الشاعر بألفاظه البسيطة عميقة الدلالة، و بلغته السهلة الممتنعة، التي بدورها تجعلنا ننخرط أكثر بحميمية مع حركة هذه المشاهد والصور، فينقلنا من خلالها الكاتب وبوعيه، من هلام أشكال مفككة، إلى قلب المعنى بصورته الطازجة المحدّدة.