تأتي هذه المقالة، في الاقتصاد السياسي الحضري، في إطار استحضار ورصد جانب من الممارسات وأشكال التحولات والتغيرات الاجتماعية-الاقتصادية التي رافقت صناعة وإعادة إنتاج وترتيب الحيز الحضري لمدينتي رام الله والبيرة تاليا لقيام السلطة الفلسطينية، ذلك من خلال تحري ومقاربة بعض من التجليات والهويات المكانية والسياسات والرؤى التخطيطية والاستثمارية التي استجدت بشكل أساسي بالتزامن مع سياسات النيوليبرالية التي تبنتها السلطة الفلسطينية في ظل اتفاقية أوسلو وأعادت إنتاج بعض ملامح منطقها الرأسمالي في سياق استعمار استيطاني قائم، وما رافق ذلك من بروز العديد من صور الاختلاف الاجتماعي-الاقتصادي بين المدينتين اللتان أخذتا باحتضان أنماط متباينة من الممارسات اليومية والأنشطة والفعاليات والترويج لها بطرق مختلفة.
لقد برزت المدينتان الجارتان بين أكثر مدن الضفة الغربية تأثراً بقدوم السلطة الفلسطينية، وتعززت مكانتهما في ظل الواقع الجيوسياسي المعقد الذي حد من إمكانية إرساء قواعد العاصمة في القدس وساهم في إضفاء سمة المركزية –بشكل أكبر- على مدينة رام الله التي تجذرت فيها قطاعات المال والأعمال والمنظمات غير الحكومية إلى جانب وجود الجسم الحكومي للسلطة الفلسطينية. ويذهب أبو رحمة (Abourahme, 2009) إلى القول بتعزز مكانة رام الله عقب مجيء السلطة الفلسطينية وتركز مؤسساتها في المدينة، إلى جانب تمركز النشاطات السياسية والاقتصادية والثقافية فيها، حيث أصبح الحديث يدور عنها كعاصمة بديلة تشهد إنتاج فضاءات نخبوية وممارسات تعزز مركزيتها وتقصيها وتفصلها عن النطاق الفلسطيني العريض، وذلك رغم خضوعها للاستعمار الإسرائيلي الذي قد يساهم في تكريس هذه الممارسات. كما ناقش خمايسي (2013) في إطار متصل المساعي الإسرائيلية لإعادة تشكيل المحيط الحضري الفلسطيني للقدس ودفع الناس إلى جيوب حضرية قرب رام الله التي يرى أنها لا تشكل بديلاً عن المدينة المقدسة، باعتبارها العاصمة، بقدر ما هي جزء من محيطها الحضري.
كذلك اختبرت رام الله، بعد قيام السلطة الفلسطينية، وضع العديد من الأطر والممارسات التخطيطية والتنموية التي تسهل إعادة الهيكلة الحضرية للحيز المديني. وأخذت تروج نفسها على أنها حاضنة للتحرر والتنوع والسياحة والتطور التكنولوجي ومرحبة بالاستثمار ومتصلة بحياة ذات نوعية أفضل، وتركزت فيها المناطق “ألراقية” والوجهات النخبوية ومحلات الماركات العالمية والفنادق ذات الطابع الفخم. كما اشتهرت رام الله في المحافل الثقافية والسياسية والاقتصادية، إلى درجة بات ممكنا معها تصوير المدينة وتخيلها بوصفها فضاءً للرقي والتفتح ومشاركة السلوكيات الحضرية المعولمة مع نخب الطبقتين الرأسمالية والوسطى في العديد من المدن العربية والعالمية، في حين ظلت البيرة مثالا للمدينة الفلسطينية التي ظلت تأخذ في نموها طابعا شبه قروي وخالٍ من معظم مظاهر الانفتاح، وظهرت غير راغبة أو ربما عاجزة عن تسويق نفسها في ظل وجود تركيبة اجتماعية وعائلية ودينية محافظة. الأمر الذي ساهم بشكل واضح في تشكيل أرضية تؤسس لظهور وإبراز التمايز بين المدينتين.
بالتزامن مع قدوم الشهر، وتحت شعار “رمضان الخير في البيرة غير”، بادرت بلدية البيرة هذا العام إلى إحداث وإقامة فعاليات احتفالية وأنارت فانوس رمضان للمرة الأولى في الساحة المقابلة لمبنى البلدية الذي تم تزيينه بطريقة –رغم تواضعها مقارنة بما قامت به رام الله- إلا أنها أخذت منحىً لم تشهده المدينة من قبل، الأمر الذي رأى فيه العديدون سلوكاً ونهجاً تطويرياً مرتبطاً بتوجهات إدارة البلدية الجديدة ومتصلة برؤية رئيسها الشاب. ورغم ذلك فإن المقارنة الحاضرة فيما يختص بسلوك وتوجهات المدينتين ما زالت تشير إلى تفوق وتفتح رام الله بالنسبة للكثيرين سواءً في طريقة حضورها أو نهجها وطبيعة أنشطتها، فزينة مدينة البيرة –التي يمكن ملاحظة ارتباطها الوثيق بالعادات والتقاليد والموروث الديني المحافظ- متواضعة جدا مقارنة بزينة مدينة رام الله –التي يروج لها بوصفها ذات طابع مسيحي أكثر تحرراً من جارتها- وطريقة تنظيمها وزخمها المادي والرمزي والإعلامي والأجواء الاحتفالية المرافقة ونماذج الحياة اليومية المختلفة التي تسود المدينة إلى درجة قول أحدهم إن “رمضان في البيرة ولكن العيد في رام الله”، وذلك في إشارة إلى تباين واختلاف طبيعة المظاهر والممارسات المتصلة بالمناسبة بين المدينتين.
وفي حين تحتضن رام الله العديد من الساحات والميادين العامة، إضافة إلى الساحة المجاورة لدار البلدية، حيث يمكنها استضافة واستقبال الفعاليات المختلفة، والتي من بينها إضاءة فانوس رمضان وشجرة الميلاد والمهرجانات الراقصة والاحتفالات الغنائية، يمكن ملاحظة أن البيرة ليس فيها وجهات أو توجهات لاستقبال هذه الفعاليات باستثناء الساحة القريبة من دار البلدية، والتي بدأت تشهد محاولات لاستقطاب الجمهور في فترة رئاسة توفيق البديري –وهو شخص من أصول مقدسية وتم تعيينه في حينه رئيساً للبلدية دون انتخابات- الذي أشار إلى أنه فكر في خلق مركز فرعي يتيح نقل الفعاليات والناس وجذبهم نحو البيرة، حيث عمل في العام 2012 على رصف قطعة الأرض المقابلة للبلدية واتفق مع وزير هيئة شؤون الأسرى والمحررين عيسى قراقع على أن تقوم البلدية باستضافة فعاليات التضامن مع الأسرى وتوفير مستلزماتها مجانا، وانتقلت الوقفات التضامنية إلى هناك فعلا. لكن هذا لم يدم طويلا، وأضحى المكان ساحة فارغة تخدم استخدامات وأغراض مختلطة كموقف لسيارات البلدية أو تشهد انعقاد سوق لبيع الطيور في أيام الجمعة، وقد أقامت بلدية البيرة احتفالية إنارة فانوس رمضان هذا العام في ذات الساحة.
ويبدو أن الحالة التي شهدتها المدينتان، ورام الله تحديداً، قادت إلى زيادة عدد سكان المدينتين مقارنة بغيرهما من المراكز الحضرية الفلسطينية، نظراً لتركز العائدين-مع السلطة من الخارج- فيهما وقدرتهما على استقطاب المهاجرين بما توفره المؤسسات المتركزة فيهما من فرص العمل للوافدين من مناطق شمال الضفة الغربية وجنوبها، إضافة إلى تسارع النمو العمراني وتنوع وكثافة حضور المؤسسات وبروز ملامح أنماط الحياة المدينية المعولمة وتغيير المورفولوجيا والتركيبة الاجتماعية-الاقتصادية والطبقية لحيزهما الحضري الذي شهد ارتفاعاً ملموساً في أسعار الأراضي، مصحوباً بتبلور نماذج وأنماط لحيوات حضرية يومية متمايزة وظهور تباينات واختلافات واضحة في التوجهات الاستثمارية وفي الطابع العام لمدينتي رام الله والبيرة. إضافة إلى إدخال تغييرات وتعديلات عديدة على المخططات التنظيمية وعلى أنماط استخدام الأراضي، وإنشاء بنايات وأحياء سكنية على طرز حديثة ومعاصرة، إلى جانب إطلاق أسماء جذابة كالريحان والغدير، وأخرى عالمية وغربية على مباني رام الله وفضاءاتها، بصفة خاصة، وبروز وجهات ونطاقات مكانية حصرية وظهور ضواحٍ ومناطق سكنية راقية ومجمعات تجارية فخمة وسلاسل المطاعم والمقاهي ذات الصبغة العالمية والواجهات الحديثة، المتركزة في رام الله دون البيرة.
ومن الجدير بالذكر أن أسعار الأراضي في رام الله أخذت تشهد ارتفاعاً دراماتيكياً بعد قيام السلطة الفلسطينية –ربما بوتيرة أعلى من المدن الأخرى- الأمر الذي انعكست تجلياته بشكل واضح على فضاءاتها المختلفة، خصوصاً في ظل التصورات التي بدأت تتبلور حولها وتعززت ملامحها بعد انتهاء اجتياح الضفة الغربية عام 2002 وبدء ضخ الاستثمارات فيها، وذلك في ظل تطمينات الحكومة والسياسات الإصلاحية التي أطلقها رئيس الوزراء سلام فياض مشفوعة بتدفق المساعدات الدولية التي هدفت إلى تثبيت ركائز عملية السلام والاستقرار في المنطقة. كذلك فإن بعض أحياء المدينة صارت تشهد تمايزاً اجتماعياً واضحاً وأصبح فيها “شرق” و”غرب” أو “فوق” و”تحت”، وظهرت فيها مناطق مخصصة للأغنياء بحيث تستقطب فئات محددة، بعد أن كانت البيوت الفارهة قليلة ومعدودة في رام الله، وصار وجود الناس في مكان ما يعكس هوية أو صورة معينة في ظل وجود تغيرات مفاهيمية متعلقة بالحرية والهوية والتكافل الاجتماعي لدى الأثرياء الجدد واللاهثين وراء الاستهلاك الاستعراضي وارتياد أماكن معينة تعزز التصور النخبوي وتتيح لهم أن يكونوا ضمن الدائرة الاجتماعية التي يمكن أن توفر لهم القبول والفرص.
المراجع