النظر إلى الحدث الذي استضافه معهد العالم العربي في باريس، بعنوان “ما تقدّمه فلسطين إلى العالم” يكون من زاويتين: الأولى (تُحسَب له) في ضرورة أن تحضر فلسطين من خلال معارض وفعاليات موازية في قلب باريس، ما يصعب توقّعه من قبل مؤسسات ثقافية أخرى وكبرى في العاصمة الفرنسية. الثانية (تُحسَب عليه) في تواضع الحدث، كمّاً ونوعاً، أمام ما “يقدّمه المعهد إلى العالم”، أو مقابل الأحداث الفنية والثقافية الأخرى في المعهد. قد يكون أحدثها إحياء “عيد الموسيقى” أياماً بعد إطلاق الحدث المتواضع عمّا تقدمه فلسطين إلى العالم، واضعاً هذا “التقديم”، في النهاية، بصيغة التقليل من فلسطين وعموم إنتاجها الثقافي والفني.
لنترك النقطة الأولى جانباً، فليس تكرّماً، وتحديداً في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، من معهدٍ يحمل اسم “العالم العربي” تسليط ضوء ولو خافت، على قضية العرب الأولى، بوصفهم عرباً وبوصفها القضية الأولى الجامعة لهم خارج وطنيّاتهم. بل يبدو الحدث، في شكله المستعجِل كأنّ انتباهاً متأخّراً للمناسبة طرأ على منظمّيه، محاولةً لاستدراك مسألة “يهود الشرق” (ما بين ٢٠٢١ و ٢٠٢٢)، المعرض الذي تلقّى المعهد بسببه مقالات نقدية وبيانات توبيخيّة ودعوات محقّة للمقاطعة، من مثقفين عرب، لما بان محاولة تطبيعٍ لإسرائيل، الدولة الاستعمارية الغربية، في المشرق بصفتها دولة يهودية من بلاد الشام (للروائي الياس خوري مقالة عن المعرض بعنوان “يهود الشرق واليهود العرب“). أما الفارق في حجم الإنتاج لكلا الحدثَين فيشي بجدية أحدهما مقابل هزلية الآخر، وهو ما أظهر فلسطين، بما قدّمته للعالم بحسب المعهد، ضئيلة وقليلة. هو ما أساء، أخيراً، لواقع الثقافة الفلسطينية.
لا داعي لإشاراتٍ لتسرّع الاشتغال على الحدث في خطأ طباعي على رأس الصفحة الأولى من “دليل الزائر” نراه في “صالت” بدل “صالة”، مقدّماً بارتباك، لزائر ٣ معارض تراوحَ اثنان منهم بين أعمال لا صلة لها بفلسطين، وأخرى على السطح من عموم النتاج الفني الفلسطيني، كأنّها ما توفّر في متناول اليد، أعمال أقل من عادية بالنظر إليها في سياقها عرضها ومناسبته، بالمقارنة مع إنتاجات فنية لفلسطينيين تتنافس في جماليات وتقنيات ومضامين تحضر في معارض وغاليريهات ومتاحف في فلسطين والعالم. المعرض الثالث، على صغره، كان أهمّ ما في الحدث، وهو “حقائب جان جينيه”، وهو إضافة حقيقية وقيّمة لاسم فلسطين في باريس.
بعنوان طموح قدّم المعهد أعمالاً بدت ملخّصات متسرّعة عمّا قدّمته فلسطين إلى العالم، لسوء اختيارها تحت هذا العنوان وعشوائية تنسيقها. وأتى العنوان مرتبكاً، لغوياً أولاً، فهو عمّا قدّمته فلسطين “إلى العالم” في مطبوعاته، و”للعالم” في موقعه الإلكتروني. حمل المعرضان عنوانَي “الفلسطينيون والفلسطينيات في متاحفهم” و”صور فلسطين: أرض مقدسة؟ أرض مسكونة!”، وللعجلة تفاوتَت ترجمة العنوانين كذلك، فنجد في “الدليل” كلمة “عند” بدل “في” للعنوان الأول، وكلمة “مأهولة” بدل “مسكونة” للثاني. والحديث هنا عن أخطاء في العناوين الثلاثة للمعرض لا في هوامش وشروحات، أخطاء لا تأتي عن جهل بل تسرّع وارتباك. بعض الأعمال الممتازة والقليلة بدت في غير مكانها، وأقرب للعنوان لا لتنفيذه. أهمّها عملٌ لهاني زعرب وآخر لتيسير بطنيجي، كلٌّ في صالته، وقد منحا بعض الجدية في ردهات الصالتين التائهة بين أشكال فنية غير منسجمة، رغم ارتخاء عنوانَي المعرضين في إمكانية شمولهما لما تناولته أيدي المنظّمين.
بمعزل عن الأعمال الفنية الممنوحة من قبل فنانين من العالم، إلى ما يُخطّط له أن يكون متحفاً للفلسطينيين في المنفى، وهو مشروع ضروري، عرضها المعهد في حدثه هذا المتعجّل، ولا صلة ولو معنوية أو تأويلية يمكن بها ربط الأعمال بمعرض له عنوان فلسطيني، بمعزل عنها، كانت الأعمال الفلسطينية المعروضة، والممتدة لأشهر (١٣ مايو – ١٩ نوفمبر) تمثيلاً رديئاً لما يمكن تسميته بالفن الفلسطيني المعاصر الذي قدّمته فلسطين إلى العالم، وعملياً إلى الجمهور الفرنسي. الإساءة كانت في تنسيق المعرض، ما بدا تنسيق هواة، لا في الأعمال التي أساء الحدث والتنسيق والعناوين إليها، بضمّها إلى عنوان شاسع وشى، أخيراً، بهزل الحدث. هزلٌ يطال عرضَ تسجيل فيديو يملأ صوتُه القاعة، لمحمود درويش يقرأ “مديح الظل العالي” بتسجيل من “تلفزيون فلسطين” موجود، تاماً كما هو، على يوتيوب.
لكن، وإن بان الحدث الفلسطيني في المعهد العربي الفرنسي، من بين الأكثر استعجالاً وتسطيحاً في أحداث المعهد الثقافية وطويلة الأمد في السنوات الأخيرة، وقد بدا نوعاً من الاعتذار المتعذِّر عن الظهور، علّ المعهد يصحّح علاقاته مع مثقفين رافضين لأي تذويت لإسرائيل في المشرق العربي، حرصاً على شعوب هذا المشرق ومجتمعاته بشتى انتماءاتهم الدينية والعرقية، وأساساً على صون عدالة القضية الفلسطينية. كانت، في موازاة ذلك، المعارض الثلاثة أقلّ استعجالاً من غيرها، على الأقل، ضمن فعاليات الحدث، فالعروض السينمائية دلّت على تعجّل في البرمجة، كأنّها مَهمّة بيروقراطية لا بد من إنهائها بالموجود. كانت لفيلمٍ لفّ صالات باريس وفرنسا والعالم والمنصّات، ولا جدوى فعلية من إعادة عرضه، وهو “إن شئت كما في السماء”، أما ما دونه فكان من بين الأشد رداءة مما أنتجته السينما الفلسطينية في السنوات الأخيرة، “أمريكا”، وآخر هو الأسوأ في مضمونه السياسي كفيلم فلسطيني، “التقارير حول سارة وسليم”، إضافة إلى فيلم ليس فيه ما يميزه فنياً، يُشفع له أنه التجربة الأولى لصاحبه، “٢٠٠ متر”. يرافق العروض هذه تساؤلُ أحدنا في مبرّر اختيارها هي تحديداً، لا الجودة ولا الجدّية طبعاً، ولا وجود لما يربط بينها ثيماتياً ما يجعلها برنامجاً واحداً متكاملاً. هي برمجة تؤخذ مثلاً على الفشل. المبرر الوحيد المعقول هو أنّها، الأفلام، ما توفّر، وسريعاً.
اللقاءات والقراءات والندوات، كانت أقل إثارةً حتى للنقد، رتابة في المواضيع المكرورة وغباشة في الأسماء المدعوّة. ملاحظة واحدة تجمعها تثير تساؤلاً في منح الوكالة إلى فرنسيين للحديث فلسطينياً، كأنّ لا فلسطينيين يمكن أن يخبروا العالم بما قدّمته بلدهم إليه. كأنّ الفرنسي أعلمَ منهم به.
هذا الاستعجال المرتبك، المشير إلى أسئلة أولها سيكون في أن المعهد، إن كان يستطيع إحياء حفل صاخب بالتوازي مع حدثه “الفلسطيني”، وإن كانت معارضه على تفاوت جودتها، مشغولة بإنتاجات ضخمة، ومن بينها ما خدم فعلاً الثقافة العربية، ما الذي جعل من حدثه الفلسطيني أقرب إلى رفع عتب، إلى حدث خجول كأنّه معيب؟ وأقرب إلى تمنّعٍ مضطرّ إليه، ليستحضر مثقّفين قرّعوه وقاطعوه أو تجاهلوه منذ معرضه البائس قبل عامين؟ أيّ تواضع يطال الثقافة الفلسطينية في أذهان الخارجين من فعاليات الحدث، وفي أذهانهم تحويلٌ لعبارة العنوان إلى سؤال استفهامي، أو استنكاري: ما الذي قدمته فلسطين إلى العالم (إذن)؟