أكثر ما تستدعي قراءة “بناية تي. في. تاكسي” للكاتب اللبناني زياد كاج والصادرة عن “دار نلسن” في بيروت، التأمّل في نص الذاكرة حيث ثمة ترتيب آخر للسرد يحتل فيه الانفعال الوجداني الحيّز الأكبر.
تتجاوز هذه المذكرات في متنها الأعم كونها سيرة ذاتية أو “سيرة مكان” بل ترى أن الحس الروائي يتاخم السرد منذ البدايات الأولى للكتاب. لا يتوانى زياد كاج في عمله هذا عن إسكان متلقّيه في حيّز من الحميمية وكأننا إزاء سرد مضاد لِما يحفل به الكتاب من أوجاع وآلام وحروب عايش الكاتب بعض تفاصيلها وحفر عميقاً في تداعياتها، ذلك أن ثمة عشق لمدينة بيروت لا يني يغلّف النص بذلك الشبق الذي يستدعي التعلّق بهذه المدينة أكثر وأكثر.
منذ السطور الأولى لهذا العمل مهّد الكاتب الدرب أمام القارىء لتلقّف بناية “تي.في. تاكسي” والتي تقع في منطقة الصنوبرة ببيروت، كتجسيد مصغّر لمجمل المدينة. ليست المدينة في هذا العمل مجرد أمكنة وشوارع تداخل بعضها بعضاً بل نحن، ومع التوغّل في الكتاب، إزاء تنويعات في المشاعر والانفعالات والآمال وخيبات الأمل… المكان هنا هو ناسه والناس في ذلك المكان في تماه مع ذلك المكان.
يقول الروائي الفرنسي ريشار مييّه في كتابه “مدينة كان اسمها بيروت”، إن بيروت لا تهب نفسها دفعة واحدة، وهي عبارة قد تشكّل في بعض تأويلاتها صدى لكتاب زياد كاج موضوع هذه القراءة. إن المبنى والشارع والمدينة في هذه المذكرات هي محل نشوء تدريجي خلال عملية السرد وما ينطبق على الأمكنة في هذا الصدد ينطبق أيضاً على ناس الكتاب، غير أن فَوَران الذاكرة يعود ليُلمح مع نهاية كل فصل إلى المآلات الأخيرة لأولئك الناس ولتلك الأمكنة فإذا بنا وطيلة قراءة الكتاب مغبة السؤال عن تلك العلاقة الملتبسة التي تقيمها الكلمات مع الذاكرة.
ليست الكلمات في هذا المحلّ مجرد أدوات تعبير أو مجرد صلات وصل بل هي في بعض محمولاتها أقرب إلى أصوات مجسدة فوق الورق. إن التاريخ الذي يتلوّى داخل الصدور في سياق نصّ السيرة غالباً ما يتحسس طريقه على غفلة عن الكاتب… إن للذكريات منطقها الخاص في الحضور والغياب وفي المكوث بين بين.
إن بيروت زياد كاج كما صير إلى سردها في عمله هذا هي جملة من الأصوات التي تأبى أن تُكتم أنفاسها. ثمة تواطؤ غير معلن بين الماضي وسياسة الذاكرة وهو تواطؤ يقوم على تحفيز الحاضر، التشبّث به ومدّه بكلمات تتطاول عبر حقب التاريخ. فالذاكرة في هذا التناول هي في جانبها الأعم أقرب إلى كائن رشيق لا يرنو إلى محض الماضي لكنه أيضاً يسعى لأن يتولى كل شؤون المستقبل. قد يقع نص الذاكرة في براثن التردد، التكرار، الخوف، التخييل لكنه على الدوم هو نص مندفع… إن فيض الذاكرة يأبى الإستسلام إلى محض ماضيه ذلك أن عين الذاكرة عنيدة جداً وهي تجيد التحديق بإمعان ليس في جسد الماضي فقط إنما أيضاً في جسد المستقبل، وليس من المستغرب أن ثمة من قارب الذاكرة كسلطة!
إن سلطة الذاكرة التي ترسم ماضي بيروت كما بثّه زياد كاج تدفع (هذه السلطة) بهذا الماضي المؤرق لأن يزاحم حاضر المدينة إلى حدّ التناطح حيث ثمة استدعاء غير معلن لمقاربة الماضي كأنه مرآة على الحاضر التحديق بها رأفة بالمستقبل. ثمة في هذا الكتاب ما يوحي أن حروب بيروت المتواترة لم تتأطّر في برواز الماضي ومتحفه بل ترى هذه الحروب محل ملازمة ليوميات المدينة بطرق أخرى، وربما تلك الذاكرة النشطة التي تؤلّف “بناية تي.في.تاكسي” هي محاولة للزود عن الحاضر عبر التمعّن في ماضي حروب بيروت ونزق ميليشياتها وزعماء طوائفها… “نحن أولاد أم رياض وأبو رياض. كنا من جيل الصدفة… حتى اليوم لا أفهم كيف تمكنا من العبور سالمين من محدلة الحرب. هل هي بَرَكة أمي؟ هل هي سخرية أبي وأخذه الأمور ببساطة، أم الإثنان معاَ؟”….
نعم، ثمة ما يشي في عديد متون الكتاب إن النجاة في هذه المدينة هو من باب الصدفة وإن الموت لا يني أن يكون كل مرة قاب قوسين أو أدنى بيد أن سرد الذاكرة كما صيغ في كتاب زياد كاج تراه يتحرّى تجنّب هذا الموت المحدّق عبر زخم الكلمات. إن الكلمات ها هنا هي حيلتنا في الإستمرار، في تنشّق هواء البحر وفي التسكّع داخل أزقة تجفّ فيها الحياة يوماً بيوم.
إن الصفحات الأخيرة من سيرة أمكنة كاج البيروتية تستدعي بإلحاح السؤال التالي: ما هو الأفق الذي يحدّ من سلطة الذاكرة؟ ليستنتج القارىء بعد تقليب متون الكتاب في ذهنه أن الموت هو جدار الذاكرة، الموت فقط هو القادر على قضم الجسد الهائل والمترامي الأطراف للذاكرة. في نص له عن مدينة جنيف السويسرية يخبرنا الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس أنه في الذاكرة كل شيء بديع بما في ذلك الحظ العاثر. لكن ماذا لما تكون عاصمة سويسرا الشرق محل عثرة على الدوم!!
لم يمنع الحظ العاثر زياد كاج عن تسقّط أخبار بيروت عبر لغة حرة مباشرة صادقة وحميمة إلى حدّ لمعان الدمع في العيون. لا انضباط ممارس على حزن الذاكرة ومرحها في هذا العمل ولا حدّ من غلواء شبق هذه الذاكرة وعشقها لهذه المدينة المضمحلة. نعم، ثمة تماه بين نص الذاكرة والرغبة كما يجمع الكثير من النقّاد… ثمة كلمات مرتجاة، كلمات منتقاة بعفو الخاطر وكلمات تتحسس الأمان والفرح المؤجّل. إن الذاكرة هي في بعض تجسيداتها فيض للمرتجى وليس فقط لأحداث التاريخ كما وقعتْ. أما في “بناية تي.في.تاكسي” فإننا إزاء ذاكرة هي على الدوم محل مناوبة بين مأساة مدينة بيروت وما يرجوه أحبّتها لها. فنصّ الذاكرة حتى وإن كان مأتمياً تراه ينبض بالحياة على غفلة من الموت.
في كتاب “يوميات مدينة كان اسمها بيروت” يتساءل نزار قباني “هل تُحلّ الأزمة اللبنانية بالفاليوم… بالحشيش، بالماريجوانا، بالأفيون؟”… وأنا أزيد على لائحة قباني لأسأل بدوري، هل تُحلّ هذه الأزمة بالكبتاغون؟… ويردف الشاعر السوري بالسؤال التالي: هل تُحلّ بالنسيان وفقدان الذاكرة؟”. لست أدري سبل حلّ الأزمة اللبنانية لكني على قناعة تامة أن نص الذاكرة بالإجمال يتخلل كل متون الحاضر وتراه يرنو للمستقبل وأن كلمات هذا النص تتحدى ذلك النسيان المُفتعل عبر كل أنواع المخدرات.