لسنوات طويلة قبل أن أبدأ بالتعريف عن نفسي كنسوية، كانت النسوية بالنسبة لي مصطلح يوازي الذكورية من حيث المعنى والقوة والهدف، كلاهما اقتطع جزءاً من المجتمع أراد تزكيته على الآخر. والإنسان في بداية عمله السياسي، خاصة في عمر المراهقة والشباب، تكون المصطلحات بالنسبة إليه/ا تعريفات جامدة وأفكاراً جاهزة يقبلها أو يرفضها بحماس، أو على الأقل هذا ما كان صحيحًا في حالتي. لم يأخذني الأمر طويلًا قبل أن أكتشف نفسي كامرأة لاجئة تنتمي إلى طبقة المفقّرين، وعندما تحلل موقعك طبقيًا وتفهم أنَّ الجنس الذي ولدت فيه أبعد من خانة صغيرة على إخراج القيد لا تعود السياسة ومصطلحاتها مواد جاهزة للقراءة والحفظ، بل تصبح مهارة وقدرة على فهم واقعك اليومي من أجل النجاة والحفاظ على الوجود في الحد الأدنى. وهكذا أصبحت النسوية أداة تحليل أستخدمها يوميًا لتفكيك الواقع، وفهم الأحداث بشكل أعمق، وبالتالي أخذ مواقف أكثر عدالة. أصبحت النسوية فكراً ليّناً قابلاً للتطور، وشارعاً تناضل فيه النساء بظروفهنَّ المختلفة. والإناء الوحيد تقريبًا الذي يتغير شكله، حسب مضمونه لا العكس، أيّ أنّه فكر يتغير حسب سياق النساء ولا يفرض على النساء التغيّر للاتساع فيه.
يسألني أحدهم، كم تعتبرين نفسك نسوية من واحد إلى عشرة؟ أجاوبه بسذاجة وحماس: عشرين. يأخذني بعض الوقت قبل أن أنتبه أنّ هوية الأشخاص لا تقاس بهذه البساطة. ومدى التزامه بالفكرة يتطلب دراسة ما إذا كان الشخص قد أدرك الفكرة كاملة أصلاً أم بعد، وأتنبّه إلى أنَّ النسوية تحديدًا هي ممارسة يومية تتغير وتتحسن، وليست امتحاناً نتنافس على علاماته. لكنني اليوم أفكر، أنَّ أول ممارسة نسوية قمت بها هي عندما استبدلت كلمة امرأة بكلمة نساء في كتاباتي. تقول جنى صديقتي، نحن لسنا واحدة، وكلمة امرأة تعني الواحدة منا تمثل الجميع، ورغم رومنسية الفكرة إلا أنَّ هذا ليس حقيقي. نحن نتشارك المعاناة ولكنها ليست واحدة، ولا يُمكن لتجربة واحدة منا أن تختصر تجربة الأخريات، لسنا حالة دراسية ينتج عنها معلومات دقيقة تصلح للتعميم. وهذا يعني أنَّ الممارسة الثانية في النسوية هي أن تفهم الواحدة منَّا معاناتها وسياقها وخصائصها ومع من تتشارك هذه الظروف المحددة ثم تستعد للإصغاء لما سيقولنه الأخريات وفهمه وتحليله وإيجاد معهنَّ أرضية مشتركة ونقطة انطلاق واحدة نحو مستقبل يضمن وجود جميع الفئات والمجموعات خارج هوامش الأنظمة الرأسمالية الأبوية. وهكذا إذا أصبحت النسوية ممارسة يومية أخرجْ عبرها من حدودي الشخصية والفردية لأتعلم عن تجارب الأخريات (والآخرين) منهنّ (منهم) وبكلماتهنّ (كلماتهم)، وأن أفهم موقعي وما يترافق معه من معاناة وامتيازات، وهكذا تحولت النسوية من فكر يوازي فكر مستبد ومستعبِد إلى أداة تحليل سياسية واقتصادية واجتماعية مقاوِمة ومناهضة له. لم تعد النسوية “حقوق المرأة” في بالي، بل أصبحت حركة لتحرير الشعوب تتقاطع فيها اعتبارات الطبقة، والجنس، والجندر، والعرق، والظروف التاريخية والجغرافية.
وطبعًا عندما تتبنى فكر تبدأ النضال في صفوفه، وكلّ من يتخذ النضال خيارًا في الحياة يعرف أنَّ الدرب لن يكون وردًا وعصافير بل حقل ألغام. مفهوم، سنخسر الكثير ونقدم الكثير إلى جانب من يشاركنا الرحلة، وأحيانا تكون الألغام على شكل من “يشاركنا” الطريق. من البديهي أن ينشق عن كل فكر تيارات مختلفة ورؤى جديدة ومحاولات لتمثيل عدد أكبر من متبعي هذا الفكر، لكن ما ليس مفهومًا أن تنشأ تيارات لا تمثل إلا فئة ضيقة تُقصي الأخريات وتكون بأسلوبها في “النضال” أحد أكبر العوائق أمام نضال الأخريات، بل مُشارِكة في قمعهنَّ. عندما نقول “نسوية بيضاء”، فنحن نقصي أكثر من نصف النساء والفئات والمجموعات تلقائيًا. في أفضل الأحوال، إذا كنّا سنعطي أفراد هذا التيار براءة الجهل، سنصنّف فكرهنَّ بالفكر القاصر والعاجز عن التحليل، وتفكيك ديناميكيات القوة. لكن هذه البراءة لم تعد معقولة اليوم، بعد معاصرة الإنسان لمئات الحروب والمعارك والأنظمة وأشكال من الحكم وآلاف من الأفكار والشخصيات السياسية. وفي زمن التطور والتكنولوجيا وامتلاك المعلومات عن تاريخ الإنسان بجهاز يتسع في يدٍ واحدة، من غير المعقول أن أعطي تيارًا كاملا براءة الجهل أو العجز عن الفهم.
من الضروري اليوم عندما نتحدث عن النسوية البيضاء أن نتذكّر أننا لا نتحدث عن أفراد غابت عن بالهن/هم الفكرة، بل عن أكاديميات/ين وصحافيات/ين وباحثات/ين يُدركن موقعهنَّ واستفادتهن من النظام والامتيازات التي يمتلكنها ولا يمانعن إقصاء الأخريات وتسخيف معانتهن للحفاظ عليها (الامتيازات). والنسوية البيضاء كأيّ مصطلح سياسي آخر، ليست مصطلحًا جامدًا، أي أنها لا تعبر حرفيًا عن البيضاوات وحسب. مصطلح أبيض في السياسة ولو كان أصله عرقي إلّا أنّه يعبّر عن منظومة كاملة. لا يمكنني مثلًا أن أعتبر المغنية الشهيرة بيونسيه، نسوية سوداء (بما أنها تعبر عن نفسها كنسوية ومناصرة لحقوق النساء)، بيونسيه التي تقول في أغانيها أنَّ النساء يحكمن العالم في محاولة منها لرفع شأننا، تستغل عاملات سيريلنكا وتستضعفهن وتعطيهن ٦ دولارات مقابل عمل يوم كامل! ومع هذا فإن الليبراليات والنسويات البيضاوات، يرين في نجاح بيونسيه سببًا للاحتفال! أو مثلًا الإعلامية أوبرا وسردياتها عن النجاح، وخطاباتها الفردية عن شق الطريق كامرأة سوداء، من يصفق لأوبرا؟ من يريد فرضها نموذجًا على الأخريات؟ هل تأخذ النسوية البيضاء النساء الفلسطينيات المقاومات للاحتلال الإسرائيلي، في مشاركة النساء في الحياة السياسية أم تفضل نعي الملكة اليزابيث كنموذج؟ هل تحتفي بنضالات النساء في السودان أم في مسيرة أنجيلا ميركل؟ الهدف من هذه الأسئلة هو تبيان ما إذا كانت هذه “النسوية” حقا تناهض الاستعمار والاستغلال والأنظمة القامعة والمفقّرة للنساء، أم أنها فقط تعترض على عدم وجود النساء فيها؟
عن عمل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الممولة من “البيض” في بلادنا
تقول بيل هوكس أن النسويات البيضاوات كنّ يدعين السوداوات لضرورة المشاركة معهن في النضال، وكأنهنّ تملكنَ النضال أساساً. فلنفكر كيف حولت المنظمات في بلادنا العمل النسوي من نضال في شارع واسع وحركة لا يملكها أشخاص، ومساحة يناضل من خلالها الجميع من أجل الجميع، إلى نطاق خجول مقتصر على نساء تتمّ “دعوتهن” للمشاركة في مشاريع ذات مقاعد محدودة، ومشروطة ضمن كوتا عرقية، أو قومية حسب طلب الممول ورغبته في تجميل صورته، وتقديم نفسه كمحبّ” للأقليات والمهمشات/ين. عمل هذه الجمعيات وأجنداتها تعبّر عن رؤية الرجل الأبيض لنا، كدول عالم ثالث نحتاج لمن يعلّمنا ويهذبنا ويخبرنا عن حقوقنا، وكيف نحصل عليها، في الوقت الذي تعمل فيه حكومات السفارات الممولة على فرض سياسات مؤذية لشعوب هذه البلاد لا سيما النّساء والمفقرات ومجتمع الكوير.
العمل النسوي اليوم مفرّغ من البُعد السياسي وتُحدد أولوياته حسب أجندة الممول، وهو يقتصر على مشاريع تُفرض على النساء دون دراسة السّياق الذي تعيش فيه تلك النساء. هذه المشاريع في غالبيتها تهمل المشاكل البنيوية، وتعمل على إنشاء مبادرات مع مجموعات قليلة جدًا تحت مسمى “المستفيدات/ين”، وأسوأ ما في الأمر أنَّ هذه الجمعيات والمنظمات النسوية تتنافس في ما بينها بدل من تقاسم العمل حتّى تكتمل الحلقات، وتتسابق على كسب التمويل و”الرضا” دون الأخذ بعين الاعتبار حاجات النساء فعليًا، ودون وضع خطة للاستمرارية، فتكتشف فجأة أنَّ مشاكل النساء تنتهي مع انتهاء التمويل الذي وُزّع نصفه على أعضاء الإدارة والتي وظفت بدورها مجموعة من الأقارب والأصدقاء حتى لو لم يستوفوا الشروط البديهية للعمل. ومن جهة أخرى، هناك الذين يطلبون من طالبي الوظيفة، مئة سنة خبرة وعشر شهادات جامعية وقدرة على تحمل الضغط والعمل في أوقات العطلة، وغالبًا يتقاضى هؤلاء الفُتات مقابل انجازهم معظم العمل، ثم نصل لفئة المتطوعات/ين أو المستفيدات/ين حسب تسمية الممول، اللاتي سرعان ما يشعرن بالفوارق الطبقية والاجتماعية بينهنَّ وبين المنظمات، ويختبرنَ الفرق بين ما يُطلب منهنَّ وما يحتجنه فعلًا، وسرعان ما تكتشف مهاد وريتا وجنى ومريم ونور أنَّ مشاركتهنَّ في البرلمان ضمن النظام نفسه، أو تواجدهنَّ ضمن صفوف الجيش وقوى الأمن الداخلي، لا يغير النظام ولا يصلحه حتَّى، بل يُشرك النساء بعملية اضطهاد الأخريات.
قد يكون تقديم بعض الخدمات أداة من أدوات النضال للوصول لعدد من النساء، شرط أن تكون النساء بحاجة لهذه الخدمة بالفعل، لا حاجة مختلقة. لكن لا يمكن إدراج العلاقة الزبائنية بين الجمعيات والنساء تحت النضال النسوي، ولا يمكن الاستسلام لأجندة المشاريع المفروضة من الممول، والتي لا تحمل خطة للاستمرار، ولا تتطلع لتغيير الواقع بدلاً من ترقيعه. ولا يمكن التساهل مع ترويض مصطلح النسوية عبر مجموعة تقف مع المُستعمِر لحماية امتيازاتها. النضال النسوي جرف من النساء، لا مقاعد محدودة، ممولة، ومشروطة. ونحن لا نتعلم مقاومة ومواجهة معاناتنا ممن كانَ سببا لها.