في البدء كانت النسوية البيضاء… ليس لأنَّ الوعي النسوي كانَ سبّاقًا تاريخيًا في المجتمعات البيضاء، ولكن لكون بدايات التنظير الأكاديمي المكتوب للنسوية، وصياغة المفهوم في حد ذاته ظهرَ في أوروبا وأمريكا. ولأن ظهور النسوية كممارسة “رسمية” تزامن مع الموجة الثانية من التوسع الإمبريالي الغربي، فقد كان من البديهي أن تكون مشبعة بنفس الأفكار السائدة آنذاك وعلى رأسها العنصرية والفوقية. تجاهل نضال النسويات الغربيات، الأوروبيات والأمريكيات، جميع أشكال الاضطهاد التي طالت نساء المستعمرات والنساء السوداوات والساكنات الأصليات، ثم النساء المهاجرات لاحقًا. لم تستسغ “السوفراجيت” الأمريكيات أن يحصل الرجال السود الأقل شأنًا منهنَّ على حق الانتخاب بينما تحرمن منه، بل وفرضن على النساء السّود أن يتخذنَ مكانًا في ذيل المسيرات. كما أنَّ الموجات النسوية الأولى لم تحفل بفظائع الاستعباد وتبعاته المضاعفة على النساء، ولم تشغل بالها كثيرًا بحملات التعقيم القسري ضد السكان الأصليين في أمريكا، ولم تتوقف كثيرًا عند معاناة عاملات الجنس مع الأمراض والمخاطر المتعلقة بظروف عملهن. كان اهتمام النسوية البيضاء منذُ بداياتها يدور حول حصولهن على نفس امتيازات الرجال البيض وكيفية مشاركتهم السلطة، بما في ذلك السلطة على النساء غير البيض عبر الاستغلال الاقتصادي والاستعماري.
ترتبط النسوية اليوم، بصفة عامة، بالمطالبة بالحقوق والحريات والمساواة، إلا أنَّ النسوية البيضاء لا زالت واحدة من أكثر مظاهر الفوقية البيضاء انتشارًا وشيوعًا، ومن أكثرها خطرًا أيضًا. تمنح النسوية امتيازًا إضافيًا للنساء البيض ليعزز من موقعهن ورأسمالهن الاجتماعي وظهورهن أيضًا. في نفس الوقت، تمنح النسوية تلك النساء إحساسًا مزيفًا بالنضال الجذري والثوري، بينما في الواقع تقتصر مطالبهن على حقوقهن كمجموعة متجانسة تطمح دائما للمزيد ولا تلتفت لما تعانيه باقي النساء. في أحيانٍ كثيرة لا تكتفي النسويات البيض بتجاهل معاناة نساء من طبقات أو/و إثنيات مختلفة، بل تتقمص أدوارهنَّ لتعيش معاناة وهمية تضفي على نسويتها شرعية إضافية و تمكنها من البقاء تحت الأضواء ومن الحصول على تعاطف، وعدد مشاهدات أكبر. ولعل أبرز تمظهرات هذا التوجه حاليًا، موضة العودة لحياة الريف وترك المدن، والعمل خارج البيت من أجل إنجاب ورعاية عدد كبير من الأطفال، ورمنسة هذا النمط المعيشي الذي يعتبرنه مثاليًا بينما يُقتل آلاف النساء سنويًا بسبب الحمل، الولادات المتكررة، ونقص الرعاية الطبية، والمياه غير الصالحة للشرب، والصرف الصحي في غالبية أرياف العالم.
تحتل الإمبريالية البيضاء العالم، وتحتل النسويات البيض المجال العام والأكاديمي، ومواقع التواصل والمنابر المختلفة للحديث عن أوضاع النساء، وعن انعدام المساواة في سوق العمل وفي التمثيل السياسي وعلى الشاشات، وتعِدنَ إنتاج نفس منظومة التّمييز عبر احتكار الموارد التي تتمثل هذه المرة في الخطاب النسوي والتنظير. وتستفيد النسويات البيض من هذا الظهور المكثّف معنويًا وماديًا بينما يساهمنَ، عن قصد أو بدون قصد، في إقصاء نساء الهامش أكثر وأكثر خاصّة ممن لا يتقنَ لغة البلد أو الأكواد الاجتماعية اللازمة، ولا يمتلكن المفردات الرائجة، ويفتقدنَ للعلاقات العامة التي تمكنهنَّ من الانخراط في دوائر الناشطية النسوية. في بعض الأحيان، تتنازل النسويات البيض، وتغدقنَ علينا اهتمامًا ببعض ما يؤرقنا كنساء ونسويات مهاجرات، أو من أصول مهاجرة، لكنّه اهتمام لحظي جدًّا يزول بزوال الترند، واهتمام مشروط جدًّا طالما نمتثل للصورة النمطية التي حوصرنا داخلها. النسوية البيضاء التي نتحدث عنها هنا ليست فقط النسوية اليمينية التي تجاهر بعدائها للمهاجرات، أو تلك التي تعلن بوضوح عن توجهاتها الليبرالية، بل أيضًا النسوية التي تصنّف نفسها كتيار يساري وتقاطعي يفتح أبوابه لجميع النساء.
عندما وصلت فرنسا، لم أكن أتخيل أنَّ الاندماج في المجتمع سيكون بتلك الصعوبة. تخيلتُ أيضًا أنني سأنخرطُ بسهولة أكبر في المجتمع النسوي بحكم نشاطي، وبحكم سقف الحريات المرتفع وأيضًا الخطاب السائد عن تمكين النّساء المهاجرات وتبني التقاطعية، والترويج لها على أنّها النهج النسوي الأمثل والأكمل. ثم تحطمت كلّ آمالي العريضات على صخرة النسويات البيض. والبيض هنا من البياض، لكنها أيضاً صفة مستوحاة من زناخة البيض في اللهجات المحكية، كناية عن ثقل الظل واللزوَجة.
من خلال متابعتي للمشهد النسوي الغربي بصفة عامّة، والفرنسي بصفة خاصّة، أستطيع التعميم والجزم أنَّ الخطاب النسوي التقاطعي الذي تتبناه الناشطات البيض هدفه الأوّل والأهم هو الطبطبة على ضمائرهن حتّى يتخلصن من الشعور بالذنب المرتبط بتاريخ شعوبهن الاستعماري، وينفين عن أنفسهن تهم العنصرية والإسلاموفوبيا التي أصبحت الشتائم الجديدة المكررة حد إفراغها من معناها. أيضًا، تعتبر النسوية البيضاء، بتوجهاتها كافّة، أننّا، كنساء آتيات من خلفية ثقافية مختلفة، لا يجب أنْ نتوق لنفس الحقوق التي تطالب بها نساء أوروبا، بل علينا احترام ثقافتنا المحلية وخطوطها الحمراء وإنْ قتلتنا، فيجب ألّا نمنح اليمين المتطرف فرصة ليشمت فينا أو يتقوّل على رجالنا أو ديننا (لا ليست أمي فقط من تقول هذا الكلام وتعمل حسابًا لكلام الناس)، لا علينا مناصرتهم مظلومين أو ظالمين ومغتصبين وقتلة، فالهجرة تجب ما قبلها وما بعدها وتغفر الذنوب جميعًا. أو ربما لأننا، مثلما قال أجدادهنَّ المحتلّون، من طينة مختلفة ونستطيع أن نتحمّل العذابات النفسية والجسدية والختان واختبارات العذرية والزواج القسري، بينما يرفلن في العلاقات المفتوحة والمتعددة ويناقشن إدراج الحق في الإجهاض ضمن مواد الدستور وينشرنَ صور أحدث ألعابهن الجنسية. ورغم شيوع شعار أنَّ الشخصي سياسي، واستخدامه الواسع من قبل النسويات، إلا أنهنَّ لا يجدنَ غضاضة في اتهامنا، نحن الوافدات الجديدات من بلدان مسلمة، بأننا متحاملات على الدين وعلى الحجاب تحديدًا، كرد فعل عاطفي على تجاربنا الشخصية التي لا يجب تعميمها أو حتّى الحديث عنها، فقد قررن، في مراكز السلطة الغربية، بأنَّ الحجاب تمكين وحرية للنساء ونحن أقل، قطعًا، من أن نعارضهنًّ في ذلك.
النسوية “النتفليكسية” تتّبع نفس طريقة الشّبكة الأمريكية في التسويق وتستخدمنا، مع طبق حمص الأفوكادو لضمان وجود لون أقل بياضًا في صورتها كدليل على اليسارية والتقاطعية والانفتاح على ثقافات العالم واحترام الآخر. لكنها لا تحترمنا. في خطاب النسوية اليسارية البيضاء، نحن جميعا نساء مهاجرات مسلمات نعاني من اضطهاد الحكومة التي تريد منا خلع الحجاب. هذا جوهر وجودنا و ملخص نضالنا. والويل لنا إنْ حاولنا الهروب من القالب وتجرأنا على إنتاج خطاب نسوي أكثر جذرية وعمقًا، يعادي جميع أنواع الاضطهاد بما فيه الإسلام والحجاب وذكورية مجتمع المهاجرين وعنف رجاله ضدنا. حينها ستلفظنا المساحات النسوية وستنبذنا مدعيين أنهنَّ حليفاتنا اللواتي يضعنَ امتيازاتهنَّ تحت تصرفنا وسنصبح العدوّات الداخليات، عميلات اليمين المتطرف وإسفين الإسلاوموفوبيا وغيرها من الصفات اللذيذة التي تجعلنا نتردد ونتقوقع ونصمت مجددًا ولا تجد ناجية مثل “هندة” من يقف إلى جانبها ضد مغتصبها الداعية الإسلامي “معبود الجماهير”، (الذي دافعت عنه العديد من النسويات التقاطعيات باعتباره رجلا مهاجرًا مسلمًا)، ولن تحظى الفتاة التركية المجهولة بمسيرات تطالب بالعدالة لها بعد أن قتلها والدها بحجة الشرف، ولن يتحدث أحد عن آلاف النساء اللواتي يسافرن لتونس من أجل خياطة بكارتهن، فالنسويات البيض مشغولات بالترويج للإسلام، الذي لن تعتنقه إحداهنَّ أبدًا، كداعم للنساء ولاستقلاليتهن. وكيف أنَّ الحجاب والنقاب يحمينا من التحرش الجنسي في الشوارع، ويحارب الرأسمالية وتسليع أجسادنا، والتغيير المناخي، وانقراض دب الپاندا. ووقتهن الثمين مقسم ما بين مشاركة منشورات النسويات الإسلاميات عن ضرورة منع السباحة في المدارس لأن المراهقات يشعرنَ بالحرج من أجسادهن العارية أمام زملائهن في الصف (لا أعلم من أين أتت إذا كل تلك المراهقات اللواتي يرتدين بيكيني الـ thong على شواطيء البحر؟) وبين محاولات مستميتة لتحويل ثورة النساء الإيرانيات على الحجاب إلى ثورة ضد النظام السياسي فقط، وممثليه الذين يستخدمون الدين الحنيف لخدمة مآربهم الدنيئة (نعم، سمعنا هذا الخطاب سابقا ونعرفه جيداً).
اختزال قضايا النساء المهاجرات ومن أصول مهاجرة في الحق في ارتداء الحجاب في المدارس والوظائف الحكومية واختزال هوياتنا المتعددة في الإسلام، ساهم بشكل كبير في إقصائنا وإبعادنا عن نقاشات أكثر أهمية حول التمثيل السياسي والمشاركة في الحياة العامة وفي مقاومة الرأسمالية والهيمنة الاقتصادية النخبوية، وقضايا البيئة والتغيير المناخي وغيرها من القضايا التي من المفترض أن تتشابك معها النسوية بشكل مستمر وجادّ. لكن النسوية البيضاء تدرك جيدًا أنَّ مساءلتنا للمنظومة الأبوية بجميع مستوياتها يحتّم علينا، في وقت من الأوقات، أن نُسائل أيضًا امتيازات النساء البيض وأن نسعى لتفكيك الهرم السلطوي الذي يقفنَ على رأسه، تحت أقدام الرجال البيض قطعًا، لكن فوق رؤوسنا، المحجبة طبعًا، وأن نزيحها عن تصدّر المشهد النسوي. هناك الكثير لنقوله عن وهم التقاطعية التي تتبناها النسوية البيضاء كي تتمكن من لعب دور المضحية التي تتنحّى جانبًا وتمنحنا منبرًا بكل طيبة وإنسانية، بعد أن فشلت في لعب دور المنقذة كأسلافها المبشّرين بالتّحضر والتقدم، وأكثر لنقوله عن ضرورة خلق تيار نسوي مهاجر يسع نقده الحكومات الغربية والعنصرية والتمييز واليمين المتطرف الأوروبي، لكنّه لا يداهن اليمين المتطرف المسلم، ولا يحاول تجميل ثقافته المحلية ،كي يستحق دعم وتعاطف النسوية السائدة، فكراهيتنا للأبوية وسعها السماوات والأرض وسنتكفّل بتوزيعها بالعدل والقسطاس على جميع من يستحقها دون أن يحرم منها أحد، ولا حتى النسويات البيض.