…دخلت بياض الثلج الكوخ وهي تلهث. فالهرب من بين يديّ الصّياد لم يكن سهلاً، حتى لفتاة تلقّت تدريباً أولمبياً على مدى عشر سنوات. وفيما كان اللهاث يخفت، كانت عينا بياض تستوعبان شكل الكوخ: الغرفة الصغيرة التي تقف فيها، غرفة أخرى متفرّعة منها، ومطبخ. وفي المطبخ، رائحة خفيفة شدّتها إلى إحدى الخزائن، لتجد فيها بعض الطعام.
غطست بياض في طنجرة الأكل، وهي تقول في سرّها: “هذا الأكل الهندي اللعين، ما أطيبه! أو هو ربّما عربي!”
أنهت نصف الطنجرة، مسحت يديها المتسختين بفوطة المطبخ المطرّزة يدوياً، واتّجهت إلى الغرفة الثانية، تبحث عن مكان تنام فيه بعد الأكلة الثقيلة. على الحائط، رُفِع عدد من الفِرَش الصغيرة المستّفة بعناية. “كيف أنام على هذه الآن؟ ” قالت بياض، وهي ترمي بالفرشة تلو الأخرى فوق بعضها البعض، حتى صنعت منها سريراً، فنامت ملء جفونها فوق فرشات البيت كلّه.
استفاقت بياض على هزّة في كتفها.
“من أنتِ؟”، قالت لها امرأة وقفت فوق رأسها. جلست بياض وهي تحاول أن تتذكّر كيف أتت إلى هنا وأين يكون “هنا” أصلاً. “أنا بياض الثلج، الأميرة بياض الثلج.” “واضح”، ردّت المرأة وهي تُدير بعينيها. “أأنت هاربة من شيء ما؟”
وقبل أن تُجيب بياض، دخلت الغرفة 98 وتسعون امرأة أخرى. لا نسأل كيف اتّسعت لهنَّ الغرفة، لأنَّ هذه القصة مليئة بالسحر والخرافات، فلن تضيق عين القارئة بغرفة صغيرة تسع 100 امرأة.
“نحنُ لاجئات مختبئات في الغابة أيضاً. فإذا كنت هاربة لا تخافي، أخبرينا.”
أخبرتهنَ بياض ما حصل لها، والدموع تنهمر من عينيها. ثم روين رواياتهنّ عن الحروب والمجاعات والمعتقلات التي هربن منها، والبحر الذي كدن يغرقن فيه، فانصدمت بياض وشجّعتهنَّ على الاستمرار والمثابرة وأنهت كلامها بقولها “لازم نكون قوايا”. ثم اتّفقن أن تعيش معهنَّ إلى حين تمكنها من العودة إلى قصر أبيها.
في الفترة الأولى من وجودها في كوخ اللاجئات، أحسّت بياض بأنَّ لديها الكثير ممّا يمكن أن تعطيه لهؤلاء النساء، فحاولت أن تنظّم لهنّ ورش تمكين، أرفقتها بتدريبات عن المناصرة.
ثم سعت إلى زيادة الوعي لديهنَّ، بأن تخبرهنّ عن أهمية إعادة التدوير، وعدم استعمال فرشاة أسنان من بلاستيك، كما واستخدام مياه أقل، حتى لفتت نظرها إحدى النساء بأن المياه تأتي إلى الكوخ ثلاث مرّات في الأسبوع فقط، وانّهنَّ لا تستطعن شراء الفرشاة البلاستيك أصلاً، وأن لا بلاستيك في الكوخ ليعاد تدويره.
وفي أوائل الربيع، وبعد عودتهنَّ من مشوار التسليق في الجبل، قدّمت لهنّ بياض “باوربوينت بريزنتايشن” عن أهمية الأعشاب البرية وتأثيرها على الفونا والفلورا المعوية.
وفي يوم، وبينما كانت بياض تقرأ في الحديقة، لمحت بياض، الجار الشاب مارّاً، فوقفت سلّمت عليه وراحت تتحدّث معه. وبعد مرور أربعين دقيقة، خرجت زوجته من البيت، ووقفت تسأله عن سبب تأخره للذهاب إلى القرية، لشراء الحاجيات لكيّ يستطيعا تنظيف البيت وتحضير الطعام. فاعتذر منها وقال بأنّه ذاهب على الفور. لكنّ بياض أصرّت أن يبقى واقفاً معها وهي تقول: “لماذا زوجتك لا تسمح لك بالراحة ولو لدقيقتين؟”
ذهب الزوج بعد أن أخذ أكثر من أربعين دقيقة أخرى لينهي حديثه معها، وهو أمر طبيعي، خاصة وأنَّ دماغ الرجال، بطبيعتها وتركيبتها الفيزيو-كيميائية، لها خاصية حب التنبلة وتضييع الوقت وقضاؤه في ما لا معنى له ولا حاجة به. وهذه معلومة علمية قيّمة تقدّمها لكنّ كاتبة هذه السطور، الخبيرة بكيمياء مخ الرجال، على الرغم من علامة ال209 التي أحرزتها بصعوبة في صف “السُغوند”. لكن لمَ لا، وقد ثابرت الكاتبة على قراءة تحليلات الرجال عنّا وعن أجسامنا لسني عمرها كاملة.
بالعودة إلى بياض، وفيما كانت تمضي أيامها ببطء في الخفاء، فقد راحت تبني علاقات صداقة مع أهل القرية المجاورة وأعلمتهم جميعاً بأنّها الأميرة لكي يتعاملوا معها بما يتماشى مع موقعها الطبقي، ممّا فضح سرّها وأوصله إلى زوجة أبيها التي أرسلت عدداً من العساكر لخطفها. لكنّ بياض كانت قد عرفت بالموضوع، وطلبت من فتاة تشبهها أن تذهب بدلاً منها، بعد أن أخبرتها بأنّها على كل الأحوال، لاجئة صغيرة فلّاحة غير متعلّمة، وبأن أقسى ما يمكن أن تفعله في حياتها هو أن تتزوّج يوماً من فلاّح لاجئ آخر وتُنجِب منه دزينتيّ أطفال يموت نصفهما… يعني لن تُفيد البشرية بشيء، فهي بكل تأكيد لن تخترع شيئاً ولن تكتشف دواءً للسرطان أو حلاً لتساقط الشعر. لذا من الأفضل أن تأخذ بعضاً من المال لعائلتها البائسة، وتمضي حياتها في السجن بعد تسليم نفسها للملكة. وهو ما حصل فعلاً، فسجنت الملكة الفتاة ظنّاً منها بأنَّ بياض ستأتي لانقاذها، فتستطيع القبض عليها، لكنها لم تكن تعرف بياض جيداً.
في هذا الوقت، ومن أجل تمضية وقتها في الغابة المملّة، بدأت بياض بتقديم صفوف “التاي تشي” لنساء القرية، بالإضافة إلى اللغة الألمانية. وقد جرّبت أن تُقنع أهل القرية بأنها لغة أساسية وضرورية لمتابعة ما يجري حول العالم، واللحاق بقطار العولمة السريع وإطلاق القرية نحو الساحة العالمية التكنولوجية. لم تستجب الكثيرات لنداءاتها، وطلبن منها أن تترجم لهنّ بعضاً ممّا كُتب على أكياس الكيماويات التي اشترينها لمزروعاتهن، لكنّها اعتذرت، قائلة بأن لغاتها الأجنبية مائلة إلى التخصص الفلسفي أكثر منه التقني، فلم تستطع أن تفيدهنّ بشيء.
ثابرت بياض في تثقيفها لفتيات القرية ونساء الكوخ، في قولها لهنّ بأن إيمانهنَّ بأنهنَّ يستطعنَ أن يفعلنَ شيئاً، قادرٌ على إنجاز الشيء، كما كانت دائماً ما تقول للنساء اللواتي يشعرن بالإحباط، “انظرن إليّ، أنا قدرت أن أهرب من زوجة أبي الشريرة وأبدأ من الصفر. وها أنا قوية ومستمرة. إذا استطعت القيام بذلك، فأنتن تستطعن ذلك أيضاً”، بالإضافة إلى نقاشات عديدة تدور في إطار “اللايف كوتشينغ” ومسؤولية الفرد في تقرير مصيرها.
واستمرّت بياض في نشاطها النسوي الاجتماعي التثقيفي التوعوي بين نساء الكوخ اللواتي كنَّ يسمعن منها كلمة ويطنّشن عشرة، إلى أن جاء يوم، أتى فيه مبعوث ملكي إلى الكوخ، سائلاً إن كانت النساء رأين بياض.
ركضت بياض إليه تسأل ماذا جرى، فأخبرها بأن الملك مات وبأنّه نفى زوجته وأورث بياض العرش. رمت بياض ما كان بيدها، وركبت حصانها مع المبعوث، ورحلت مرسلةً القُبلات لنساء الكوخ.
نظرت نساء الكوخ إلى السماء وشكرنها على هذه الراحة، وأكملن حياتهنّ التي لم تتغيّر بوجود بياض، باستثناء بعض المغص الموسمي.
هذه قصة بياض الثلج، أمّا النساء الـ 99 الباقيات، فلا نعرف أشكالهن ولا قصصهن ولا أسماءهن، وهذا، لعمري، أساس ما نرويه هنا.