عشرون عاما على رحيل إدوارد سعيد

خارج المكان: مناورة في أفق التاريخ والفلسفة

سليم أبو ظاهر

كاتب من فلسطين

ويبدو أن سعيد لم يؤمن يوماً بمقولة إن "الناس على دين ملوكهم"، ولم يكن أسيراً لقانون ابن خلدون (2014) وسنته الدائمة التي تعتبر أن "المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، فقدم مقاربة ثقافوية تفكيكية مستنيرة ورؤية نقدية رائدة تشاكس واقع الصراع الأزلي بين الشرق والغرب،

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
خمس ممثلات إيطاليات أيقونيّات (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

17/09/2023

تصوير: اسماء الغول

سليم أبو ظاهر

كاتب من فلسطين

سليم أبو ظاهر

وأكاديمي.

تشير رائدة تفكيك المنهجيات المعرفية الاستعمارية ليندا سميث (Smith, 1999) إلى أن الرواية الاستعمارية القائمة على تهميش التاريخ الأصلاني وإقصاء الآخر أتت في سياق البحث بعيون إمبريالية وأصبحت مقبولة عالمياً كواقع وحقائق، مؤكدة على ضرورة التدقيق في الآليات الغربية لإنتاج المعرفة لما لذلك من أهمية في إنهاء الاستعمار والتحول الاجتماعي. ورغم اختلاف وجهات النظر المتعلقة بنزع الطابع الاستعماري عن المعرفة وتباينها، إلا أنه يمكن القول إن مقاربات منظري حقل دراسات ما بعد الاستعمار، والتي يشكل سعيد وهومي بابا وسبيفاك ثالوثها المقدس كما وصفهم يانج (2003)، أتت كرد فعل على تحيزات الخطاب الاستعماري الذي رسخ في الأذهان أن الغرب هو مصدر المعرفة ومنبعها، واختزل الشعوب والثقافات غير الغربية باعتبارها أنماطاً مضادة للتحديث ومعيقة للتطور، وقدم لها وصفاً يوافق مقولات الثقافة الغربية المتمركزة على ذاتها.

ويرتكز رواد مدرسة التابع ونظرية ما بعد الاستعمار إلى مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية والأكاديمية  ويطرحون مجموعة من الإشكاليات الجوهرية كتلك التي تتعرض للغيرية أو الآخرية وعلاقة الأنا بالآخر ومناقشة ثنائية الشرق والغرب والهجنة. كما ينادون بالتعددية الثقافية ويرفضون هيمنة الثقافة الواحدة ويعملون على تحليل وتفكيك المركزية والأيديولوجيا الاصطفائية للخطاب الاستعماري الفوقي، ويدافعون عن الهوية القومية ويدعون إلى إيجاد ثقافات وطنية أصيلة متداخلة ومتلاقحة، وذلك في محاولة لتقديم فهم حقيقي للتجليات المترتبة على التجربة الاستعمارية، أو ما يمكن وصفه بعلاقة الهامش بالمركز، والآثار التي تركتها على مجتمعات ما بعد الاستعمار. وقد ميز إدوارد سعيد في كتابه التأسيسي “الاستشراق” (سعيد، 1995) بين نمطين من المعرفة المتمحورة حول الآخر، حيث يجسد النمط الأول تلك المعرفة الناتجة من الفهم، في حين يعبر الثاني عن المعرفة التي تأتي في سياق حملة شاملة لتأكيد الذات والعداء المتبادل. كما قام بتحليل الخطاب الاستشراقي ودراسة علاقة الشرق بالغرب، مبيناً أن الاستشراق الغربي يمثل حالة من التأكيد على التفوق الأوروبي واتسام الحضارة الغربية بالصفات الرشيدة في حين يعرف الشرق بالصفات الذميمة كالشهوانية والبدائية والاستبدادية. ونادى، على ضوء ذلك، بضرورة تحدي السننية والسلطة، ورفض القناعة القائلة بأن كون المرء ليس غربياً تعني أن يكون بحكم وجوده سيء الحظ والطالع.

لقد شكلت مقاربات مدرسة التابع وحقل دراسات ما بعد الاستعمار نوعاً من السعي المحموم لرصد العلاقة القائمة بين السلطة والثقافة ولإبراز المحتوى التاريخي والثقافي للهيمنة الاستعمارية الغربية، ونقد النزعة الكونية للفكر التنويري الراديكالي الذي يصر على وجوب سيادة مفاهيم محددة في كل المجتمعات الانسانية بصرف النظر عن اختلافاتها الثقافية والجغرافية. ذلك من خلال قراءة وتحليل فكر عصر النهضة الأوربية والمرتكزات المعرفية والثقافية للمشروع التنويري وتفكيك ما أفرزه هذا المشروع من رؤى وتصورات ثقافية حول الشعوب والأعراق الأخرى، والكشف عن الأنظمة اللغوية والخطابية وتتبع الوسائل الثقافية التي انتهجها الاستعمار لتعزيز سيطرته، وما انبثق عن ذلك من تمايزات ثقافية ما تزال حاضرة لدى المجتمعات التي نالت استقلالها. وفي معرض معالجته للأبعاد الثقافية، انتقد سعيد (1995) العالم الثالث بتناوله لكل نتاج غربي دون أدنى تمحيص في حقيقته، ودراسة الإنجليزية كلغة مجردة وخالية من التاريخ والأدب، مؤكداً أن الثقافة الغربية تكتسب القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها في موضع التضاد مع الشرق، حيث اعتبر أن الاستشراق يجسد شكلاً من أشكال الهيمنة والتسلط الغربي ومحاولة لإخضاع الشرق سياسياً وعسكرياً وثقافياً، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن نزع السرية والغيبية عن التركيبات الثقافية قد بات حقيقة جديدة وقائمة، فلم يعد هناك إمكانية للحديث عن التاريخ دون الحديث عن ما وراء كتاباته من تصوير ومجاز.

رحلة سعيد التي تعالج العلاقة المضطربة والمتوترة بين العالمين الغربي والعربي وترصد مساعي إثبات فرضية تفوق الغرب وقصور الشرق الذاتي والمقارن، والتي شهدنا ظهور إرهصاتها بصدور “الاستشراق” عام 1978، استمرت في ما يمكن القول إنه امتداد طبيعي تكلل بصدور قطعته الفريدة “الثقافة والإمبريالية”، الكتاب الذي أشار إليه سعيد نفسه باعتباره بمنزلة الجزء الثاني من “الاستشراق”، حيث يوضح في هذا الجزء كيف أن أركان الإمبريالية اهتزت وتم العمل على تقويضها بنفس الأداة التي دعمت استقرارها؛ الثقافة. ويشير سعيد (1997) إلى أن العديد من الأمم في الدول التي كانت واقعة تحت الاستعمار ما تزال خاضعة لقدر من السيطرة والتبعية يعادل ما خضعت له حين كانت القوى الأوروبية تحكمها حكما مباشر، ورغم أن الاستعمار المباشر يكاد يكون انتهى في زمننا الحالي، إلا أن الإمبريالية مستمرة في مناخ ثقافي عام. كما ينتقد سعيد قيام عدد من المفكرين بمعالجة الإمبريالية من منظور المسائل السياسية والاقتصادية دون إيلاء قدر كافٍ من الاهتمام بالثقافة، محاولاً تفحص الكيفية التي تجاوزت بها العملية الإمبريالية مستوى القوانين الاقتصادية والقرارات السياسية البحتة لتتجلى على مستوى الثقافة القومية، حيث يوضح مفكر حقل ما بعد الاستعمار أن دراسة العلاقة بين الغرب وآخريه المُخضَعين ثقافياً يمكنها أن تقدم لنا فهما لتفاعلات العلاقة غير المتكافئة بين الطرفين، مؤكداً على أنه لا يمكن استيعاب التجربة التاريخية من خلال القوائم والجداول والفهارس أو من خلال الاقتصاد والسياسة فقط، بل أيضا من خلال الثقافة.

وفي حين يرى يانج (2003) أن المركزية الأوروبية لا تعدو كونها مجرد أسطورة، وأن تحليل الخطاب الاستعماري يشكل نقطة هامة لمساءلة فروع المعرفة الغربية وادعاءاتها، فإن مقاربات مفكري مدرسة ما بعد الاستعمار تهدف إلى تعزيز دور الهويات الثقافية الأصلانية بوصفها السلاح الأهم في مواجهة زحف القيم والمعتقدات التي يعمد المستعمِر إلى تكريسها في الوسط المستعمَر. وتنجلى مظاهر الكتابة ما بعد الاستعمارية، كما يراها إيغلنتون (2000)، بوصفها وسيلة للكشف عن القهر الذي يقوم عليه فعل الاستعمار ورفض هيمنة الطرف المسيطر، والعمل على إبراز مقومات التراث الثقافي ما قبل الاستعماري لتحديد مسار المواجهة مع المستعمِر الذي يتخذ من سلاح الحضارة حجة ووسيلة لتبرير مسعاه المزعوم لحضرنة المجتمعات وتحديثها انسجاماً مع رؤاه ومعتقداته. كما تقوم قراءة ما بعد الاستعمار وفقاً لرؤية ميتشل (2006) على المواجهة التي ما انفكت تحضر بين البنى التقليدية التي تقوم عليها الثقافة الأصلانية والحداثة التي جاء بها المستعمِر، وتبرز حالة المواجهة في أقصاها ضمن إطار السعي إلى الخلاص من مخلفات الاستعمار وتوكيد الخصوصية واستدراك وتنقيح ما هو قائم، على صعيد الأنماط والعلاقات والرؤى والمفاهيم، بحكم ما خلفته عواقب الحضور الاستعماري والسيطرة المباشرة من قبل المستعمِر. 

لقد شكل الاستشراق القناة الرئيسية التي تم من خلالها ترويج وتعزيز التصورات الغربية المحيطة بالشرق، كما ساهم في تكريس وترسيخ هيمنة الثقافة الغربية وإكسابها مزيداً من السطوة والهيمنة، فقد استجاب الاستشراق كموضوع بحثي لرؤية الثقافة التي أنتجته أكثر من استجابته لزعم دراسة الشرق. وقد ذهب إيغلنتون (2000) إلى اعتبار أنه لا يمكن حصر الثقافة الاستعمارية ضمن نطاق القوى المستعمِرة فقط، ذلك أن كثيراً من الأتباع والمنتفعين من أبناء المجتمعات الخاضعة يميلون إلى ربط مصائرهم ومصالحهم بهذه الثقافة ويدافعون عنها. بل إن البعض قد وجه أصابع النقد إلى محاولة عدد من المفكرين وسعيهم لدحض هيمنة المركزية الأوروبية واتهامهم أنهم أعادوا إنتاج المقولات نفسها وظلوا عالقين وملتصقين بالسرديات الغربية ومعالجات وأدوات مرحلة ما بعد الحداثة المنبثقة من رحم الفكر الغربي، معتبرين أن هذه المساعي لا تعدو كونها “إنتلجنسيا” الكمبرادور ووسيطاً لتجارة السلع الثقافية للرأسمالية العالمية في الدول الطرفية ولا تتيح فهم عالمنا وتغيراته (لومبا، 2007). وينتقد الفيلسوف الهندي ساركار (Sarkar, 2000) دراسات التابع في مراحلها المختلفة، مشيراً إلى أنها تقع ضمن إطار الهيمنة الغربية وليست بعيدة عنه، كما أنها تعيد إنتاج وتكرار نفسها، وليس لديها جديد. وقد ذهب ميتشيل (2006) إلى أن المؤرخين القوميين ورغم انتقادهم للمعالجات الاستشراقية للتاريخ الهندي، لكنهم لم يتمكنوا من التحرر من نموذج التاريخ الغربي. 

ومن اللافت أن أستاذ الأدب المقارن الذي ولد ونشأ وترعرع في مستعمرتين بريطانيتين –فلسطين ومصر- قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي حصل على جنسيتها في وقت لاحق حتى صار يصنف باعتباره مفكراً فلسطينياً-أمريكياً، كان متيقظاً دوماً إلى حقيقة أن الاستشراق يجسد مبالغة في الاختلاف والانتماء إلى فرضية تفوق الغرب ومصدراً للتصوير الثقافي غير الدقيق للشرق المتخيل، إضافة إلى سيطرته واستحواذه على الحقل المعرفي المتعلق بالشرق حتى صار له أو لكتابه سلطة ومرجعية ملزمة تفرض سطوتها على كل من يفكر في الكتابة عن الشرق دون مساءلة. ويمكن إرجاع ذلك إلى أن كتاب التاريخ الكلاسيكيين كانوا عموماً ناقلين للأحداث وتحولاتها ضمن الأطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يغلب عليها أن تنقل تاريخ القوي والمنتصر دون اعتناء بالمشهد الثقافي أو تحليل للفعل اليومي ولممارسات وحيوات الناس الأصلانيين وذاكرتهم الجمعية والفردية التي يكرسها الفعل الحاضر في أدوات الثقافة المختلفة كالأدب والفن والإعلام والتراث. الأمر الذي قد يحيل إلى تعريف ابن خلدون المركزي للتاريخ بوصفه “من الفنون .. وهو في ظاهره لا يزيد عن أخبار .. من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل .. وعلم بكيفيات الوقائع” (ابن خلدون، 2014)، فهو ليس سرداً مبهماً ولا تسجيلاً مجرداً للأحداث والوقائع.

ويبدو أن سعيد لم يؤمن يوماً بمقولة إن “الناس على دين ملوكهم”، ولم يكن أسيراً لقانون ابن خلدون (2014) وسنته الدائمة التي تعتبر أن “المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، فقدم مقاربة ثقافوية تفكيكية مستنيرة ورؤية نقدية رائدة تشاكس واقع الصراع الأزلي بين الشرق والغرب، مفسراً من جهة كيف أن الأمم الغالبة استندت إلى ادعاء يروج لحقها في احتلال الأمم المغلوبة وقهرها وإذلالها واستعملت ثقافة المركز الغربي الإمبريالية لتبرير طغيانها ولتمرير مخططاتها، ومؤكداً من جهة أخرى أن أداة الثقافة نفسها هي التي زرعت الوعي وأيقظت الحس الرافض للاستعمار ودعوات المطالبة بالاستقلال لدى الأمم المغلوبة. لقد عاش سعيد الاستشراق وعايشه وشهد سيطرة ثقافة المتروبول على حياة الشرقيين، بل ربما كان هو نفسه جزءاً من النموذج الشرقي الذي يتم فحصه واختباره في المختبر الثقافي الغربي، لكنه كان خلال ذلك كله واعياً ومدركاً لحالة المنفى ووجوده خارج مكانه الطبيعي أو الاعتيادي فانطلق في رحلة زمكانية رأسية نحو الوطن والذاكرة، أو إن شئت قل من المركز إلى الهامش، رحلة رمزية “خارج المكان” لاستعادة الأجزاء الضائعة واكتشاف الذات والبحث عن مكنونات ومضامين طفولته بين أزقة وشوارع القدس، حيث أبصر النور أول مرة، ليقدم لنا سجلاً لعالم مفقود أو منسي، على حد تعبيره (سعيد، 2000)، وليثبت حضور الصدق في مقولته إن “الأرض كلها فندق وبيتي القدس.” 

إحالات

ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (2014). مقدمة ابن خلدون. القاهرة: دار نهضة مصر. 
إيغلنتون، تيري (2000). أوهام ما بعد الحداثة. ترجمة ثائر ديب. دمشق: دار الحوار.
سعيد، إدوارد (1995). الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربي. الطبعة الرابعة.
سعيد، إدوارد (1997). الثقافة والإمبريالية. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: دار الآداب. الطبعة الأولى.
سعيد، إدوارد (2000). خارج المكان: مذكرات. ترجمة فواز طرابلسي. بيروت: دار الآداب. الطبعة الأولى.
لومبا، آنيا (2007). في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية. ترجمة محمد عبد الغني غنوم. اللاذقية: دار الحور للنشر.
ميتشيل، تيموثي (2006). دراستان حول التراث والحداثة. ترجمة: بشير السباعي. القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات.
يانج، روبرت (2003). أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب. ترجمة أحمد محمود. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
Sarkar, S. (2000). The Decline of the Subaltern in Subaltern Studies. In V. Chaturvedi, Mapping Subaltern Studies and the Postcolonial (pp. 300-323). London: Verso.
Smith, L. T. (1999). Decolonizing Methodology: Research and Indigenous Peoples. London: Zed Books.
الكاتب: سليم أبو ظاهر

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

Vector
Vector

اختيارات المحرر

Vector
Vector

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع