سيستغرب البعض عنوان هذا النص. ربما لأن سعيد في الكثير من الأحيان يُعدّ حالة فكريةً مثيرة للانبهار أكثر منها مثيرة للجدل، لحدٍ لا نستطيع فيه رؤية الرمادي في سرد مسيرته المعرفية أو الحياتية. هذه الورقة ليست للتبجيل، أو حتى الهدم، وإنما هي إعادة تساؤل حول موقعية سعيد المتناقضة من خلال قراءتي له، وموقعيتي باعتباري طالبةً وباحثةً “فلسطينية”. إن هذا التساؤل يأتي من فكرة استخدام مقولات سعيد نفسه عمّا حاول قوله عن “المثقف” بكونه مثقفًا، التي لن يستطيع ردّها الآن، بل العكس، كان ليوّد أن تُستعاد باعتبارها مفتوحة وعامة، حتى في إحالتها إليه.
لا يمكن تجاوز أهمية المباني المعرفية التي قدّمها سعيد لنا في مجال العلوم الاجتماعية التي يُشار إليها بتعميم عبر كتابه “الاستشراق”. إلا أن هذه المباني المعرفية لها سياقات متعددة تعكس موقعية سعيد في كتابته عن وإلى فلسطين، وما آلت إليه عملية التمثيل التي نحاول تفكيكها أداةً ضاغطةً على الباحثين، أكثر من كونها نوافذ مساعدة لفهم الحياة فلسطينيًا. من هنا، سيشمل هذا النص مختارات وخطوطًا واسعة من بعض أفكار سعيد، وبعض المراحل التي ألقي الضوء عليها من حياته، أو محاضراته المختلفة.
إنسان علماني، وإنسانية علمانية
عندما يُسأل سعيد في مقابلاته عن كتابه “الاستشراق” يركز في معظمها على أن فلسطين هي ما ولدت الموضوع، كما ذُكر في الكتاب تحت عنوان “البعد الشخصي والظروف التاريخية للاستشراق”. في واحدة من المقابلات معه، يقول إن بداية اهتمامه بموضوع الاستشراق كان مع حرب أكتوبر 1973، “عندما شهدت في حياتي أول انتصار عسكري عربي”(1)، ثم يسترجع هزيمة عام 1967، ويبدأ بسرد تفاصيلها التي جعلته “موضوعًا للاستشراق” في الغرب الذي يسكنه. لنفكر قليلًا هنا في موقعية سعيد التي ارتبطت بكونه عربيًا بالدرجة الأولى، يليها كونه فلسطينيًا، ولكن من دون انفصال، وفي مرتبة أخرى، كان إدوارد سعيد أميركيًا. اختلفت هذه المراتب الثلاث بشكل غامض – أيها تأتي قبل الأخرى – في كيفية تعبير سعيد عن موقعيته في خطاباته ومحاضراته ونصوصه المختلفة. وقد يكون ضعف الهزيمة، كذلك قوة الانتصار، واحد من عناصر تغيير وإحداث هذا الترتيب. إن فكرة اختلاف الترتيب بين كونه عربيًا وفلسطينيًا وأميركيًا، في حياة سعيد، كانت الأداة الأمثل لكسر حدودٍ مادية استعمارية، وكذلك ثقافية سردية. ولكن، بشكل عام، كان هناك دومًا خط أساسي لا يتنازل عنه سعيد، بغض النظر عن طريقة تعريفه، وهو أنه “إنساني، علماني”؛ فقد دأب سعيد يبحث عن “إنسانيته”، وعن الإنسانية، فيقول: “حياة الفلسطيني العربي في الغرب، خصوصًا في أميركا، مثبّطة للعزم، إذ يشيع هنا اتفاق في الرأي، ويكاد يكون إجماعيًا، على أنه غير موجود سياسيًا، فإذا سمح البعض له بالوجود، اعتبروه إما مصدر إزعاج، أو شخصًا شرقيًا وحسب، فشبكة العنصرية والقوالب النمطية الثقافية والإمبريالية والسياسية والأيدولوجيا السالبة لإنسانية الإنسان، هي الشبكة التي يشعر الآن كل فلسطيني أنها أصبحت مصيره الذي يمثل عقابًا فريدًا”(2).
نتيجة لما سبق، نبدأ بالتخبّط حول ما إذا كانت تلك المباني المعرفية والمختلفة لسعيد تصبّ في تعريفات “الإنسانية، والعلمانية، والكونية”. يظهر هذا بشكل واسع في كتبه المختلفة، مثل: “الثقافة والإمبريالية”، و”العالم والنص والناقد”، و”تغطية الإسلام”، التي ينتقد فيها القوميات، والخطاب القومي، والدولة القومية “ما بعد الاستعمار”، و”الأصوليات”، والـ “نحن”، والـ “هُم”، ورفض نظرية صدام الحضارات، وذلك عبر تقديمه منهجية “القراءة الطباقية”، وكيف أن مفهوم العلمانية الذي بُني من خلال قناعٍ لخطابٍ ديني غربي، باسم الموضوعية، في الاستشراق، بإمكانه أن يكون ممارسة مختلفة في الكونية اللا- إمبريالية، وذلك عبر الروح المرتحلة، وعالم اللا- حدود، والهجانة والتحرر من الهوية، والتخلص من أزمة “حلاوة” الوطن.
تبعًا لذلك، وعلى أهمية هذه الأدوات نظريًا ومنهجيًا في كل مباني سعيد الفكرية، إلا أنها تظهر بشكل مختلف عندما يتحدث عن “المنفى”، إذ أشار دومًا لخناق المعيارية التي مقتها، بالذات عندما يتناول منعه من دخول الحدود – أي حدود فلسطين -، بينما غيره من الأجانب يمكنه ذلك. ونتيجة لهذا المنع، بقي عالقًا في المنفى وفي الخسارة المستمرة. هذه المعيارية كما يراها، لا تتجلى في ما يخص فلسطين والاستعمار الصهيوني فحسب، بل أيضًا عندما يتناول الحروب الإمبريالية المختلفة، وبالتحديد الأميركية، مثل الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، الذي كان أحد المواضيع التي تناولها سعيد في آخر مرحلة من حياته. ولتزيد الحيرة، في إحدى محاضراته توقف فيها كثيرًا عند “إنسانيته”، وعند كونه “أميركيًا”، مضيفًا مازحًا: “بل على العكس”(3).
الغريب -والمثير في الآن نفسه- في تناول سعيد للإنسانية هو ما يبرز لديه من خوفٍ أو تردد في ما يخصّ موضوع “الإرهاب”، إذ أشار بتخوّفٍ إلى اتهام الفلسطينيين به، ولاحقًا رفض العمليات الاستشهادية الفلسطينية(4) التي رأى أن على الفلسطينيين إيقافها، لاحتمالية أن يذهب ضحيتها “مدني إسرائيلي”! إن سعيد الذي أيّد ياسر عرفات في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وهي الفترة التي شهدت المقاومة المسلحة الفعلية لياسر عرفات، وبالرغم من أنه أسقط عن كتفه دعمه لعرفات، كما فعل الثاني في دعمه للأول، فإن تناقضه في رؤيته للمقاومة الفلسطينية يدخلنا متاهة أكبر – لا أعلم إن كانت ذنبه أم ذنبنا. بشكل عام، أرّقه سؤال فرانز فانون حول التحرر، وعدم التعلّق بمصير “آخر شرطي أبيض”، وإلغاء كل الثنائيات والانغلاقات الهوياتية، ولكنه قفز عن سؤال القهر؛ أي القهر الذي ترسب فينا زمنيًا/ تاريخيًا، والقهر المادي/ الطبقي، والقهر الجسدي/ الروحي، الذي عبرنا وخلق امتداداتنا، ليس باعتبارنا فلسطينيين فحسب، بل لكل المعذبين في الأرض.
كونية أم حميمية؟ القليل من سعيد بين أدورنو ودرويش
في هذا الجزء، أحاول أن أغرق قليلًا في تصوّرات سعيد عن المثقف، وأن أربطها لتكون خاتمة للجزء السابق. لا ينكر سعيد في كتابه “صور المثقف” الحِمل الحركي والتاريخي الذي يحمله المثقفون، ولكنه يقف كثيرًا عند المنفيين. هذا التوقّف المطوّل عند المنفيّ مثير للاهتمام، بما أنها حالة بينية عند سعيد، ويربطها مباشرةً بالمثقف العمومي في المنفى، وهو ما يعطيه مجددًا معنى الهجانة، إذ يقول: “إن المنفي يعيش في حالة وسطية، لا ينسجم تمامًا مع المحيط الجديد، ولا يتخلص كليًا من عبء البيئة الماضية، تضايقه أنصاف التدخلات وأنصاف الانفصالات؛ وهو نوستلجي عاطفي من ناحية، ومقلد حاذق، أو منبوذ لا يعلم به أحد، من ناحية أخرى. وتصبح مهارة البقاء الإلزامي الرئيسي، ومعها يشكل خطر التنعم كثيرًا بالرخاء والطمأنينة تهديدًا يتوجّب الاحتراس منه على الدوام… ويتعلق الجانب الأكبر من اهتمامي هنا بالمنفيين اللامستوعبين في معظمهم، مثل الفلسطينيين أو المهاجرين المسلمين الجدد في القارة الأوروبية، أو السود من جزر الهند الغربية وأفريقيا، المقيمين في إنجلترا، الذين يعقّد وجودهم التجانس التكويني المفترض للمجتمعات الجديدة حيث يعيشون. وبناءً على ذلك، فالمثقف الذي يعتبر نفسه جزءًا من وضع أكثر عمومية/ مؤثر على الجماعة القومية المشردة، سوف يكون على الأرجح مصدرًا لا للتثاقف والتوافق، بل للتقلب واللا- استقرار”(5). إذن، نقول إن المثقف العمومي عند سعيد ارتبط بهجانة تقدمها البينية(6)، إذ يصبح المنفى مولّدًا لتقاربات خارجة عن الحدود والتصنيفات عبر التشرّد بينها كلها، ليصبح “ثبات التمثيلات” لا- ممكنًا، وبالتالي حركة مستمرة للأفكار، وللتجميع بين الأرواح اللامنتمية، ويحمل قضيةً أخلاقية عمّا يتخيّله عن مستقبل العالم الإنساني، ناقدًا فيه أن يلجأ المثقف للسلطة، أو تلجأ هي له في حالة من التواطؤ وتبرير القمع على الشعوب.
من ذلك، لا يخفى تعلّق سعيد بأدورنو، سواء كان أدورنو المثقف، أم أدورنو المنفي، من دون انفصال أيضًا. هو يراه حالة تستوجب الاستعادة في الفكر والمسكن والسياسة(7). يخصص سعيد في إحدى محاضراته في كتاب “صور المثقف” شرحًا طويلًا عن أدورنو، ومن دون الدخول في تأويلاتي لأبعد من ذلك، مع وصف سعيد نفسه بالمثقف اليهودي الأخير! ولن أقف هنا، بل سأقتبس من سعيد عن أدورنو بصفته مثقفًا: “طالما أن أمل المثقف، كما يقول أدورنو في مرحلة متأخرة من حياته العملية، ليس في أن يصبح ذا تأثير على العالم، بل في أن يقرأ إنسان ما، يومًا ما، في مكانٍ ما، ما كتبه، تمامًا كما كتبه”(8)، ويضيف قولًا آخر لأدورنو المنفي: “تصبح الكتابة، لمن لم يعد له وطن، مكانًا للعيش”(9). تتعدد حالات المنفى، سواء عند سعيد أو أدورنو، وتقدم تناقضاتها دومًا في عالم اليوم، إلّا أنها مريبة أيضًا في مدى اللاموقفية التي قد تقدمها حالة تجانس ما، من أجل البقاء.
محمود درويش وسعيد
وقال: إذا متّ قبلَكَ، أوصيكَ بالمستحيل!
سألتُ: هل المستحيل بعيد!
فقال: على بُعْد جيلْ، سألت: وإن متُّ قبلك!
قال: أُعزِّي جبال الجليلْ
صديق يرثي صديقه من دون نصٍ هذه المرة، جعلتني أفكر بحلم سعيد بالعلمانية والإنسانية الكونية، فهل نبحث عن كونية تعني أننا في كل مكان من دون سلطة لأي مكان، وأننا كل الهويات، ولكننا لسنا أيًا منها؟ أم إننا نبحث عن الحميمية في الصداقة واللغة، بامتداد الأجساد والمعرفة والوطن عبرها، بأن يتذكرنا شخص ما، أو يرثينا صديق لنا، كما رثى درويش سعيد، ومع حشرجة دويش ودموعٍ محبوسة، تسيل دموع كل من يسمع حزنًا باستحضار صداقتهما. لا أعلم ما هي أحلام سعيد عن هذا العالم، وللحقيقة لا أريد أن أتورّط بأحلام أي أحد. بالتأكيد كل هذه النصوص لن نفهمها كما كتبها سعيد، إلّا أننا نستطيع أن نشعر بحميمة قرب الوطن بين لغةٍ وقلب.
إحالات وهوامش:
-
واحدة من مقابلات إدوارد سعيد حول الاستشراق، https://www.youtube.com/watch?v=OaByFNTUDB8&t=182s
-
سعيد، ادوارد. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، تر محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2008، ص 76.
-
محاضرة لإدوارد سعيد بعنوان “”Imperial Continuity: Palestine, Iraq, and U.S. Policy.” University of Washington, The Walker-Ames Lecture Series — 8 May 2003.
https://www.youtube.com/watch?v=tgteoJ1LihU&t=4125s
-
نفهم موقف سعيد تمامًا من تخوفه من الأصوليات، ولكن حصر العمليات الاستشهادية الفلسطينية بهذا الموقف، هو جزء من الخطاب الغربي الذي يحيّد العنف الثوري للمجتمعات المستعمَرة، إذ تُشرعَن ممارسة عنف “إسرائيل” على الفلسطيني المقاوِم وتصويره بالشرِّ المطلق، ويُنتزع لفظ “الشهادة” من سياق التحرر الاستعماري، إلى اختزاله في سياق إسلامي يحرِّض على “الإرهاب”. وفي هذا الإطار، شكَّلت العمليات الاستشهادية التي ألصقها المستعمِر بحركة حماس بصيغة إسلامية في فترة الانتفاضة الثانية، أداةً في حجته ضمن ربط المقاومة المسلحة بالحرب على الإسلام داخل خطاب الإرهاب الغربي. للمزيد راجع/ راجعي: Talal Asad, “On suicide Booming” “The Arab Studies Journal,” vol. 15/16 (Spring 2008(, pp. 123-130. وكذلك، مي الجيوسي. “تشكل الذات وحالة الاستثناء: الجسد كموقع للمقاومة”، في ساري حنفي (محرر) “حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربي، 2010)، ص 83-104.
-
سعيد، ادوارد. صور المثقف: محاضرات ريث سنة 1993، تر غسان غصن، دار النهار، بيروت، 1996، ص 59-60.
-
اجتر مفهوم البينية من الأنثروبولوجي آرنولد فان جنب في دراسة لطقوس العبور، إلى الدراسات الثقافية “المابعد كولونيالية” من خلال هومي بابا، والتي تعطي البينية حالةً تستوجب دراستها في أن تكون مرغوبة للتخلص من أزمات الحداثة والاستعمار في العالم، بينما هي حالة عنيفة ولها سياق بنيوي مختلف.
-
نفس المرجع، ص 65-68.
-
نفس المرجع ص 65.
-
نفس المرجع، ص 67.