منذ ما يزيد عن مئة عام يخوض الشعب الفلسطيني معركة تحرر وطني ضد أكثر من احتلال، وهذه المعركة مثل أي معركة لشعب مقهور يعيش تحت سطوة الاحتلال لها مسببات نجاح ومسببات فشل. وجود الفلسطيني على أرضه وحفاظه على السردية التاريخيّة كانت من أهم العوامل التي ساعدت في إبقاء جذوة الصراع مشتعلة. لكن من جانب آخر هذا الوجود لم يرافقه نظريّة ثوريّة كاملة وحقيقيّة تشمل الكل الفلسطيني، مما جعل للعفوية مكان في حركة الثورة التي انطلقت، وهذه العفوية جعلت بعض الثقافات المجتمعية تتقاطع بشكل أو بآخر مع سياسات الاحتلال.
التحرر المجتمعي أم التحرر الوطني… أيهما قبل الآخر؟
منذ ثلاثينات القرن الماضي حاول المفكران الفلسطينيان خليل السكاكيني وروحي الخالدي ربط مفهوم محاربة الإستعمار بمحاربة تخلّف المجتمع وكانوا واضحين في طرح فكرة أنّ أي نجاح ضد الإستعمار يرتبط بالانفكاك من القيود الرجعية. وعلى الرغم من تقدميّة هذا الطرح إلا أنّه لم يلقى رواجاً داخل التنظيمات المؤثرة في الثورة الفلسطينية المعاصرة. ولم يكن هناك برنامج اجتماعي واضح حتى من الأحزاب التقدميّة واليساريّة. وهذا الأمر جعل الفلسطينيين في محل تساؤل: هل ينبغي لنا تأخير التحرر المجتمعي إلى ما بعد إنجاز التحرر الوطني؟ أم أن التحرر المجتمعي هو شرط نجاح النضال من أجل التحرر الوطني؟ هذا السؤال الإشكالي لم يتم الإجابة عنه بطريقة حقيقيّة مما أدى إلى تسويف ومماطلة وأحياناً كحجّة لقمع أي رأي يرى أن التحرر واحد لا يتجزأ.
تم استخدام المفاهيم المجتمعيّة المتخلفة للنيل من فكرة النضال لدى الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال كان الاحتلال يستخدم المفاهيم الذكورية ضد المرأة الفاعلة ضده. وبدأ بالنيل من المرأة عبر التشكيك بمصداقيتها وربط مفهوم “الشرف” بجسدها وتشويه المفاهيم التشاركيّة من خلال مقولات خطيرة من قبيل “يد على الأفخاد ويد على الزناد” أو جعل الفلسطيني يطرح سؤال: كيف لدلال المغربي أن تقضي حاجتها مع الرجال في القارب؟ والكثير الكثير من الأمثلة النابعة من سياسة التجهيل التي كانت “إسرائيل” معنية بها. وهنا يكون الصدام واضحاً وجلياً في كيفية أن التحرر المجتمعي لا يكون منفصلاً عن التحرر الوطني.
كيف نجعل التحرر الوطني فعلاً ثقافياً؟
يقول أميلكار كابرال: “التحرر الوطني فعل ثقافي” وما يقصده بالفعل الثقافي هنا يعني عملية التوعية والتثقيف للجماهير، ولا يقتصر على فكرة التثقيف بالحقوق والأهداف الوطنية فقط، بل يأتي كجواب عن طبيعة المستعمر وتوعية بمتطلبات التحرر وكيفية صناعة المفاهيم التحررية… إلخ. إن العمل على هذا المفهوم يحتاج مراجعة نقديّة لعموم المفاهيم الوطنيّة. وشجاعة لطرح الأسئلة المتعلقة بها وعندما يكون التحرر ثقافة وأداة عمل يومي بين الفلسطينيين سيساعدهم بشكل كبير في تشكيل سرديّة توحدهم وتتجاوز الخلافات بين الفلسطينيين بشكل عام. بحيث يقع هذا الأمر بين التكتيك والاستراتيجيا إذ لا يمكن فصل الفعل السياسي عن المفهوم الثقافي.
من المهم أن نعي لفكرة العمل المنظّم في صناعة هذا المفهوم فالأمر لا يكون بطريقة بدائيّة عشوائيّة وتحقق الأهداف الآنية فقط. بل هو عمليّة تحتاج لنفس طويل تبدأ تنشأتها بشكل هرمي يبدأ من القواعد ويصل إلى القيادة الجماهيرية. بحيث لا يكون هناك مجال لتأثّر الحركة الثورية بالعفوية التي تقتل أي هدف استراتيجي بعيد المدى.
دور المثّقف بين المفهوم والتطبيق
إن دور المثقف لا يقتصر على كونه في جانب مضاد لجانب السلطة السياسيّة فقط كما نفهم من إدوارد سعيد. بل يتعدى ذلك كون المثقف هو الأقدر على فهم الماضي واستشراف المستقبل وتذليل صعوبة فهمه للجماهير، هذا الأمر يجعل المثقف يمارس مفهوم “النقد” إذ لا يمكن أن نفك الارتباط بين النقد ودور المثقف. وفي كلتا الحالتين، المثقّف كذات، والنقد كأداة نمارس بها التصويب المفاهيمي يتكاملان في صناعة هويّة ثقافيّة حقيقيّة.
هذه الهويّة الثقافية التي يصنعها المثقّف هي في مسار تطور دائم، بحيث تلبي طموحات الجماهير جميعهم اختلافاتهم وتعدد مشاربهم الفكريّة وأن تكون واعية لشروط وجودها.
إن تطبيق هذا الأمر على أرض الواقع أمامه الكثير من العقبات. انفصال المثقف عن دوره المذكور والإتيان بمفاهيم لا تتناسب مع الخصوصية المجتمعية الفلسطينيّة يقف حاجزا بينه وبين الجماهير. وعليه يجب الانتباه لهذه النقطة جيداً وأن تأتي بعد حوار شامل ومراجعة نقديّة جادّة.
عوداً على بدء، إن الوعي لطبيعة الصراع وإرجاع المثقف لدوره الطبيعي يجعل منه “ضميراً” للجماهير، ومن المهم صناعة المثقّف القادر على طرح السؤال والإجابة عنه بنفس الوقت. ومن المهم أيضا أن تعي الجماهير لدورها في أن تكون منضبطة وواعية لما تستقبله من هذا المثقف بحيث يمكن تحقيق أفضل استفادة وأن يكون الجميع قادراً على السؤال: كيف يمكننا أن نجعل التحرر الوطني فعلاً ثقافياً بصورة أعم وأشمل؟