سيرة الطفولة والبلوغ للرأسمالية… للكاتبة الألبانية-البريطانية ليا يوبي

سؤال الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان ما قبل وبعد “نهاية التاريخ”

Photograph by Florian Thoss / Guardia​n / eyevine

نادية حجل

كاتبة من فلسطين

موقف الكاتبة واضح ومبدأي. هي تتخذ موقفا مناهضا لنهج العولمة الراسمالي والامبريالية الغربية وسياسات السلب والتراكم الاولي المستمر لرأس المال والذي يشترط توسُّعه الامتداد عالميا الى جغرافيات لا راسمالية – كما توضّح روزا لوكسمبرغ حول الشروط التاريخية للتراكم في كتابها

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/01/2024

تصوير: اسماء الغول

نادية حجل

كاتبة من فلسطين

نادية حجل

ومحاضرة غير متفرغة في كلية الاداب في جامعة بيرزيت. تحمل شهادتي ماجستير في نظرية النقد من جامعة Kent (بريطانيا) ودراسات النوع الاجتماعي والقانون والتنمية من جامعة بيرزيت. التحقت هذا العام بجامعة Warwick (بريطانيا) لدراسة الدكتوراه في برنامج النقد ودراسات الادب المقارن.

بعيدا عن شيطنة الحقبة الاشتراكية أو النظر إليها برومانسية الفردوس المفقود في ظل الرأسمالية العالمية والامبريالية الامريكية، وبعيدا عن أزمة اختزال اشكاليات حقبة “نهاية التاريخ” في قراءات وتفسيرات أيديولوجية ثقافوية على حساب قراءة تاريخية مادية موضوعية، تقرر يوبي استعادة تجربتها في المرحلة الانتقالية التي شهدتها البانيا على اثر انهيار نظامها الشيوعي الستاليني عام 1990. من خلال كتابة سرديتها(١) Free: Coming of Age at the End of History، ٢٠٢١، تفتح يوبي نافذة على تلك الحقبة وحيثياتها وتحولاتها في محاولة منها لمقاربة سؤال الحرية والديمقراطية – وبالضرورة  سؤال الكرامة الإنسانية – في كل من الحقبتين على امل اعادة التفكير في تجارب الماضي والاستفادة من دروسها في معالجة تحديات الحاضر والمستقبل. يسعى هذا النص الى تقديم السيرة ومضامينها للقارئ باللغة العربية من خلال قراءة تشارك الكاتبة منطلقات السرد ومساعيه.

في حقبة نهاية التاريخ وسجالاتها

 بُعيد الحرب العالمية الثانية، شن المعسكر الغربي الرأسمالي حربا باردة على مدار عقود للقضاء على الانظمة الاشتراكية و ايديولوجيتها بذريعة دفاعه عن الحريات الفردية والتعددية السياسية والانفتاح الاقتصادي والاجتماعي على الجغرافيات الأخرى، بُغية دمجها – زعماً – في نظام عالمي “يوتوبي” ديمقراطي حر، لا حدود فيه بين جغرافياتها، ولا صراع/حروب بين أنظمتها، ليحتفي عام 1989 بانهيار سور برلين والإعلان الرسمي لتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وتبعا لذلك انحسار النظام العالمي في نظام القطب الامبريالي الغربي، معلنا حتمية الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحاكمية، وضرورة هيمنة الرأسمالية كنمط للإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك العالمي خدمة لارتقاء الشعوب وتقدم البشرية. في كتابه ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير” (1992)، جادل فرانسيس فوكوياما في هذا الاتجاه اليميني المحافظ، معلنا ليس فقط نهاية حقبة تاريخية وإنما نهاية التاريخ برمته، ونهاية التناقضات الأيديولوجية الكبرى، ونهاية اي إمكانية مستقبلية لعملية تطور ايديولوجي او سياسي او اقتصادي خارج المنظومة الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية – ونمط إنتاجها – في خطوة إضافية تبني على مقولةٍ اقترنت برئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر “ليس ثمة اي بديل اخرThere is no alternative” تعود جذورها هي الأخرى الى مساهمة الاقتصادي السياسي ادم سميث في “ثروة الامم” (1776)، وتعكس انحيازها – اي تاتشر –  المطلق للعولمة الرأسمالية وانتهاج سياسة حرية الاسواق والتجارة العالمية ودعم شكل الحاكمية السياسي والنظام العالمي المرتبط بهما، بما في ذلك اعادة هندسة دور الدولة وسياساتها وقوانينها في خدمة السوق الرأسمالي العالمي، وكذلك الانقضاض على كافة البنى والاشكال التنظيمية التي يمكن ان تقف لها بالمرصاد كالنقابات العمالية والاتحادات التجارية، عوضا عن ضمان توفير خدمات الحماية الاجتماعية لشعبها بشرائحه المختلفة صونا لكرامته الانسانية.  

ساد الادعاء حينها ان اللحاق بحظيرة الانظمة الغربية والشروع بإعادة هيكلة اقتصاديات الدول الاشتراكية – او الشيوعية الستالينية كما كان الحال في البانيا آنذاك –  وانظمتها السياسية وفقا للتوجه أعلاه هو الشرط الذي يضمن حتما الحرية للشعوب وانتقالها من انظمة شمولية إلى أنظمة ديمقراطية، من سطوة صارمة لبيروقراطية الحزب الواحد وديكتاتورية البروليتاريا الى التعددية الحزبية والمشاركة السياسية والانتخابات الديمقراطية، من تخطيط الدولة المركزي للاقتصاد وتحديد الاحتياجات وكمية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الى حرية السوق والوفرة والتنافسية في الإنتاج والقدرة الشرائية للأفراد، من الخوف من اختلاف الرأي والسجن وسياسة التصفية والإعدام إلى حرية التعبير والاحتجاج والحق في الاختيار، من العزلة الجغرافية والاسوار الايديولوجية إلى الانفتاح والتواصل وفتح الحدود وحرية الحركة. باختصار، ساد الادعاء ان الطريق الوحيد لضمان ممارسة الحريات والقيم الديمقراطية ووفرة الإنتاج ورفاه الشعوب وتقدمها يكمن في حسم التناقضات لصالح عولمة الاقتصاد الرأسمالي وهيمنة منظومة الحكم الديمقراطي الليبرالي الغربي. وبالتالي، مع إعلان النقطة النهائية للتطور التاريخي للأنظمة والايديولوجيات، تنتهي الصراعات والحروب الكبرى التي تهدد الاستقرار العالمي والدمقرطة والاندماج. 

يمضي الادعاء بعد ذلك بالجزم ان الحروب العالمية لن تنتهي بالرغم من حسم التناقض بين قطبي النظام العالمي، لكن ستختلف اسبابها ومحدداتها. ففي كتابه ” صدام الحضارات واعادة تشكيل النظام العالمي” (1996)، يقدم صامويل هانتنغتون قراءة لاتاريخية تلتقي منابعها وطرق معرفتها – الى حد كبير – مع مساهمة المستشرق العنصري ارنست رينان حول تراتبية الاعراق وطبيعية تقسيم الادوار الكوني بين شعوب العالم. يدعي هانتنغتون في كتابه ان ثمة اختلافات جوهرية ذات طبيعة ثقافية متجذرة ستواجه عملية انتقال المجتمعات الاشتراكية الى معسكر الديمقراطية الغربية واقتصادياتها. سيشهد النظام الجديد – لا محالة – صداما بين الحضارات وحروبا بين الشعوب عند هدم الاسوار، وذلك بفعل الاختلاف الثقافي والهوياتي المتأصل بين الشرق والغرب، والذي بدوره سيعيق عولمة الديمقراطية الغربية وقيمها الليبرالية ليس فقط في مجتمعات الجنوب، لكن ايضا – مع تصاعد افواج المهاجرين –  في معقلها، دول الشمال. وللمفارقة، شهدت تلك المرحلة التاريخية هدم سور برلين باسم عولمة الحرية الليبرالية، ليشيّد المعسكر الليبرالي الغربي ذاته – ولغايات امبريالية راسمالية – مئات الحدود والاسوار الثقافية والعرقية والدينية والقبلية وحتى الجغرافية داخل امبراطوريته العالمية بحجة التصدي للحروب الثقافية والارهاب والاصولية. بات التناقض والصراع الاساسي على المستوى العالمي بين معسكرين: الاول، يدعو الى تشييد الاسوار الثقافية بين الاعراق والاديان والقوميات ونصب الحدود والمتاريس بين الجغرافيات، تحديدا بين دول الشمال والجنوب، كما سياسات الانظمة الامبريالية وخطابات المفكرين والقادة اليمينين المحافظين ذوي المعتقدات القومية الشوفينية والعنصرية. اما الثاني، فيدعو الى ثقافة التسامح الانساني والحوار وقبول الاخر المختلف والانفتاح الثقافي والحضاري، كما في كتابات المفكر الانسانوي العالمي بلغاري الاصل تزيفيتان تودوروف، على سبيل المثال. مع انتهاء الحرب الباردة(٢)، انحسر تأطير وفهم طبيعة الصراعات ومحدداتها في قراءات ثقافوية لاتاريخية لامادية، يرافقه تمييع/ تضليل/ تحييد لأي عوامل محدِدة ذات علاقة ب طبيعة النظام العالمي الامبريالي الجديد وما نجم عن سياساته في اعادة الهيكلة من ظروف اللامساواة الاجتماعية والطبقية او مآلاته على بنية المجتمع السياسية وطبيعة علاقات الانتاج الاجتماعية والاوضاع الحياتية والمعيشية للشعوب، وايضا القدرة التنظيمية على الرفض والاحتجاج الجماعي.
 

السيرة الذاتية ومرتكزاتها

 عايشت ليا يوبي – الطفلة والبالغة في البانيا آنذاك، واستاذة النظرية السياسية في جامعة London School of Economics اليوم – هذه المرحلة المفصلية وتخبطاتها وجدالات العائلة والاصدقاء والمدرسة والحي والشارع والحزب حول ما يحدث في حياتهم العامة والاسرية من تحولات، وعن ما هية الحرية والديمقراطية، وكيف تجسدتا على أرض الواقع – بعيدا عن الأفكار المجردة – في كل من النظامين الاشتراكي والليبرالي الرأسمالي اللذين اختبرهما الشعب الألباني. تختار يوبي من خلال كتابة سيرتها “Free” – وبدافع الواجب الأخلاقي والمعرفي والسياسي كما تشيرفي الخاتمة – ان تفتح نافذة لاعادة التفكير في تلك الحقبة، وذلك من خلال سردية موضوعية لتفاصيل الحياة اليومية لطفلة نشأت خلال السنوات الاخيرة من الحرب الباردة إبان نظام إنفر هوشه Enver Hoxha الستاليني، ومن ثم حكم الحزب الديمقراطي “الاصلاحي” خلال المرحلة الانتقالية – اي اختبرت كل من النظام الشيوعي وما بعد الشيوعي الذي بشّر فيه المعسكر الغربي الى حين ما بعد الحرب الاهلية عام 1997 حيث هاجرت الى اوروبا لاستكمال دراستها في قارب عبر البحر الادرياتيكي الذي ابتلع اعدادا لا تُحصى من جثث المهاجرين الالبان هربا من البؤس الاجتماعي والبطالة والافقار والاستغلال والتيه والاحباط الذي احدثه تغيير النظام والانفتاح على الاستثمارات الراسمالية وانتهاج سياسة “العلاج بالصدمة” الكارثية. في سيرتها، تكتب يوبي: ” لقد امضى الغرب عقودا ينتقد فيها الحدود المغلقة لجغرافيات الشرق، ودعم ماليا حملات تطالب بحرية الحركة، وتدين لا أخلاقية الدول [الاشتراكية] في حدّها لحق شعوبها في المغادرة والهجرة. كان يتم استقبال الالبان المهاجرين حينها كأبطال. اما اليوم، يتم التعامل معهم كمجرمين”. 

موقف الكاتبة واضح ومبدأي. هي تتخذ موقفا مناهضا لنهج العولمة الراسمالي والامبريالية الغربية وسياسات السلب والتراكم الاولي المستمر لرأس المال والذي يشترط توسُّعه الامتداد عالميا الى جغرافيات لا راسمالية – كما توضّح روزا لوكسمبرغ حول الشروط التاريخية للتراكم في كتابها ” تراكم راس المال: مساهمة في التفسير الاقتصادي للامبريالية (1913) – ومن ثم توظيف سياسات التراكم المندمج وغير المتكافئ Uneven and combined accumulation بين دول الشمال والجنوب ضمانا لهيمنته. رغم ذلك، هي تبتعد في سرد يومياتها عن النظرة المانوية – اي مقاربة النظامين ضمن ثنائية الخير والشر –  او مقاربة النظامين في اطار علاقة اضداد، فسرديتها تتجاوز الاصطفاف والانحياز الدوغمائي للقومية الالبانية والشيوعية رغم رفضها شيطنته من جانب القطب الامبريالي. هي تحرص على تبيان الواقع المركّب وسرد ما للنظام وما عليه من خلال مقاربات ذاتية، واخرى تاريخية اجتماعية، لواقع الحريات وقيم العدالة والديمقراطية في كل من النظامين. تجدها، مثلا، تسلط الضوء على القبضة الحديدية للشيوعية الستالينية وتجييش مشاعر القومية والولاء الايديولوجي الاعمى للحزب والنظام في مناهج التعليم واماكن العمل واندية القراءة والفعاليات الاجتماعية. في ذات الوقت، تتحدث بايجابية عن مستوى ونوعية الخدمات الاجتماعية التي وفرها النظام الشيوعي الالباني لكافة الشعب من تعليم وصحة ومأوى ودور رعاية للاطفال وعمل متساوٍ لكل من الجنسين وكوبونات الغذاء الشهرية ليضمن توفير احتياجات كافة افراد العائلة الاساسية – بعيدا عن نمط الاستهلاك الراسمالي – بمن فيهم اؤلائك الذين وسمهم الحزب ووسم تاريخهم الشخصي، كأفراد عائلتها، بالتواطؤ والنخبوية كونهم ابناءا لعائلات تعاون احد افرادها فيما مضى مع دولة معادية للشيوعية، او ابناءا لعائلات برجوازية كانت قد امتلكت الاراضي والعقارات فترة الانظمة السابقة للشيوعية في البانيا – اي ما قبل عام 1941، بما فيها فترة حكم الامبراطورية العثمانية والفاشية الايطالية والملكية، على التوالي.

سؤال الحرية والديمقراطية ما قبل “نهاية التاريخ”

في القسم الاول من سيرتها، تقارب يوبي ذاتيا معنى الحرية وكيف ادركتها كطفلة في كنف الشيوعية الستالينية. تستذكر يوبي حدثا مُزلزلا في ديسمبر 1990 في الطريق اثناء عودتها للمنزل في يوم ماطر بعد انتهاء دوامها المدرسي لتتفاجئ بمجموعة من المتظاهرين protesters – يدعوهم النظام ب مثيري الشغب hooligans – يهتفون “حرية، ديمقراطية. حرية، ديمقراطية”. تتفاداهم، وتركض وحدها مسرعة مرتعبة وسط نباح كلاب ضالة عبر الطرقات باتجاه حديقة قصر الثقافة في مدينتها Durres حيث ينتصب تمثال ستالين البرونزي الضخم لتلتحم باحدى ساقيه طلبا للحماية والشعور بالامان. كانوا قد تحدثوا مرارا مع معلمتهم نورا خلال حصة تربية الاخلاق كيف كان ستالين يحب الاطفال كثيرا. كيف كان يبتسم لهم دوما، ليس بشفتيه انما بعينيه – “فذلك الشارب الطويل الذي كان يكسو شفته العليا يمنعك من رؤية ابتسامة فمه”. تحدثوا ايضا كيف استمر أنفر هوشه بحب الاطفال كما احبهم ستالين، وكيف تمسكت البانيا بالنهج الستاليني في مواجهة ليس فقط الغرب الامبريالي، وانما ايضا المعسكر الشيوعي في يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي بعد موت ستالين، كيف خانت الجمهورية الصينية ثورتها الثقافية لتلتحق بركب الراسمالية، وكيف، بالمقابل، تمكنت البانيا لوحدها – رغم كونها دولة صغيرة دون عتاد او اموال – من مقاومة الامبراطوريات المتعاقبة غربا وشرقا لتبقى منارة للقيم الاشتراكية والنضال ضد الامبريالية يتطلع اليها احرار العالم. حدثتهم نورا عن ان المسار نحو مجتمع خال من الطبقية لا يتحقق دون تضحية وثمن، كالانعزال عن الدول المحيطة والتحام الشعب بالحزب وقيادته. حدثتهم عن شرف الانتماء الى البانيا وحزبها العادل الذي يحفظ كرامة ابنائه ويقيهم اهوال العالم الخارجي وما يعانيه اطفاله من مجاعات وزجٍ لاجسادهم تحت عجلة راس المال. مع ابتعاد نباح الكلاب، تهدأ الطفلة قليلا وتنظر للاعلى نحو ابتسامة ستالين، لتتفاجئ ان المتظاهرين قاموا بتحطيم رأسه. تستنكر ما رأت، تستجمع قواها، تحتضن ستالين مرة اخيرة، تأخذ نفسا عميقا وتعود راكضة للمنزل. تسرد الطفلة يوبي: ” لم اشغل ذهني بفكرة الحرية من قبل. لم يكن هناك حاجة لذلك. كان لدينا الكثير من الحرية. كنت حينها اشعر اني حرة جدا لدرجةٍ شكلت ممارسة الحرية بالنسبة لي عبئا، واحيانا تهديدا … [في ذلك اليوم، مثلا] لم يُملِ عليَّ احدٌ طريق العودة والاتجاه. كنت حرة في الاختيار، لكن قراري كان خاطئا. انتهى بي المطاف في المكان الخطأ والزمان الخطا وسط الحشود […] الاشتراكية اعطتنا الحرية، لماذا يهتفون؟”.

 لم تكن الطفلة يوبي تدرك حينها مدى قمع الحريات والترهيب الذي مارسه الحزب على المجتمع. لم تكن تعلم ان أفراد عائلتها، مثلا، اضطروا لابتداع لغة مشفرة فيما بينهم code language لتداول الشأن السياسي والتعبير عن ارائهم بحرية حتى داخل حائط منزلهم. كان لا بد من الحرص واليقظة، فسجل العائلة وتاريخها السياسي يضعها قيد الشك والمحاسبة – دون مساءلة – في اي لحظة. اما السبب، فيعود ل فترة الحكم الملكي حين شغل جد والدها منصب رئيس الوزراء الالباني. وصفه الحزب والمعلمة والاصدقاء بالخائن لتسليمه سيادة البانيا للفاشية الايطالية فترة الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الحين، تدفع العائلة ثمنا ل سجلها رغم التزامها بأوامر الحزب ومشاركتها في اجتماعاته. جدها امضى في السجون عقودا رغم مناهضته للفاشية. والدها المولع بالرياضيات، فرض عليه الحزب التخصص في مجال الزراعة للالتحاق بالطبقة الكادحة في احدى التعاونيات الريفية البعيدة لانتاج القمح والذرة. يوبي – الطفلة – كانت محط الاتهام بسبب تشابه اسم عائلتها مع اسم عائلة رئيس الوزراء. لم تمتلك العائلة حق الاعتراض او نقاش الامر مع الحزب. تذكر يوبي احدى الايام حين انفجرت والدتها واعترضت غير مكترثة بالعواقب رغم محاولات زوجها لاسكاتها. تساءلت الام حينها: ” هل كان [يوبي الجد] فاشيا؟ لا اعلم. ربما. هل دافع عن الحرية؟ ربما. كي تكون حرا، يجب ان تكون حيا. قد يكون حاول الحفاظ على حياتنا، وهل كان امام البانيا اي فرصة للنجاة في حال وقفت في وجه ايطاليا؟ ما الفائدة من اراقة الدماء، اذا كان الفاشيون قد استحوذوا اصلا على البلد وسيطروا مسبقا على اسواقها. الملك زوغ هو من منحهم حصصا في كافة شركات الدولة الاساسية. البضائع الايطالية كانت قد غزت اسواقنا قبل اسلحتهم. حتى شوارعنا شيدها الفاشيون. مباني حكومتنا كان قد صممها مهندسو موسوليني قبل ان يحتلها موظفوه الرسميون […] كان الملك زوغ طاغية وفاشي. ان كانوا يذعنون ويمتثلون ل ملك طاغٍ، ما الفائدة من محاربة طاغٍ اخر؟ ما الفائدة من الموت دفاعا عن استقلال بلد، كل ما فيه تم احتلاله والاستحواذ عليه باستثناء الاسم؟”. هذا كان رأي وقناعة والدتها: ليس من العدل ان تدفع العائلة الثمن طيلة العقود الماضية. كانت شديدة النقد لنهج الحزب القمعي تجاه الحريات والمعارضة والتعبير عن الاراء، وكانت تتطوق لتجربة ما كانت تسترق سمعه عبر قناة البث الايطالية – حين كانت تتمكن من التقاط موجة البث – من ترويج لعالم الحرية والديمقراطية في الغرب. كانت تتطوق لتجربة مختلفة. حدث مرة ان قايضت زميلتها في العمل لتُحضر للمنزل علبة كوكا كولا فارغة – رمزا لنمط الحياة في الغرب – لتزيينها ووضعها فوق التلفاز في المكان المخصص لصورة انفر هوشه. وجب على يوبي حينها اللا تتفوه بكلمة مما قد تسمعه او تراه في منزلها امام معلمتها او اصدقائها او الجيران، والا دفعت العائلة حياة افرادها ثمنا لذلك او زُجّت في السجون.

تتضمن السيرة العديد من المشاهد الداله على حالة القمع والقبضة الحديدية التي مارسها الحزب. في ذات الوقت، تُسهب يوبي في الحديث عن اسهامات الحزب والدولة في مجال التعليم وضمانها توفير خدمات الحماية الاجتماعية وبنيتها التحتية، وايضا احتياجات العيش الكريم للجميع وبالتساوي بعيدا عن رأسمالية السوق. تتحدث عن توفر السلع الغذائية لاستهلاك الجميع، تتحدث عن الكوبونات الشهرية وطوابير النهار للحصول على مونة العائلة. لم يكن هناك تنوع في السلع Brands – تقول يوبي – لكن السلعة ذاتها كانت متوفرة وبشكل كاف. تتحدث عن العلاقات التبادلية بين سكان الحي ومشاركة ما لديهم مع الاقل حظا. كانت جدتها نيني تقول لها: ” الاخلاق تأتي اولا، من ثم الطعام”. لم يكن هناك حاجة للتفكير بكيفية توفير الاموال لدفع الفواتير الشهرية وتوفير السكن وتكلفة المواصلات والمشافي والرعاية الصحيه واحتياجات الاسرة والاطفال وكبار السن وحتى الاجازات. كان يكفي ان تحتفظ عائلتها بالقليل منه في “جيب معطف جدها القديم” – لا حاجه لحسابات بنكية. تتحدث يوبي ايضا عن اهمية التعليم بالنسبة للحزب، كيف تمكن خلال فترة قياسية من محو الامية في كافة المناطق حتى الريفية وبين كبار السن من كلا الجنسين. تتحدث عن الحملات الميدانية التي قام بها المدرسون لكل بيت لضمان التحاق كافة الاطفال بالتعليم المدرسي الالزامي. تتحدث عن نوعية التعليم وتوظيف العقل والمناهج العلمية لتفسير الظواهر بعيدا عن الخرافات والاساطير والغيبيات، كيف درسوا النظرية الداروينية لفهم الطبيعة والماركسية لفهم المجتمع، كيف ان العزلة الجغرافية التي فرضها الحزب والتعبئة الايديولوجية لم تعزل الطلبة – والمجتمع – عن الاداب واللغات والثقافات العالمية. تذكر كيف اختار الحزب عزف الحركة الثانية من السيمفونية الثالثة “ايرويكا” ل بيتهوفن، دون غيرها، خلال موكب الجنازة الرسمي ل انفر هوشة.

تتحدث الكاتبة عن الاولوية التي اعطاها الحزب لرعاية الاطفال وتوفير الفرص لتطوير مواهبهم. تتحدث كيف كانوا يعلمون عما يعانيه الاطفال الفقراء والاقل حظوة في الدول الغربية الراسمالية، كيف حُرموا من التعليم وعملوا في المناجم، كيف تسولوا الطعام في الشوارع وامام المطاعم ومحطات القطارات، كيف سكنوا العشوائيات وسلبتهم الراسمالية احلام الطفولة والمستقبل. تعقب يوبي قائلة: ” كنا نعرف اننا كاطفال لم نملك كل شيء، لكن كان لدينا ما يكفي، وكان لدينا ذات الاشياء. كان لدينا الاكثر اهمية: الحرية الحقيقية”. تضيف: ” في الراسمالية، ادعى الافراد انهم احرار ومتساوون، لكن هذا كان على الورق فقط، لان الاغنياء فقط امكنهم الاستفادة من الحقوق المتاحة. الراسماليون راكموا اموالهم من سرقة الاراضي وسلب الموارد من كافة ارجاء العالم، وبيع ذوي البشرة السوداء واستعبادهم […] في حكم البرجوازية، لا يمكن للاسود الفقير ان يكون حرا. [في البانيا] كان لدينا حرية للجميع، كنا نعمل وننتج لانفسنا، لا للراسماليين. كنا نتشارك انتاجنا. لم نعرف الجشع او الشعور بالحسد. كان يتم تلبية احتياجات المعيشة لكل الافراد. وقد ساعدنا الحزب ايضا على تطوير مواهبنا. اذا كان لديك موهبة محدده في الرياضيات او الرقص او الشعر او اي شيء اخر، عليك فقط الذهاب الى بيت الرواد والالتحاق مجانا بنادي العلوم او مجموعة الرقص او الدائرة الادبية لممارسة مهاراتك. تخيل لو ان والديك عاشا في مجتمع راسمالي، لتوجب عليهما دفع مقابل كل ذلك […] لا حرية في ظل الراسمالية […] الاشكالية لا تتعلق بعدم السماح للفقراء فعل كل الاشياء التي يفعلها الاغنياء. انما في كونهم غير قادرين – ماديا – على فعلها،  حتى لو سُمِح لهم بذلك”. تسترسل يوبي: “لا يتم التضحية بالحرية عندما يفرض علينا الاخرون ماذا نقول، او اين نذهب، او كيف نتصرف. فعندما يدعي المجتمع انه يسعى لتمكين الافراد ومنحهم الحرية لادراك امكاناتهم، لكنه يفشل/ يغفل عن تغيير البنى structures التي تعيق نمو كل فرد وتحقيق ذاته، لا تكون الحرية، انما الاضطهاد”.   

في نهاية القسم الاول، تتحدث يوبي عن مرحلة “نهاية التاريخ” في البانيا وعما تكشّف امامها مع انهيار النظام. كانت يوبي حينها في عامها الدراسي الاخير. كانت قد التحقت بمخيم الرواد – رواد انفر هوشه – للمتميزين، وحازت شرف الحصول على ربطة عنق الرواد الحمراء. تعقب يوبي، فقدت الربطة قيمتها مع انهيار النظام واخذت تستخدمها لازالة الغبار عن رفوف مكتبتها! في 12 ديسمبر 1990، تم اعلان البانيا دولة متعددة الاحزاب عليها خوض انتخابات حرة وديمقراطية للانتقال لمرحلة جديدة. لكن “لماذا وصلت الاشتراكية الى نقطة النهاية؟”، تساءلت يوبي آنذاك. كانت المعلمة نورا قد حدثتهم ان النظام الاشتراكي ليس نظاما مكتملا وله اشكالياته، لكنه في مرحلة انتقالية لمجتمع شيوعي يخلو من اللامساواة الطبقية. قالت لهم انه بالرغم من اشكاليات النظام، تبقى دكتاتورية البروليتاريا افضل من دكتاتورية البرجوازية، فمصالح العمال هي الغاية في النظام الاول، بينما الربح وتراكم راس المال هو الغاية في النظام الثاني. لكن ما ادهشها – تقول يوبي – “ان الافراد الذين احتفوا بالاشتراكية وسعوا للانتقال السريع نحو الشيوعية، هم ذاتهم الذين خرجوا للشارع مطالبين انهاء النظام. ممثلون عن الشعب ظهروا ليعلنوا ان ما اختبروه في ظل الاشتراكية لم يكن حرية وديمقراطية وانما نظام اكراه وحكم طاغية”. حتى والداها اعلنا انهما لم يدعما ابدا الحزب وسلطته، لكنهما – وجدّتها ايضا – “حفظوا الشعارات ورددوها كالاخرين”، ان البانيا طيلة العقود الماضية لم تكن سوى “سجن مفتوح” مليء ب “جواسيس” النظام، ان عائلة والدتها كانت من ذوي الاملاك – العقارات والمصانع والاراضي – التي صادرها الحزب حين تولى الحكم، واتخذ احدها مقرا له، ان جدها – لامها – بات عاملا للنظافة مع انه يحمل شهادة في الاقتصاد، وانه انتحر من عذاب ما الم به وبعائلته، فقد تم تصفية البعض، وسجن البعض الاخر. من تبقى، اما فقدوا صحتهم الذهنية وادخلوا المشافي او تمكنوا من الهجرة والهروب. والدتها كانت ممن هاجروا. عند العوده، دفعهم الخوف للتكيف مع متطلبات النظام، لكن لم تلتئم جراحهم، كما لم يتوقف الحزب عن النظر اليهم كاعداء. 

ما شهدته يوبي في ديسمبر كان زلزالا دفعها الى الخوف والتيه وفوضى الطريق. تقول: ” كان التاريخ يسير باتجاه واضح، ثم فجاة اخذ يسير في اتجاه اخر. انا كنت ذاتي، ثم اصبحت ذات اخرى”. كانت المرحلة مربكة لها. تقول، لم تبدو المرحلة على انها نهاية حقبة او بداية حقبة اخرى. لكن ما حدث هو ان مفردات مركزية مثل “دكتاتورية، بروليتاريا، برجوازية” اختفت وتبخرت من اللغة المستخدمة وطريقة التفكير. بقيت فقط مفردة “الحرية”، وترددت المطالبة بها كثيرا في المظاهرات، والشعارات، والخطابات المتلفزة. لكن عندما وصلت، تجسدت بشكل مختلف. الكلمة كانت ذاتها، لكنها كانت تعني امرا اخر – حرية السوق لخدمة راس المال، والحرية السياسية للحد من قوة الحزب الشيوعي. 

سؤال الحرية والديمقراطية وكرامة الانسان في مرحلة ما بعد نهاية التاريخ

في القسم الثاني من سيرتها، تتحدث يوبي عن مرحلة ما بعد الشيوعية وسياسات اعادة الهيكلة – السياسية والاقتصادية – التي  فرضتها الامبريالية الامريكية ومؤسساتها الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) على المجتمع بذريعة مساعدة الشعب لبلوغ الحرية. غير ان المفردة لم ترتبط اساسا ب كرامة المواطنين والمساواة الاقتصادية والاجتماعية، انما ارتبطت ب حرية السوق ورفع القيود عن ديناميكيته التنافسية سواء كانت هذه القيود من جانب الدولة او القوى التنظيمية للشعب من اتحادات ونقابات عمالية. لم تكن انسانية المواطن الالباني واحتياجات عيشه غاية النظام الجديد بعد “نهاية التاريخ” ، بل استمرار تراكم راس المال العالمي وتمركزة في قبضة القطب الامبريالي، الامريكي تحديدا. اما مصير المواطن الذي تغلب على خوفه وواجه سطوة الستالينية وخرج الى الشوارع عام 1990 حالما بالحرية ووعود الديمقراطية الغربية، فكان الانزلاق في حرب اهلية عام 1997 بعد ان ضاقت به سبل العيش وعانى السلب والاغتراب والبطالة والفقر والتشرد والموت غرقا في طريق هجرته القسرية ل دول الغرب. 

في هذا القسم، تسرد الكاتبة سلسلة من التحولات البنيوية والاجتماعية وحتى اللغوية التي سارعت اليها الامبريالية الامريكية في وقت – تقول يوبي – كانت لا تزال ايديولوجيا الاشتراكية و”جذور الحزب عميقة داخلنا”. تصدّرت هذه التحولات عملية “الاصلاح” السياسي على شاكلة الانظمة الغربية بهدف السيطرة على الدولة وقطاعاتها وسن قوانين تكفل حماية حرية السوق وقواعد عمله. كانت شعارات التعددية الحزبية والديمقراطية الانتخابية وحرية التعبير والمشاركة “جذابة” في بدايات المرحلة الانتقالية. غير ان عملية الانتقال “السريع” من نظام الحزب الواحد الى نظام متعدد الاحزاب وخوض انتخابات سريعة كانت دموية بسبب الصدامات والتصدعات التي حدثت داخل الحزب – خاصة مع عامل السرعة – والانشقاقات التي هتفت لاحلال قيم الليبرالية مكان القيم الاشتراكية. تذكر يوبي سلسلة من الزيارات الرسمية للحكومة الامريكية دعما للحزب الجديد – الحزب الديمقراطي الاصلاحي – واعلان عزمهم على دعم الحزب الموالي للوصول للحكم وهندسة ” الديمقراطية، والاسواق، والنظام الدستوري ” الالباني لتسريع عملية الانتقال لحظيرة المعسكر الامبريالي الغربي. كانت الوصفة الامريكية للانتقال السريع تكمن في سياسة ” العلاج بالصدمة” Shock therapy، وتضمنت القائمة الحاجة الملحة للاصلاح السياسي السريع، وكذلك التحول من التخطيط المركزي للاقتصاد ونمط الانتاج الاشتراكي الى تحرير الاسواق من قبضة الدولة والاحتكام الى “لعبة التنافس” في نمط انتاج راسمالي عالمي. تكتب يوبي: “كان يتم النظر الى مركزية الدولة في التخطيط الاقتصادي كانها ضرب من الجنون، وجب علاجها من خلال التحول الى سياسة نقدية تقوم على تحرير الاسعار، الحد من خدمات الرعاية والحماية التي توفرها الحكومة، خصخصة القطاعات العامة وفتح الاقتصاد المحلي على التجارة الخارجية والاستثمار المباشر. لا حاجة للتخطيط المركزي [حسب الوصفة الامريكية]، ف سلوك السوق قادر على دفع المؤسسات الراسمالية لتعديل أدائها للعمل بفعالية اكبر”. 

تضمنت القائمة ايضا –  تشير يوبي – اعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية العامة. فبالاضافة الى تحويلها لملكيات خاصة، حدث تدهور حاد في القطاعين الصناعي والانتاجي مقابل الاستثمار في انشاء وصعود القطاع المالي والمصرفي. تم اغلاق اغلب المنشآت والمصانع وورشات العمل، وتم تسريح شرائح واسعة من العمال – التحقوا بصفوف البطالة – تحت ذريعة تحديث القطاعات الاقتصادية وترشيد تكاليفها وزيادة قدرتها التنافسية في السوق العالمي وتحقيق الارباح لسد المديونية العامة التي اخذت بالتراكم والتضخم مع تخبطات المرحلة والانتقال السريع من الاشتراكية الى الراسمالية. بالمقابل، فتح السوق ابوابه للشركات الاستثمارية وبنوك الاقراض والمشاريع الهرمية Pyramid schemes. هذه الاخيرة يقوم نموذج عملها على استقطاب/سلب ما في جيوب المواطنين من مدخرات مالية لاستثمارها مقابل وعود بالفائدة والربح السريع. العديد من المواطنين الذين اضحوا عاطلين عن العمل اضطروا الى بيع منازلهم او رهنها للبنوك لاقتراض الاموال والاستثمار في هذه المشاريع على امل الربح السريع لاعالة عائلاتهم. في وصفها للتحول الجذري والسريع في المجتمع والاقتصاد الالباني، تُعبّر يوبي قائله: “بين ليله وضحاها، استبدلوا ماركس وانجلز ب ميلتون فريدمان وفريدريك حايك”، وكانت الكارثة حين اعلنت هذه الشركات افلاسها بعد بضع سنوات. انهار الاقتصاد الالباني والمجتمع على اثر ذلك.

شهدت المرحلة، كذلك، تحولات على مستوى اللغة واستدخال لمفاهيم جديدة ومفردات رافقت التحولات البنيوية اعلاه ونمط الانتاج الجديد، وعكست ايديولوجيا المرحلة وبرامج العمل. فبعد اعادة هندسة دور الدولة الجديد لخدمة راس المال على حساب المواطنين، تشير يوبي الى استدخال مصطلح “المجتمع المدني” وأهمية مؤسساته كبديل عن دور الحزب في الدفاع عن “حقوق الانسان” امام الدولة ورفعها امام “المجتمع الدولي”. تم استدخال برامج عمل جديدة لهذه المؤسسات بعيدة عن مخاطبة اوضاع المواطنين المعيشية وحاجتهم لسبل عيش كريم بعد ان اثقل النظام الجديد على كاهلهم تكاليف الحياة وتركهم عراة دون حماية او مصدر للدخل. تشير يوبي كيف اتجه الدعم والتمويل الغربي نحو برامج مثل التوعية حول مرض الايدز، وضرورة التمييز الايجابي للنساءQuota  وقضايا النسوية والمساواة بين الجنسين. تذكر يوبي كيف استهجنت والدتها – وكانت احدى قياديات الحزب الديمقراطي “الاصلاحي” انذاك – خطاب النسويات الغربيات ودعوتهن للتمييز الايجابي للمراة الالبانية، تذكر كلماتها: “لقد فرض الحزب [الشيوعي] مساواة صارمة بين الجنسين. لم يقبل أي مساومات او تنازلات […] ليست الكوتا ما نحتاج!”. من بين المصطلحات الدخيلة ايضا، برز مصطلح “الشفافية” كبديل عن “النقد الذاتي”، وخصصت برامج ل”محاربة الفساد”Fighting corruption كبديل عن التوجه السابق في النضال الطبقي الاممي ضد الامبريالية. فقد افرزت المرحلة الانتقالية انتهازيين وفاسدين بين الالبانيين جمعوا بين المنصب السياسي وراس المال، وفي ذات الوقت تبعثرت القوى العمالية وتهالكت تنظيماتها. تشير يوبي – على المستوى الرمزي – اخذ الافراد يرفعون “اشارة النصر V” كبديل عن “قبضة اليد Fist”. 

من التحولات ايضا، ازدادت قيمة ال “الملكية الخاصة” Private property، وانتشر مصطلح “الخصخصة”Privatization  كبديل عن النمط السابق في “الانتاج التعاوني” Collectivization. ابتعد مفهوم الحرية عن البعد الجماعي Collective freedom واقترب من التعبير عن “المبادرات الفردية” و”الريادة” Individual initiatives & Entrepreneurship. “تقوم الاشتراكية على التبادلية Reciprocity [بينما] تقوم الراسمالية على المنافسة Competition”، تكتب يوبي. اصبحت القدرة على “المنافسة” وفق قواعد السوق الحر، وتحقيق “الربح” Profitability هي المعيار الاساسي في رسم الخط الفاصل بين “الرابحين والخاسرين” Winners & Losers.  بات النظر الى لعبة السوق على انها العدالة، بمنطق: من يمتلك من الافراد “الارادة” و “المثابرة” و”العمل” على تطوير “القدرات والمهارات” اللازمة للفرص المتاحة في السوق، سيتمكن من المنافسة والربح. من لم يمتلك ارادة العمل ولم يسع لتطوير المهارات اللازمة يلفظه السوق خارجا. تقع المسؤولية قصرا على عاتق الافراد انفسهم ومدى سعيهم لتطوير قدراتهم، دون اي اعتبار للعوامل البنيوية والمعيقات الكامنة بالضرورة في بنية السوق وقواعد عمله، وكذلك التحولات الكبرى التي احدثتها الراسمالية في بنية المجتمع والنظام. في السابق – تقارن يوبي – كانت الدولة الاشتراكية هي المسؤولة عن توفير فرص العمل للمواطنين، مع وجود تباين في طبيعة الفرص بناءا على سجل العائلة السياسي والايديولوجي Biography. في قواعد النظام الجديد، تقع المسؤولية على عاتق الافراد وحدهم وقدراتهم التنافسية. يشترط الفوز بفرصة عمل كتابة سيرة ذاتية Curriculum Vitae تتضمن اللغات والمهارات والقدرات وسجل من الانجازات السابقة، مع شرط اتقان اللغة الانجليزية تحديدا. اختلفت القواعد، اختلفت اللغة، والمعايير. كانت هذه جميعا جزءا من سياسات اعادة الهيكلة وما دعوه “علاجا” بالصدمة. كان داءا، لا علاجا. 

اما عن مآلات هذه التحولات البنيوية وسياسات “العلاج بالصدمة” الكارثية على الشعب الالباني وقدرته على البقاء والعيش بكرامة في وطنه، تسلط يوبي الضوء في سيرتها على ما شهدته المرحلة من تدفق اعداد هائلة من المهاجرين – المهرة وغير المهرة، شبابا واطفالا وكبارا من كلا الجنسين – الى الموانئ والحدود البرية متجهين الى الدول الغربية. كدلالة على حجم الظاهرة، تذكر يوبي: في احدى السفن احتشد ما يزيد عن 20000  مهاجر الباني مع ان سعة السفينة لا تتجاوز 3000 بالحد الاقصى. تذكر ما سمعته من الاصدقاء والاقارب عن الاهانة والتعامل غير الانساني الذي تعرضوا له على الحدود الايطالية. احدهم اخبرها: “عاملونا كالكلاب”، وأخبرها عن استجدائهم حرس الحدود لمغادرة السفينة لحاجتهم للشرب والاكل بعد ان نفذ كل ما لديهم، لكن دون اكتراث. اخبرها كيف استمر حجزهم في السفينة ما يقارب 36 ساعة، وبعدها اعتقلوهم في استاد رياضي مغلق ومحاط برجال الشرطة والامن لاعادتهم مجددا الى البانيا. اخبرها عن شباب وشابات مراهقات تطلعن لمستقبل افضل والتعرف الى عالم الحرية التي تغنى بها الغرب بعد عقود من العزلة، هاجرن دون علم احد لينتهي بهن المطاف ضحايا للاستغلال الجنسي والتشرد. تعقب يوبي في سرديتها على سيل الهجرة الجماعية خلال هذه المرحلة: لم تكن عوامل الجذب مثل “الرغبة” في تجربة الحرية الغربية هي الدافع الاساس وراء الهجرة، بل كانت “الحاجة”، اي عوامل طرد وهروب من واقع الفقر والمجاعات والبؤس الاجتماعي وحالة اليأس الجماعي الذي لحق بهم بعد ان سلبهم النظام الجديد عملهم ومخصصات الحماية الاجتماعية، وسلبهم كذلك امكانية اللجوء لشبكة الحماية الاجتماعية وثقافة (علاقات) التبادل والتكافل بين السكان، فقد تدهورت قيمة العلاقات التعاونية وحلّت مكانها ثقافة السوق وصراع البقاء.

اخذت اوضاع شرائح عريضة من الشعب تنحدر نحو الهاوية مع عدم قدرة العائلات تأمين تكاليف الصحة والتعليم والسكن والرعاية والمواصلات وفواتير الماء والكهرباء وغير ذلك. ففي النظام الجديد، كافة هذه التكاليف تقع على كاهل الفرد.  وبالرغم من وفرة الخدمات والبضائع في السوق، كانت القلة فقط تمتلك القدرة الشرائية لتلبية احتياجاتها. تذكر يوبي: “كان هناك سلع كثيرة ومتنوعه في المتاجر، ولم نكن مضطرين للوقوف طيلة النهار في طوابير للحصول على حصة العائلة التموينية. مع ذلك، لم نكن نستطيع شراء اي منها”. كانت الاوضاع المعيشية بائسة لدرجة انها طالت شريحة الاطفال بعد ان كانوا في اعلى سلم اولويات النظام السابق. تتحدث يوبي عن الاكتظاظ الذي شهدته دور رعاية الاطفال بعد ان اضطرت عائلات عديدة التخلي عن اطفالها وهجرهم لعدم قدرتها على الاعالة. تتحدث عن التباين في اولويات عمل النظام الجديد وكيف استثمرت الشركات الراسمالية – بالتعاون مع الدولة – في مشاريع استهلاكية مثل بناء الفنادق والملاهي والمطاعم ومراكز التسوق بينما عملت على تقليص عدد مؤسسات رعاية الاطفال واهمال خدماتها وبيئتها الصحية رغم زيادة الطلب عليها من الشعب. تتحدث ايضا عن انحدار المجتمع في آفات اجتماعية مثل تجارة المخدرات والسلاح والتهريب والاستغلال الجنسي. وتتحدث عن الانهيار الكبير الذي الم باحوال المواطنين على اثر انهيار النظام المالي واعلان الشركات الاستثمارية والمشاريع الهرمية افلاسها بعد ان تغلغلت في الاقتصاد الالباني وتمكنت من نهب مدخرات المواطنين من خلال تقديم الوعود بارباح سريعة تمكنهم من تدبر تكاليف الحياة. مع اعلان افلاس هذه الشركات والمشاريع، خسر المواطنون ورقة النجاة الاخيرة، ودخلوا بعدها في “نفق مظلم” من الفوضى والصراعات الداخلية ادت الى نشوب حرب اهلية عام 1997.   

تقول يوبي، كانت الحرب الاهلية عام 1997 بمثابة الاعلان عن انهيار “حرفي” للدولة والمجتمع وسبل العيش وشبكات الامان. في مقارنة ما بين احداث 1990 و 1997، تقول يوبي: “لم يكن الصراع حينها [عام 1997] بين الاشتراكيين والديمقراطيين كما احتجاجات عام 1990. بل كانت فوضى. فالقوى السياسية الان عاجزة، والبلاد في حالة انتحار ذاتي. الامر اسوأ بكثير من قبل. على الاقل، عام 1990، كان هناك امل في نظام ديمقراطي قادم، وان كان وهما. اما الان، لا شيء سوى اللعنة”. وفي قراءة اسباب نشوب الحرب الاهلية، تشير يوبي الى تحريف الخطاب الاعلامي لمؤسسات النظام الجديد ودعايته التي حددت الاسباب في غرق المواطنين في صراعات وصدامات اثنية ودينية وثقافية تعود جذورها الى النظام السابق، خلافات ادعت انها قديمة، تعرضت للكبت من النظام الشيوعي الستاليني، ومن ثم ظهرت الى السطح مع مساحة الحرية التي منحها النظام الجديد. توضح يوبي في سرديتها زيف هذا الادعاء، فالاسباب الموضوعية هي اقتصادية وسياسية واجتماعية في طبيعتها. اما النزاعات الاثنية والدينية التي شهدتها البلاد، فتوضح يوبي حقيقة كونها احدى افرازات الراسمالية والاوضاع المعيشية الصعبة للمواطنين، ولعبة التنافس والصراع من اجل البقاء. هي نتيجة، وليست سبب. الادعاءات الاعلامية “واهية”، تؤكد يوبي. وتضيف مثالا: والداها تزوجا في الحقبة الشيوعية بالرغم من انتمائهما لجماعتين اثنيتين مختلفتين. لم يكن للهويات الاثنية اي قيمة، بل كانت القيمة للموقف الطبقي والسياسي لا غير.

تنتهي السيرة الذاتية للكاتبة ليا يوبي بتاكيدها على مركزية الانسان وكرامته وظروف المساواة الاقتصادية والاجتماعية عند معالجة سؤال الحرية والديمقراطية في المجتمعات السياسية المختلفة والحقبات التاريخية المتعاقبة، وايضا تاكيدها على اهمية المعالجة التاريخية والموضوعية لكل نظام بعيدا عن مساعي الشيطنة او الانحياز الاعمى. دون ذلك، لا يمكن الاستفادة من التجارب التاريخية في تحديد مرتكزات وروافع مشروع مناهضة الراسمالية العالمية ونظامها الامبريالي.  

هوامش

١- النص الاصلي باللغة الانجليزية، ولا تتوفر له ترجمة بعد الى اللغة العربية.

٢- يتصاعد الحديث في الاونه الاخيره عن تجدد الحرب البارده مع صعود اقطاب وامبراطوريات في صراع مع الامبراطورية الامريكيه الاوروبية سواء على المستوى العسكري السياسي مثل الاتحاد الروسي، او الاقتصادي السياسي مثل جمهورية الصين. قد يبالغ البعض في قراءة المشهد على انه عودة الى التعددية القطبية – كما حقبة الحرب البارده القرن الماضي – في مواجهة الامبراطورية الراسماليه العالمية. غير ان المتابع لطبيعة الاقطاب الصاعده يدرك ان تعدد المراكز والاقطاب وتجدد الحرب البارده لا يعني بالضرورة مناهضة للمعسكر الراسمالي. قد يعني الامر حالة من ” فك الارتباط” الجغرافي او السياسي بين الامبراطوريات العالمية الصاعده، لكن لا يعني بالضرورة “فك ارتباط” – بلغة المفكر الاقتصادي السياسي الماركسي سمير امين في كتابه “فك الارتباط: نحو عالم متعدد المركز” (1990) – مع المركز الراسمالي العالمي.اذ ليس كل من يقف في وجه القطب الامبريالي الغربي ينحاز بالضرورة لقيم الديمقراطية الاشتراكية والانسانية والعدالة الاجتماعية. ايضا، الاختلاف/ التناقض على مستوى الموقع الجغرافي (شمال مقابل جنوب) لا يعكس بالضرورة اختلافا/ تناقضا على مستوى علاقات الانتاج (راس المال مقابل العمل). للاطلاع على امثلة تدعم هذا الطرح، انظر مقال ويليام روبنسون (أب 2023) بعنوان ” The Unbearable Manicheanism of the ‘Anti-Imperialist’ Left” على الرابط التالي: The Unbearable Manicheanism of the “Anti-Imperialist” Left – The Philosophical Salon

الكاتب: نادية حجل

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع