ليست هذه الرسائل عن كل فيلم أشاهده. لا يستحق أكثر من نصف الأفلام الكتابة اليومية، فدورة هذا العام من مهرجان برلين السينمائي، بمسابقته الرسمية حتى الآن، أضعف من دورة العام الماضي.
هذا ما يفسر الحضورَ الزائد للوثائقيات في المسابقة الرسمية، وقد يحيل أحدنا السبب إلى مهرجان كان السينمائي الذي تسعى إليه الأسماء الكبيرة أولاً، وقد استحوذ العام الماضي على نسبة من أهم إنتاجات العام. لكن، فيلمنا هذا واحد من الأفلام الاستثنائية في هذه الدورة، لا لضعف في التشكيلة بل لقوة فيه.
“حمّام الشيطان” (The Devil’s Bath) للنمساويين فيرونيكا فرانز وسيفيرين فيالا عوّض النقض النوعي في أفلام هذه الدورة إلى حينه، مع استثناءات متفاوتة كتبتُ حتى الآن عمّا وجدته مستحقاً لذلك منها.
الفيلم محكم، متماسك، ساحر بصرياً ومثير سردياً. من اللقطة الأولى يقدّم موضوعه بكلام متقشف، مشاهد متلاحقة تخبئ في سرّها تراجيديا يتلمّس أحدنا، من المشاهد الأولى، الطريق إليها، مدركاً أنه أمام عمل استثنائي.
المآل التراجيدي هو لأغنيس، امرأة ستتزوج، تترقّب حياة سعادة وإخلاص متمنيةً طفلاً يملأ بيتها. يرفض زوجها، الطيّب والممل، النوم معها، أمّه تقسوا عليها، تَسودّ حياتها إلى أن تقرر الانتحار، اليأس يملأ يومياتها والسوداوية تعمّ الفيلم. نحكي عن القرن الثامن عشر، في النمسا، حيث الإيمان المنحرف في تطرفاته، والسيطرة التامة للخرافات المرتبطة بالمسيحية.
لقطات ثابتة ومتحركة شديدة الرمزية تملأ الفيلم، كعنزة معلقة بالمقلوب تبدو كمسيح مصلوب. ساد العنفان البصري والنفسي الذي تعيشهما أغنيس، في القرية الصغيرة حيث يحتفل الناس بالقتل التشويهي للمذنبين ويشربون دماءهم. بموسيقى وتأثيرات سمعية كانت عنصراً أساسياً في سيادة العنفين، ليكون الفيلم لا تراجيديا شخصية لامرأة وحسب، بل سوداوية وحتى “شيطانية” تمثّلت في باقي شخصيات القرية، من الأم المتشددة إلى باقي سكّان القرية ومعهم نفهم أن التشدد سلوكاً مجتمعياً عاماً.
ذلك كله في قرية هي أقرب لتكون غابة، الناس هنا سكّان غابة كئيبة ومقفرة، الموت والبرد يخيم عليها، والموتى وآثارهم، أناساً وحيوانات، تملأ أطراف الغابة، طريةً ومتحللة.
الفيلم، في تصوير شكلٍ من التعصب الديني، والطقوس الإيمانية المغالية، الموتيّة، يحيل إلى عالم اليوم والفاشية فيه، من أصولها، أكثر من غيره من أفلام هذه الدورة التي تناولت اليمين المتطرف أو النازية.
لا يكتفي الفيلم بجانبه السردي المحكم أو البصري الجمالي رغم سوداوية الشكل والمضمون، الشيطانيين، ورغم العنف الكامن والظاهر، والدموية السائدة، بل ينقل من خلال بحوث جُمّعت، قصةً سادت في حينها، إدراكُها يعطي للفيلم قيمة عليا في مضمونه.
في حينها، كان الساعون إلى الانتحار للتخلص من الحياة الدنيا، يتخذون طريقة تحميهم من الجحيم في الحياة الآخرة، فيخرجون سالمين من حياة أرادوا التخلص منها مهما كانت الأسباب. وكان ذلك بارتكاب ذنوب شتى آخرها، كما فعلت أغنيس، قتل طفل، هي بذلك، كذلك، تحميه من أن يكبر ويرتكب معاصي، فهو بذلك ملاك إلى الأبد. قتلت أغنيس طفلاً وحاولت الانتحار وارتكبت معاصي كي تجد مخرجاً من البؤس في حياتها.
اعترفت بذنوبها في الكنيسة، غُفرت لها الذنوب لاعترافها وحُكم عليها بالإعدام بقطع رأسها. هي بذلك نالت موتها من دون ذنب الانتحار.
يخبرنا الفيلم أخيراً أن أكثر الحالات المنتشرة لهذا النوع من الانتحار المغفور، كانت للنساء.