هل يكون “ميغالوبوليس” “متروبوليس” آخر؟ لم يخطر لي السؤال، ولا حتى فيلم فريتز لانغ المرجعي (Metropolis، ١٩٢٧) قبل المَشاهد الأولى من فيلم فرانسيس فورد كوبولا، وإن تشابهت الأسماء. هو الفيلم الأكثر ترقباً لدى كثيرين كنت منهم، في هذه الدورة من مهرجان كان السينمائي التي يشارك الفيلم في مسابقتها الرسمية.
الفيلم، Megalopolis، يحاكي فيلم لانغ بشكل عصري، من بعد قرابة قرن من الزمان، كأنّنا أمام نسخة ثانية من الفيلم العظيم للانغ. فيلم كوبولا هذا يتحاور مع فيلم لانغ، يحاول الإجابة عن أسئلته بتحديثها إلى أخرى مماثلة، في حال الإنسانية ومآلها، من بعد قرن. الفيلمان أخذٌ وردٌّ غير مباشرين حول التراجيديا البشرية، وإن كان، لسياقه الزماني، فيلم لانغ اجتماعياً واقعياً، وفيلم كوبولا فردانياً ما بعد حداثي. في الأول تبنى حبكة تقليدية من خلال طبقة عمّال، في الأخير لا حبكة ولا طبقة، أفراد يتحكمون ويحتكرون. قد يكون هذا واحداً من المآلات التراجيدية التي آلت إليها البشرية ما بين الفيلمين، بغض النظر عن النهاية السعيدة الفردية، المفتعَلة، في فيلم كوبولا.
بمشهد افتتاحي من تلك التي تخلَّد، بدأ الفيلم بنبضات قوية ومتسارعة، وبالكاد هدأت على طوله، بشغل بصري مزدحم ومتداخل، ومن دون حبكة واضحة المعالم إنما بشخصيات تتفاعل مع نفسها ضمن قصة حب بدائية، فيها صراعُ قِوى تمثل الخير والشر، الساحر والحاكم والمصرفي. ثلاث قوى متقاطعة من دون واصل زماني بينها. الشخصيات متداخلة مع بعضها كأنها تدور في حلقة لا تتوقف. وميزة الساحر الأساس قدرته على إيقاف الزمن. هذا كله يمكن أن يؤخَذ مدحاً بالفيلم، وكذلك ذماً. يستعيد الفيلم الامبراطورية الرومانية، كلاماً وصوراً وأزياء، يضع البشرية على سطح واحد بأزمنة متماهية، العناصر الزمانية فيه متداخلة. في الفيلم، ممحو الزمان، أدوات وأجهزة من كل الأزمنة تتجاور.
إن تناول فيلم لانغ المجتمع البشري من خلال الصراع الطبقي، كأصل واستدامة، في خيال علمي رأيناه بنسخة عصرية في فيلم كوبولا، فإن فيلم الأخير أكّد على أن الصراع البشري هذا، مهما اتخذ أشكالاً تفاوتت خلال القرن الأخير، إلا أنه يبقى هو هو، لا بشرية من دونها. للفيلم المليء بالكلام النظري إشارات وثائقية، من أحداث تاريخية وطقوس حضارية، ومشاهد تجريبية من الكوكب، وما تلاها في ما يعرف في المسرح بالتكسير للجدار الرابع، إذ اقتحم أحدهم خشبة المسرح بمايكروفون وبدأ يحادث الساحر، أنيرت الصالة قليلاً وبدا المتطفل عنصراً واقعياً من الفيلم، لنكون نحن والفيلم بأحداثه وحوادثه سيان، والبشرية بتراجيدياتها مآلُ المتفرجين، نحن.
“ميغالوبوليس” استثنائي، غريب ومربك. استيعابه لن يكون سلساً ولا بجرعة واحدة. يخرج أحدنا من الصالة بالكاد يدرك ما كان يحصل أمامه. أو ما كان مأخوذاً به قبل قليل. هو أقرب لاحتمال التحفة الفنية من دون إدراك مباشر لمبررات هذا الحكم، لكن بالشعور به، بما يشير إليه من بعيد. قد يحتاج العمل سنوات قليلة، أو طويلة، ليأخذ مكانه في خانة التحفة أو الخيبة.