قبل الدخول إلى الصالة، حقيقةُ أن الفيلم لليوناني يورغوس لانثيموس تجعل التوليفة ما بين المُشاهد والفيلم، بشكل مسبق، حالةً خاصة بهذا المخرج الذي يواصل بفيلمه المشارك بالمسابقة الرسمية لمهرجان كان، أسلوبَه الاحتفائي بالشكل، والعابث بالمضمون، ولا أقول الموضوع فهذا لا ملامح له. هي توليفة ينحَّى فيها المنطق جانباً، ما يحرّر الشخصيات من علاقات مفهومة ضمناً بينها وبين بعضها، وما يحرّر كلاً من الصورة والنص، أحدهما من الآخر.
الفيلم بهذه الغرائبية، وأكثر. هو استمرارية لعبثية باتت معروفة في عموم أفلام لانثيموس، ومن أولها، مع ابتعاد في الشكل تحديداً، وفي تقطيع هذا الفيلم إلى ٣ أقسام منفصلة متصلة، ما ضاعف جرعة العبث ٣ مرات.
كما يلعب “أنواع من اللطف” (Kinds of Kindness) لغوياً على العنوان، يلعب سردياً على الشخصيات ومواقعها وتقاطعاتها، في كل قسم على حدة، وفي تتابع الأقسام الثلاثة، ففي كل منها ما يجعله امتداداً للسابق أو استهلالاً للاحق، وفي كل منها، وبالدرجة ذاتها، دلائل شديدة الوضوح في استقلاليته عن القسمين الآخرين. نحن هنا أمام فيلم واحد طويل قارب ٣ ساعات، وأمام ٣ أفلام قصيرة كلٌّ منها مكتمل بعبثه، ما يجعلها معاً، فيلماً واحداً مكتملاً ٣ مرات بعبثه.
لا جدوى من محاولة جرّ الفيلم إلى علاقات منطقية، إلى سرد واضح يمكن لأحدنا أن يرويه لآخرين، أو يكتب عنه. رغم طوله، يصعب الإفلات من الدهشة الممتدة، بصرياً وسردياً، على طول الفيلم وبعتبات متفاوتة. هذا الانبهار لا يمكن تبريره، يشعر به أحدنا، بآثاره، من دون القدرة على الإمساك به. وإدراكٌ مسبق لسينما لانثيموس تهوّن على أحدنا لا مسكَ طرف الفيلم من أوله، بل إدراك أن لا ضرورة ليكون هذا الإمساك افتعالياً، تكفي المتابعة ليتخذ الفيلم مكانه في أذهان المشاهدين، على وتيرته. أقول الأذهان لا العقول.
تتناقل الشخصيات على طول الفيلم في مواقعها، تخرج من حيزها لتدخل في آخر للقسم التالي، في عمل فني ثلاثي بالدرجة الأولى، سرداً وصوتاً صورة. أول الأقسام “موت ر.م.ف” يحكي عن رجل يُبتز ليقتل آخر بحادث سيارة قد يودي بحياته هو، الثاني “ر.م.ف يطير” يحكي عن رجل يشك في امرأة تدّعي أنها زوجته بعد اختفائها، آخرها “ر.م.ف يتناول سندويشة”، يحكي عن امرأة تستطيع إحياء الموتى.
يصعب على فيلم أن يمسك بأنفاس المشاهدين ما إن اتخذ لنفسه مذهب العبثية، أصعب منه أن يكون ذلك مضاعفاً ٣ مرات، الأصعب أن يمتد ذلك لقرابة ٣ ساعات. الإبهار السردي والبصري، العجائبية الممتدة من دون إرهاق متلقيها، ميزات استثنائية للانثيموس، ولهذا الفيلم تحديداً، اللانثيموسي برتبة عليا.