عاد الفرنسي جاك أوديار إلى مهرجان كان السينمائي، من بعد سعفة أولى نالها عام ٢٠١٥ عن فيلمه “ديبان”. ولمشواره تدرُّج مستقر مع المهرجان، فقبل الجائزة الأولى تلك نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى عام ٢٠٠٩ عن فيلمه “نبي”، وقبله نال جائزة أفضل سيناريو عام ١٩٩٦ عن فيلمه “بطل عصامي”. في مساره المتصاعد هذا، لا مكان سوى لسعفة ذهبية ثانية ليكون من نادي السعفتين، بأعضاء محدودين من سينمائيين معاصرين استثنائيين.
لو لم يكن في فيلمه المشارك في المسابقة الرسمية أسباب لنيل تلك السعفة لما كانت المقدمة أعلاه. في الفيلم كل الأسباب السينمائية ليأتي لصاحبه بسعفة أو بغيرها.
الفيلم (Emilia Perez) آمنٌ في سرده، كلاسيكي، خطّي، وهذه ليست قيمة زائدة أو ناقصة لأي فيلم. هي أسلوب سردي قد يُحسن إلى باقي عناصر الفيلم أو يسيء.
يحكي “إيميليا بيريز” عن زعيم عصابات في المكسيك، يطلب من محامية مساعدته ليتحول إلى امرأة ويُعلَن عن موته، يعود بصفته أختاً له، ليبقى، أو لتبقى قريبة من الزوجة والطفلين، وتؤسس جمعية لرعاية أهالي القتلى والمخطوفين في حروب العصابات التي شارك الرجل بها. كأن المرأة هنا تصحح من خطاياها حين كانت رجلاً.
تتطور الأحداث بكتابة مُحكمة، وبتصوير لا يقل إتقاناً. الفيلم متكامل الجماليات، هو موسيقّي، تراجيديّ، ممتلئ بالتقلبات والانعطافات وكلها كانت في محلها أو أفضل، لا يتساءل أحدنا عن تفصيل أو يتشكّك من صورة أو حوار. والفيلم نسوي في متنه وهامشه، مَشاهد عابرة تشي بذلك، وكذلك المشوار الأساسي لإيميليا في انتقالها من زعيم منتشٍ بذكوريته وعنفه، منظراً وسلوكاً، إلى امرأة انقلبت فيها العقلية والنفسية، لا الجسد وحسب، ترعى الآخرين، النساء منهن تحديداً.
شكلاً ومضموناً، هو الفيلم الأكمل والأسلم في هذه الدورة إلى حينه، ليس الأجمل، ولا الأشد وقعاً، ولا الأعمق، لكنه متواز سينمائياً في كافة عناصره. غرفَ من كل عنصر جمالي، أحسن الانتشال من هنا وهناك، من دون أن يتطرف في أي منها، من دون الإفراط في جماليات الصورة أو السرد، وكانت عناصر الفيلم كافة داعمة لبعضها ليخرج الفيلم بشكله المثالي.
مكمن القوة في هذا الفيلم المتماسك، كان أولاً في أن امتياز عنصر لم يكن على حساب آخر، بل رفع كل منها غيره، وثانياً في الإمساك جيداً بالانتقالات الدرامية وقد امتلأ بها، من المشهد الأول إلى الأخير. كثرت وتكثفت في الفيلم المتسارع بوتيرته. كل حدث في الفيلم كان مبنياً على السابق له، وكل حدث ترسّخ أكثر كلما تراكمت أحداث فوقه، أو تراصّت قبله.
الميزة السينمائية الأكبر لهذا الفيلم هي توازنه، ما يجعله فيلماً نموذجياً لما تكون عليه السينما الممتازة، لا الاستثنائية ولا المغامرة، بل الممتازة لأسباب يمكن شرحها، وجميعها سينمائي. أي فيلم آخر ينال السعفة يحتاج إلى تبرير، أما هذا الفيلم فتكفي مشاهدته.