مثلثاتٌ ودوائر حُمْرْ
كيف نقرأ “المسافة صفر”؟ من أين؟ في ماذا؟ عن أي (قيمة) للصفر نكتب وأيّها نُحلل؟
قيمته يوم العبور في اشتباك المقاومين مع عدوهم، في أراضيهم المغتصبة بعد سنوات الحصار من “المسافة صفر”؟
في عمليةٍ أجبرت الاحتلال على النزول من برجه العاجي المحصّن ليخوض “حرب المدن” التي يخشاها من “المسافة صفر”؟
نكتب عن تعرية إسرائيل وحلفائها من “المسافة صفر”؟ أم عن هذا المستعمِر وهو على “المسافة صفر” من النازيّة والوحشية والدمويّة؟
عن مجلس الأمن؟ المجتمع الدولي؟ الديمقراطيات؟ أو منظمات حقوق الإنسان بعد انكشافهم من “المسافة صفر”؟
عن خذلان من هو فينا ومنّا على “المسافة صفر”؟ عن حركاتنا للتحرر وجدواها من “المسافة صفر”؟
نكتب عن صورة غزّة وأهلها أمامنا من “المسافة صفر”؟ أو عن القضية والسرديّة الفلسطينيّة وهما على “المسافة صفر” من كلّ العالم؟
تحاول هذه المقالة أن تقرأ “المسافة صفر” المشار إليها في مثلثات ودوائر حُمْر. تلك التي جردّت المحتّل من هيبة ترسانته المحصنّة في أرضٍ يحرقها، ويغطيها بمقاتلات حربية وطائرات مسيّرة وإسناد مدفعي وصاروخي كثيف، حين جردّت الفلسطيني المقاوم من الخوف من الموت. فَقيمة الصفر هنا تكمُن في قهر الاحتلال الإسرائيلي وإعباط المشروع الصهيو-غربي، وحفظ جدوى طريق التحرير وحق تقرير المصير. هذه القيمة هي ما تجعلنا ندرك “المسافة صفر” في كلِّ ما سبق ثمَّ نقف عليها.
إحياء إرث “المسافة صفر”
تنظر المقالة في مشهدية “المسافة صفر” في الحرب البريّة على غزّة من مدخلين مركزيّين؛ أولهم -في هذا الجزء- ينطلق من حيث علاقتها بإرث أعمال المقاومة القسّاميّة بما هي امتداد تاريخيّ لتجارب تمّ مراكمتها والبناء عليها. بمعنى أنّ القتال من “النقطة صفر”هو إحدى استراتيجيات العمل المقاوم التي بدأت منذ زمن بعيد وكانت محطة فارقة في تاريخ الكفاح المسلّح، وها هي تمتد اليوم لتدرج في مدى تاريخي جديد قد يؤسس لحركات جديدة كما كان للماضي منه دور في إنتاج كلّ ممارسات المقاومة في الحاضر. وعليه نقرأ قيمة الصفر في مسافة القتال في معركة اليوم بوصفها عقيدة في النشاط المسلّح، متجذّرة ومتوارثة. وهي ممارسة نضاليّة تخلّد ذكرى المقاومين الشهداء وخطاهم في الكفاح، وما تبثه الفصائل الفلسطينية من مشاهد اشتباكهم مع قوات الاحتلال المتوغلة في غزّة، يُحيي ذاكرة هذا النمط من المقاومة ويكثّف حضور فعل التذكّر لكثيرٍ من أحداثها.
للتفصيل، يمكن أن ندرك فعل إحياء إرث “المسافة صفر” وإرث المقاومين في عمليات الالتحام المباشر التي تنشرها كتائب القسّام إن لاحظنا فيها التالي:
١- استنساخ نماذج مقاومات بطوليّة
تعود ثقافة الاشتباك المسلّح من المسافة صفر إلى مهندسها وأول مقاتليها، جنرال كتائب القسَّام؛ “عماد عقل”. صاحب العمليات النوعيّة التي أضفت للصفر قيمة في سلسلتها الممتدة من شمال غزّة إلى قلب الضفة الغربية ثمّ إلى غزة مرّة أخرى. ولد عقل في مخيم جباليا عام 1971، واستشهد في عملية اغتيال إسرائيلية، في الشجاعيّة عام 1993. وبعمرٍ لم يتعدى 22 عامًا وبمسيرة نضاليّة لم تتجاوز الثلاث سنوات (1990-1993)، أسس عقل لنظرية “المسافة صفر” ونفذ عشرات الاشتباكات مع جنود الاحتلال وفق إستراتيجية القتال هذه، ما دفع بالاحتلال إلى أنّ يجنّد كلّ إمكانياته المادية والعسكرية والاستخباراتية وعروض المكافآت مقابل الحصول على معلومات عنه والتخلص منه، فهو “الذي جعل أسمى أماني رابين أن يستيقظ فيرى البحر قد ابتلع غزَّة ليتخلَّص منها ومن عماد”(1) .
عام 1988 اعتقله الاحتلال بذريعة الانتماء لحركة “حماس” لمدة عام ونصف، ثم أُعيد اعتقاله عام 1990 لمدة شهر، حتّى”كان يوم الثُّلاثاء السَّابع والعشرين من شهر مارس عام 1990م يومًا لن ينساه الكيان الصُّهيوني على مرَّ تاريخه، فهو اليوم الذي خرج فيه عماد من السِّجن، وأقسم ألَّا تلمس أيدي الصَّهاينة جسمه إلَّا شهيدًا”(2). من هنا، بدء عقل عمله العسكري مع “كتائب القسّام” بعنوان “المسافة صفر”. ونفذ عمليات نوعية في قطاع غزّة، كشفت عن تطور العمل المقاوم والقدرة على الالتحام الميداني المباشر مع العدو. وعلى أثرها بدء الاحتلال بملاحقة عقل الذي أصبح لاحقًا الرقم”1″ في قائمة المطلوبين، فاضطر حينها للانتقال إلى الخليل، حيث بدء في تشكيل خلايا عسكرية تابعة لكتائب القسام وتنفيذ عملياتٍ نوعيّة، فعزز العمل المسلّح في الضفة الغربية، ونقل تجربة “المسافة صفر” في أسلوب المهاجمة الذي اعتمده في استهداف جنود الاحتلال ومركباتهم ومواقعهم العسكريّة. وعلى أثر هذا النشاط العسكري النوعيّ وتصاعد الهجمات، كثفت الاستخبارات الإسرائيلية جهودها للكشف عن المنفذين وملاحقتهم، وعليه قرر عقل العودة للقطاع ليكمل عمله المقاوم هناك ويشتبك ميدانيًّا مع العدو في عملياتٍ خلّدته في تاريخ النضال قائدًا شجاعًا و”أسطورةً” بوصف إسحاق رابين، وصاحب “الأرواح السَّبعة” لدى الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد أنّ سَخّر الاحتلال كل إمكانياته الأمنية والاستخباراتية لاغتيال عماد عقل، يتبين اليوم أنّه استهدف جسدًا فقط، وأنّ نظرية عقل تتجلى بوضوح في أرض قطاع غزّة، وفي مخيّمات الضفّة الغربيّة، وعند الحواجز الممتدة على كامل التراب الفلسطيني. أي أنّ نموذج عقل هو نموذج يستنسخه الفلسطينيّ اليوم في عمله الفردي المقاوم، كمثال عمليات الشهيدين “عدي التميمي وخيري علقم”. وفي السنوات الثلاث الأخيرة تحديدًا، يعاد إنتاج تجربة النقطة صفر في اشتباكات الكتائب والمجموعات المسلّحة بالضفة الغربية،خاصةً في مخيمات جنين ونابلس وطولكرم وأريحا.
أيضًا، تجدر الإشارة إلى أنّ الهيئة التي يظهر فيها الناطق الرسمي لكتائب القسام “أبو عبيدة” في الإعلام العسكري، في ما يوجهه من خطابات وبياناتٍ يركّز فيها على التصريح عن عمليات “المسافة صفر” بين المقاومة والجيش الإسرائيلي. تلك الهيئة لمقاوم لا يرى المشاهد منه سوى لثامٍ وسبابة، ويقلدها الكبير والصغير بعد أن اتخذوا من صاحبها رمزًا وأيقونةً للنضال، هي صورة عودة للملثم القسّامي الأول، فهي تتشابه إلى حدّ كبير مع أول وآخر ظهور إعلامي للقائد عماد عقل، في 8 نوفمبر 1993 قبل استشهاده بأيام. حين خرج ليوصل رسالته لأبناء شعبه وللكيان الصهيوني ولجنرالات العرب، وليقدم موجزًّا عن عمليات كتائب الشهيد عزّ الدّين القسّام، ويؤكد على أنهم يرفضون السلام وخيارهم مع الصهاينة هو العمل المسلّح (3).
بالتالي، يثبت الإعلام العسكري والحربي لفصائل المقاومة في ما يوثّقه اليوم من مشاهد للاشتباك من مسافته الصفريّة، أنّ سياسة إسرائيل في تفريغ حركات المقاومة من قياداتها بوصفهم المرجعية السياسية للتخطيط ورموزًا للمقاومة واستمرار النضال والكفاح المسلّح، هو أفشل هدف سياسي إسرائيلي؛ لأن اغتيال القادة يعظّم الثأر ويدفع بمقاوماتٍ متجددة، فأثبتت حماس وغيرها، منذ تأسيسها حتّى الآن، أن اغتيال القادة لم ينجح في تفكيك بنيتها لا القتاليّة ولا الفكريّة. وأنّ عماد عقل وأحمد ياسين، يحيى عياش، عدنان الغول، عبد العزيز الرنتيسي، محمد الزواري وغيرهم، ليسوا قيادات سياسية وعسكرية فقط. بل هم قيادات روحيّة للمقاومة وحركات التحرر، ورموز خالدة في ذاكرة الشعب الفلسطينيّ والحاضنة الغزّيّة والفلسطينيّة عمومًا، ومصدر إلهام لكثير من المقاومين الجدد. كما أنّ اغتيالهم و/أو استشهادهم في ساحات النضال نتج عنه بنادق وقذائف وصواريخ تدّك تل أبيب وتجهز على الجنود وآلياتهم وترسانتهم المحصنّة من المسافة صفر.
٢- إعادة إنتاج نماذج مقاومات مكانيّة
إنّ المشاهد التي تنشرها القسام لعملياتها التي تتركز في الشجاعية، حي الشيخ رضوان، جباليا، حي الزيتون، وشمال بيت لاهيا، قادرة كلّها على أن تحيي لنا ذاكرة المكان نفسه لعمليات تمت بنفس التكتيك القتالي (المسافة صفر) بقيادة وتنفيذ عماد عقل. فتعكس تلك المشاهد المنشورة عودة الحدث ضمن سياق عام طوّره وبنى عليه، وتثري للمشاهد العلاقة التي تربط هذه النماذج بماضيها. مثلًا، الشجاعية التي فيها نفذّ جنرال القسام عماد عقل عمليات أسفرت عن قتل جنود وإصابة آخرين، وفيها اغتيل بعد أنّ اشتبك حتّى الرصاصة الأخيرة، بعث منها اليوم جيل جديد يثأر له من حيث هو ثَأر؛من المسافة صفر. فبعد شهرين من القتال في المعركة البريّة، سحب الجيش الإسرائيلي اللواء “جولاني”، من قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي، من قطاع غزّة، بعد سقوط عشرات المقاتلين وإصابة العديد منهم في كمائن كتائب القسام.
أضف إليه، أنّ شمال غزّة الذي فيه ومنه صورت وتصوّر عمليات كثيرة للاشتباكات الصفريّة، هو ذاته المكان الذي شهد أول عملية مصورة في تاريخ الكفاح المسلح، نفذتها أيضًا كتائب القسام بقيادة عقل، عام 1993 بحي الزيتون. ما أثارته هذه العملية التي سميت بعملية (مسجد مصعب بن عمير) يتقاطع مع المعاني الكامنة في العمليات الحالية باختلاف حجم الدلالة؛ فهذه العملية التي قُتِلَ فيها ثلاثة جنود واستولى فيها المنفذ عقل على أسلحتهم، شكّلت أزمة لإسرائيل على الصعيدين؛ الأمني والاستخباراتي؛ حيث بقيت الجثث على الأرض وصوّرتها الصحافة قبل أنّ يعلم الاحتلال بالحادثة،”ليُصبح حديث السَّاعة بين النَّاس: “الذُّباب شبِع من جثث جنود الاحتلال”(4).
إنّ “هذه العمليَّة كانت سيلًا من فيضان الغضب القسَّاميِّ الذي ضخَّه القائد عماد عقل ورفاقه المجاهدون؛ الأمر الذي أرغم قائد القوَّات الصُّهيونيَّة “يوم توف سامية” على الاعتراف بكونها عمليَّةً معقَّدةً ومُحكمةً، وفضيحةً مُكتملةَ الأركان، فأنْ يأكل الذُّباب جثث الجنود المُدجَّجين بالسِّلاح في الجيش الأقوى في الشَّرق الأوسط!” وأنْ تصل التَّعزيزات العسكريَّة إلى المنطقة بعد ساعتين من تنفيذ العمليَّة، يعني ذلك نجاحًا استخباريًّا وعسكريًّا لكتائب القسَّام!”(5). وهذا ذاته ما أثبتته القسّام مجددًا في يوم العبور، في السابع من أكتوبر. أضف إلى ذلك، أنّ هذه العملية تمت قبل توقيع اتفاقية أوسلو بيومٍ واحد، ما يعني أنّ زمانيّة الاستهداف حملت رسالة مضمونها استمرار العمل المقاوم المسلّح ورفض التسويات.
من هنا، ومن حيث قدرة مشاهد الالتحام اليوم على استعادة إرث المكان وتنشيط فعل التذكّر، تكون “المسافة صفر” التي تكشف وهم الانتصارات الإسرائيلية في أرض المعركة البريّة، ممارسةً تخلّد تاريخ ومكان عمليات نوعيّة للكفاح المسلّح، وتكثّف رمزية المقاومة وتفكك سرديات جيش الاحتلال.
الصفر كموقع للمقاومة
تأسيسًا على كلِّ ما سبق، يمكن القول، أنّ جزءًا من فهم المسافة صفر وقيمتها وأثرها اليوم، يمكن أن يكون من خلال فهم تفاعل هذه العمليات مع سياقها التاريخي والثقافي والقيمي الوطني، ومقاربتها مع الذاكرة التي نمتلكها عن تاريخ عمليات المسافة صفر وتداعياتها على الحركة الصهيونية، لا سيما في إعاقة ممارسات سلطة الاستعمار وبنيته الساعية لطمس الهويات النضالية وتغييب أو نفي حركات التحرر والكفاح. هذا يدفعنا لملاحظة كيف أنّ لماضي الأحداث الواقعية سواء المحكيّة (مروية) أو المكتوبة من قبل الفاعلين أو الشاهدين؛ (أي التاريخ الشفوي والمكتوب لأعمال المقاومة ولجرائم الاحتلال) مساهمةٌ في تشكيل الأحداث اليوم وإنتاج الحاضر. بمعنى أنّ الرواية الفلسطينية هي رواية تحفظ وتتوارث، وتبني الكثير من مسارات النضال الفلسطيني، ما يعني أنّ لهذا التاريخ قيمة ثورية، وطنية، وتنشيئية تحررية من شأنها التأسيس لحركات وأنماط وأفعال مقاومة.
بالتالي، تكون إستراتيجية المسافة صفر ممارسةً تتصدى لسياسات العدو في محو الذاكرة الفلسطينية وتعطي معرفة عن تاريخ الهيمنة والعنف الاستعماري ودور الأفراد والجماعات في مقاومتها؛ حيث أنّ في ارتباطها بالقائد الشهيد عماد عقل تخليدٌ لإرث تلك الفترة الزمنية وإحياءٌ لقيمها. كما أنُها لا زالت تجذر الرفض للواقع الاجتماعي والسياسي في ظلّ الاستعمار. أضف إلى ذلك، أنّ التفاعل الشعبي الكبير مع مشاهد هذه العمليات يكشف أنّها فعل المقاومة الأكثر رغبوية لديهم؛ فيتبين أنّها ممارسةٌ تبني نقيض ما تحاول إسرائيل الترويج له، فتتحدّى الخطاب المهيمن وتدحض الكثير من المفاهيم السائدة بعد أوسلو، فتكون تعبيرًا عن عنفوان المقاومة الذي تحاول الحلول السلمية تغيبه وتهميش روح وتاريخ النضال الفلسطيني.
وعليه، قد تكفي معرفتنا عن دموية هذا الاستعمار وممارساته الإحلالية إلى جانب المعرفة بشكل المستقبل الفلسطيني في واقع التطبيع وتهميش القضية الفلسطينية، في أنّ تجعل من المسافة صفر مستقبلاً لآلية المقاومة وكيفية مواجهة الاحتلال وممارساته، لا سيما أنّ الحاضر يشهد أبشع ما يمكن أن تفعله آلة الحرب والقتل الاستعماري؛ وهذا كفيلٌ بأنّ يدفع بظهور مقاومين وتشكيل نماذج من العمل العسكري/المسلّح يكثّف حالة المقاومة من مسافتها الصفرّية، كما كان لإرث شهداء النكبة والمجازر والانتفاضات وسيرتهم النضالية مساهمةً في شكل حالات الاشتباكات الراهنة.
المراجع
-
الإعلام العسكري لكتائب القسام: قسم التاريخ العسكري، مهندس المسافة صفر: السيرة الجهادية للشهيد القائد عماد حسن عقل، (غزّة: الهيئة العامة للشباب والثقافة،2022)، ص194
-
المرجع السابق،ص40
-
المرجع نفسه، ص175-176
-
المرجع نفسه، ص170
-
المرجع نفسه، ص172