استعادة المساحات الخضراء وإعادة طرحها ضمن إطار فني وبيئي بات يبلور رؤية التنوع البيولوجي في لبنان، حتى عندما كان التركيز على الفن كوسيلة لشرح التغير المناخي وفهمنا لأنفسنا في عالم لا يدرك عمق علاقته مع الطبيعة، باتت سياقات المهرجانات في العالم بشكل عام وفي لبنان تحديداً، تعيد بناء هذا الشرح من خلال إنتاج علاقات جديدة مع الغابة والبيئة والمساحات الخضراء وما تحويه من تنوع بيولوجي، حتى ولبنان يخوض أسئلته المعقدة في السياسية والمجتمع والاقتصاد، إلا أن أسئلة البيئة وعلاقتها بالمجتمع كانت أكثر وضوحاً، خاصة أن لبنان يعد موطناً للتنوع البيولوجي الإنساني الاستثنائي، ولكن هذا التنوع مهدد باستمرار، ورغم العلاقات التي استطاع المجتمع اللبناني بناءها مع المساحات البيئية،إلا أن السنوات الأخيرة كانت أكثر تهديداً، بسبب الحرائق المفتعلة، والصيد الجائر، وسيطرة القطاع الخاص على الممتلكات المشتركة، أو تملص الحكومة والبلديات من مسؤولياتهم الخدمية التي باتت تؤثر بشكل مباشر على النظام البيئي.
كانت أسئلة مهرجان ريف لهذا العام في دورته السادسة الذي انطلق في 26 تموز/يوليو حتى 28 من ذات الشهر أكثر تفصيلاً، حيث منذ الدورة الأولى للمهرجان حاول أن يبني جيلاً يستطيع فهم انتمائه للطبيعة، وبناء علاقة معها لا ليحميها فقط، بل ليستفيد منها أيضاً، ويواجه المخاطر التي تهددها. في النسخة التي انطلقت هذا العام من الشمال اللبناني منطقة عكار تحديداً في بلدة القبيات، استطاع المهرجان مجدداً تقديم شرح معمق للثقافة الريفية والتراث الطبيعي والسينما البيئية الريفية، لا بكونها رفاهية، خاصة في ثيمة هذا العام التي حرصت على التنوع البشري والبيولوجي، خارجاً من مركزية المدن اللبنانية الرئيسية ذاهباً إلى عمق المناطق الريفية، التي ما تزال أسئلتها البيئية والمجتمعية بدون أجوبة حول طبيعة استمرارها وسبل المحافظة عليها، خاصة أن الجنوب اللبناني حالياً يعاني بيئياً بسبب قصف الاحتلال الصهيوني للأراضي الزراعية ومحيط المناطق السكنية والتاريخية بمواد كيميائية، وبالإضافة للإبادة البيئية التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين التي نوه لها المهرجان.
إن الرؤية الفنية للمهرجان ضمن سياق إبداعي بيئي استطاع أن يجمع بين السينما والطبيعة، جمع المهرجان صناع الأفلام وخبراء البيئة تحت عنوان “التنوع البيولوجي والسينما” لإنشاء أفلام وثائقية حول التنوع البيولوجي، ضم المشروع 22 مخرجاً وعالماً بيئياً، بتنفيذ من بيت الفنان-حمانا وريف وأفلامنا، الذين قدموا 8 أفلام بيئية والتي جاءت نتيجة للعديد من الجولات البيئية ضمن مناطق مختلفة من لبنان، ليشمل النباتات، شجر اللزاب وحيوانات الغابات اللبنانية الآيلة للانقراض، لتكون الرؤية الفنية للأرض وعلاقتها مع نفسها ومع أهلها أكثر تجذراً في شرح السياق التاريخي، ورؤية الحاضر، وقدرة الأرض على الاستدامة، وحدود البحث عن سبل تمكين ما تبقى من طبيعة لبنان.
عرض سيرة وردة في فيلم، يدفعنا لتخيل لحظة فارقة في سيرة بلد رمزه الوطني شجرة، وهويته تكدس هذا المعطى الذي بات هامشياً، مثل أفلام “شجرة الجحيم” لرائد زينو، وفيلم “منثور بيروت” لفرح ف.نابسلي، التي تروي سيرة وردة على أطراف مدينة بيروت قرب الساحل، التي تعيد اكتشاف البيئة البحرية البرية، ورؤيتنا ضمن منظور أعمق يعيد تشكيل النمط البيئي لمساحات بيروت ونباتاتها، وفيلم “ذاكرة بشجرة” للمخرج وسيم طانيوس وهذا ما يشكل رؤية جديدة في علاقة المخرجين مع علماء البيئية، الذي شكل تعاونهم عمق سيرة الهامش الأخضر لا من وجهة نظر المدينة المدينة بل وجهة نظرة أهلها أيضاً.
كما ضم المهرجان للسنة السادسة على التوالي مسابقة الأفلام القصيرة الدولية، بمشاركة أفلام من إيطاليا وفرنسا وسوريا وتونس، بمشاركة 8 أفلام قصيرة من حول العالم تم عرضها في المهرجان، منها أنا يا بحرُ منك لفيروز سرحال، رماد لأوسكار لوكو، موسم لحسين إبراهيم، البحر الذهبي لإريك سيماشكن، يوم انتقام الطبيعة لكيم الياس مجدلاني، شياوهوي وبقرته لشين يينغ لاو، كانديلا لنادية رئيس، النور والغبار لسامي عماد فرح، التي سوف تخضع لتصويت الجمهور وسفراء ريف، بالإضافة إلى لجنة الخبراء التي تضم سولاي غربيّة، مديرة المنح في الصندوق العربي للثقافة والفنون (AFAC)، صانعة الأفلام ميشيل كسرواني، الممثلة والمخرجة بيتي توتل، المهندس الزراعي مارك بيروتي، والأستاذ الجامعي المختص بتطوير البنية التحتية كارلوس نفاع.
في ختام مهرجان ريف، تم عرض ما يقارب 21 فيلماً على مدار 3 أيام، بالإضافة للأفلام الخارجية التي ركزت على قضايا محلية وعربية، والتي كان أبرزها فيلم “حكاية الجواهر الثلاثة” للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، كما ضم معرضين؛ الأول من تنظيم المعهد الفرنسي الذي ضم 25 صورة رمزية لأنواع الطيور المهاجرة والنظم البيئية الطبيعية، والثاني هو “من حبر على ورق إلى فعل: استخدام فن القصص المصوّرة لإنقاذ الكوكب” معرض رقمي من إنتاج مهرجان بحيرات الدولي لفن الكوميكس (LICAF) والمجلس الثقافي البريطاني – منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. من خلال القصص المصوّرة، يستكشف فنانون من لبنان والعالم العربي تحديات أزمة المناخ والتهديدات البيئية، والذي جمع مع نهاية المهرجان مبلغاً مالياً لترميم برج مراقبة القبيات لمنع حرائق الغابات من الانتشار.
استعاد مهرجان ريف في يومه الثاني والأخير أسئلته البيئية، وحاول أن يضيء على علاقة السياسة بالاقتصاد بالبيئة، كما اكتشف أكثر من أي وقت مضى بمحاضرة التنوع البشري والبيولوجي تحت التهديد، التي تناول فيها التهديدات التي يواجهها جنوب لبنان، والتي جرى فيها مقارنة مخاطر تسييس الهوية في المجتمعات المتنوعة بشكل كبير والتهديدات التي يتعرض لها بسبب التدمير الواسع خاصة المناطق الزراعية، واستكشاف إمكانيات التعافي، التي شارك بها ما يقارب 200 شخص وقدمها المهندس المعماري رالف ضاهر، والناشط البيئي هادي عواضه، والباحث البيئي عباس بعلبكي.
بينما ذهبت جائزة لجنة تحكيم المهرجان إلى فيلم “شجرة الجحيم” لرائد زينو، لقدرته على إظهار التوازي بين الطبيعة وسياسات الاستيطان، وطبيعة غزو هذا النوع من الشجر وكيف يذكرنا بالاستعمار وسبل الاستيطان السياسي والعسكري للأراضي، والتي قال عنها رائد زينو “لا يمكننا الفصل بين القضايا البيئية والسياسية، فالتغيرات المناخية التي نشهدها هي نتيجة سياسات الإنسان، لقد تناول الفيلم موضوع الغزو الاحتلال ومزج بين الجانب العسكري المتمثل بالاحتلال الإسرائيلي، والجانب البيئي المتمثل بغزو الشجرة للتنوع البيولوجي، كلاهما يهددان البيئة والتنوع البشري في شرق المتوسط عموماً، ومنها لبنان”.
كما ذهبت جائزة الأفلام الدولية القصيرة لفيلم “موسم” للمخرج حسين ابراهيم، الذي يحاكي تجربة شخصية للعديد من رجال في لبنان، الذين أجبروا في طفولتهم على إثبات رجولتهم من خلال ممارسة صيد الطيور، والذي قال عنه المخرج “يعكس الفيلم نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في أوائل التسعينيات التي لم تجلب ضمانة حقيقية للسلام. كان لا بد من دفن ذكريات الحرب، وكان لا بد من توجيه الغضب المتراكم إلى مكان آخر، وغالبًا ما كان ذلك يشكل الطريقة التي تربى عليها الأطفال ليكونوا أقوياء وقادرين على القتال. لا يزال جيلي يشهد آثار الحرب. وما زال الصراع على السلطة والجشع والافتتان بالأسلحة يجر بلادنا إلى أسفل. شكراً لريف ولجنة تحكيمه على تقديرهم لعملنا. تشجعنا هذه الجائزة على مواصلة سرد هذه القصص المهمة.”
بمشاركة 3000 شخص على مدار لقاءات ريف لعام 2024، قدم المهرجان لنا رؤية أكثر تجذراً مع الأرض، بل استعاد قدرة الأرض على ربط ما هو سياسي بالاقتصاد ضمن عالم هش، هذه الهشاشة بما فيها المأزق الاجتماعي والسياسي الراهن نرى لبنان وهو يبني رؤيته من الهامش المرهون إلى تجاهل مستمر، ليكون السؤال الدائم مدى قدرة لبنان على استغلال هذه التنوع البيولوجي والبيئي والبشري وقدرته على بناء خطاب بيئي اجتماعي سياسي قادر على استعادة ما يميزه بيئياً وإنسانياً.