فيلم للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار، في أي مهرجان سينمائي، هو بحد ذاته حدث أساسي للمهرجان، وألمودوفار، بخلاف الكثيرين، سينمائي يبني على تراكماته، فتكون أفلامه الأخيرة، أو كل فيلم تالٍ، مرحلة متقدمة في النضج لا متأخرة، وإن وصل النضج في موضوعه، اليوم، إلى مسألة الموت.
الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية للموسترا، “الغرفة المجاورة” (The Room Next Door) والمستحق للأسد الذهبي قبل غيره من جوائز المهرجان إلى حينه، وبأداء منفرد لكل من تيلدا سوينتون وجوليان مور، الفيلم حالة خاصة لمخرج فريد أراد أن يطارح الموتَ في أحد أكثر أعماله ميلانكولية، كي لا أقول سوداوية.
الفيلم مغناة للموت، وهو كذلك مرثية للصداقة. من المشاهد الأولى حتى الأخيرة، لوّن ألمودوفار حضور الموت، خلع عنه سواده، وكان الموت الحائم في الحوارات الممتدة على طول الفيلم بين شخصيتيه، حيوياً، جميلاً، رقيقاً، ومنتظَراً لا في كونه ألماً ونحيباً، بل رغبة وراحة.
يحكي الفيلم عن صديقتين، تلتقيان بعد انقطاع لسنين، تبقيان معاً كأنّهما كانتا دائماً كذلك، الأولى مصابة بالسرطان وتقرر أنها بانتحارها لن ينال منها المرض، لن تنتظره خائفة متوترة، والثانية تبقى معها وترافقها في تحقيق تلك الرغبة، في تلوينها. الأولى مراسلة حربية والأخيرة كاتبة.
هو الفيلم الطويل الأول لألمودوفار بالإنكليزية، بعد تجربة فيلمين قصيرين أحدهما مع سونيتون، بالإنكليزية. ولا تفرق اللغة هنا، يمكن لأحدنا تخيل الفيلم تماماً بالإسبانية، سطوة المخرج في هويته البصرية والسردية حاضرة، وهي استثنائية، وقد وصل ألمودوفار بسينماه ليتعدى الاسم المنسوب له إلى الصفة المنسوبة لأفلامه ومنها لغيرها في الفنون، فنقول هذا الفيلم ألمودوفاريّ وتلك اللوحة ألمودوفارية. لم تكن لغة الفيلم لا في صالحه ولا في غيرها. كان الفيلم ألمودوفارياً تاماً وحسب.
المخرج المحتفي بالحياة في عموم أفلامه، بمتعها ولذّاتها، استحضر الموتَ هنا لا ليهادنه، بل ليروّضعه، ليحيل الطريق إليه منبعاً لمتعة هنا ولذة هناك، واطمئنان الأصدقاء لبعضهم البعض. تغلب ألمودوفار على الموت في الفيلم، أو تغلبت شخصياته عليه. لا مصالحة مع الموت هنا بل إعادة تصوير وتعريف، وتلوين. وذلك من خلال صداقة المرأتين المتخطية للموت كحالة فراق.
كنت متخوفاً من فيلم بالإنكليزية لألمودوفار، وإن من بعد القصيرين الممتازين، وكنت من بعدها متخوفاً من نيله جائزة أولى اليوم، وهو لم ينل أياً من الجوائز الكبرى (السعفة والأسد والدب الذهبية) وإن نال جوائز منها واحدة فخرية عن مجمل أعماله ستكون هذا الشهر في مهرجان سان سيباستيان السينمائي. كنت متخوفاً لأن ينال واحدة تكون لأول فيلم بالإنكليزية له، لا الإسبانية. لكن التخوف هذا تلاشى باكراً في الفيلم، لألمودوفاريته، لسطوة اللغة السينمائية للمخرج على لغة السيناريو للفيلم. بالكاد انتبه أحدنا إلى أن اللغة هنا لم تكن إسبانية. هذا الاستثناء الإنساني العابر بالجماليات للغات نستطيع تلمسه اليوم أكثر، بالعودة إلى الأفلام إسبانية اللغة للمخرج.
عالمية الموت، كآلام، توازت هنا مع عالمية الألمودوفارية، كجماليات. الإنسانية توازت مع السينما في هذا الفيلم.