سمر يزبك
بطلة الرواية هي طفلة في بدايات اكتشافها لأنوثتها، مثلما كانت الثورة طفلة بالمعنى السياسي، وهذه الطفلة لم تكن قادرة على الكلام، فالجميع يعتبرها مختلة، مع أنها تملك بداخلها عالماً حياً، ومخيلة خلاقة، جعلتها تعيش في متعة اكتشافاتها الصغيرة، لفترة طويلة من حياتها قبل أن تبدأ الخسارات المتتالية، والتي ستقودها إلى الموت جوعاً في قبو يقبع في دوما، ضاحية دمشق التي لم يبق منها سوى الخراب.
دخلت الروائية السورية سمر يزبك في كتابها الأول عن الثورة والذي سمته «تقاطع نيران»، منطقة النار بكل ثبات ووعي لهذا الدخول، دخلت المرحلة الأولى للثورة السورية، التي أرشفتها ووثقتها حين وثقت مشاهداتها وتجربتها بشهادات الناشطين في الأشهر الأولى من الثورة، التي عرفتها وسمعتها شخصياً محاوِلة توثيق هذه الثوابت وهذه الملاحم الإنسانية ضمن نقل صادق وعفوي لهذه الشهادات، لذا فقد جاء كتاباً أشبه بالأفلام الوثائقية، وأبعد ما يكون عن حالة الرواية.
وفي عملها الثاني، «الدخول إلى بوابات العدم»، قدمت حالة أخرى عن سرقة أحلام النشطاء والثوار السلميين السوريين، وعن دخول الثورة في مرحلة خطيرة جداً هي أشبه بالدخول في بوابات العدم، وهي المرحلة التي ظهرت فيها مجموعات تحمل الفكر السلفي وتحول كل الثورة إلى أبعاد دينية ضيقة وتقتل مفهوم الثورة في نفسها.
اليوم تأتي سمر يزبك بأول عمل لها يحمل صفات الرواية الكاملة منذ بدايات الثورة السورية، وتطلق عليه عنوان «المشاءة» (دار الآداب، 2017) وفيه اختصار كبير لثورة كان عليها دائماً أن تمشي وأن تفقد ناسها، وروحها، في مشيتها التي لا تتوقف.
بطلة الرواية هي طفلة في بدايات اكتشافها لأنوثتها، مثلما كانت الثورة طفلة بالمعنى السياسي، وهذه الطفلة لم تكن قادرة على الكلام، فالجميع يعتبرها مختلة، مع أنها تملك بداخلها عالماً حياً، ومخيلة خلاقة، جعلتها تعيش في متعة اكتشافاتها الصغيرة، لفترة طويلة من حياتها قبل أن تبدأ الخسارات المتتالية، والتي ستقودها إلى الموت جوعاً في قبو يقبع في دوما، ضاحية دمشق التي لم يبق منها سوى الخراب.
الطفلة البطلة في «المشاءة» تشابه بطل الفيلم العالمي «فورست غامب» حيث البطل الذي يركض، ثم يركض، ليكون الركض هو المعنى الحقيقي الوحيد في حياة ذاك الشاب الطيب والبسيط، وهذا ما حاولت سمر يزبك أن تجسده في شخصية بطلتها ريم التي منذ ولدت انتصبت ومشت دون أن تدرك أو تعي اتجاه مشيها، لكنها كانت تريد حرية المشي التي دفعت ثمنها قيداً دائماً في معصمها يربطها بأمها، الفقيرة الكادحة، ويجعلها لا تذهب للمدرسة لأنها لم ترد أن تحرك عضلات لسانها، لكنها ولحظها، التقت بأمينة المكتبة التي كانت أمها تتركها عندها ريثما تنهي تنظيف باقي أقسام المدرسة، وقد شفقت أمينة المكتبة على الطفلة الخرساء فعلّمتها القراءة والرسم، وهكذا قرأت ريم حكايا تحولت في داخلها إلى كواكب سرية، وصارت مثل الثورة السورية، ترى العالم كله من خلال كواكبها أو أحلامها هذه.
يستمر ذلك إلى أن يأتي يوم وتكون ريم مع والدتها على أحد الحواجز الذي اعتقل شاباً وبدأ بضربه فقط لأنه من إحدى مدن ريف دمشق الثائرة، وحينها تفلت ريم من قيد أمها فستجيب فوراً لرغبتها العميقة في المشي، وينده عليها ضباط الحاجز أن تتوقف، لكنها لا تسمع، وتكمل مشيها، فيطلقون عليها الرصاصات التي اخترقت جسد أمها حين حاولت حمايتها، وهكذا تنطفئ الدنيا وتختفي الأم دون أن تعي ريم شيئاً، ومثلها مثل الثورة السورية التي حاولت فقط أن تتحرر وتمشي، أصبحت يتيمة ووحيدة، وفي استمرار التماهي بين الثورة والطفلة البطلة، يأخذ ريمَ أخوها الوحيد الذي يكبرها إلى "زملكا" في ريف دمشق وينضم هو إلى الجيش الحر، وهنا نتعرف على وجه جديد للحياة، وللموت، فطائرات النظام تحصد كل شيء، وريما باتت تفهم أن الأصوات التي تسمعها الناس في قلب العاصمة، تموت فيها الناس هنا، وفيها أيضا رأت ريم مجتمعاً غريباً يستم بالانغلاق والتطرف الديني، رأت مزيجاً من الأحمر الذي يملأ كل شبر، والأسود الذي يغطي الأفق، وتستمر الرواية إلى أن يصل اليوم الذي تشم فيه ريم رائحة واخزة تشبه رائحة الكبريت، وتجرب ريم مثلها مثل الثورة، طعم الكيماوي الذي نجت منه بأعجوبة، لكنها شاهدت أخريات متن لأن الرجال المسعفين لم يقبلوا أن ينزعوا عن أجسادهن الملابس التي علق الغاز بها، وذلك على حسب ما قالوا، “لأنه حرام“.
من الكيماوي تنجو ريم، لكن أخاها يختفي مثل أمها، ويوصي بها صديقه حسن في الجيش الحر، الذي يضع ريم في قبو تحت الأرض مع تفاحة يابسة، لتبقى ريم التي تقترب كل يوم من الموت جوعاً، تحلم بهذا الشاب كأول رجل يدخل أول أحلامها السرية الأنثوية.
بلغة رشيقة، وبقدرة على دخول عالم الطفولة والوعي، تقدم لنا سمر يزبك روايتها، وتترك فينا طفلة مقيدة ومكبلة، طفلة حالمة وخرساء، يتيمة وجائعة ووحيدة، تترك فينا ثورة رائعة، وقد حكم كل العالم عليها بالتوقف عن المشي.
وفي عملها الثاني، «الدخول إلى بوابات العدم»، قدمت حالة أخرى عن سرقة أحلام النشطاء والثوار السلميين السوريين، وعن دخول الثورة في مرحلة خطيرة جداً هي أشبه بالدخول في بوابات العدم، وهي المرحلة التي ظهرت فيها مجموعات تحمل الفكر السلفي وتحول كل الثورة إلى أبعاد دينية ضيقة وتقتل مفهوم الثورة في نفسها.
اليوم تأتي سمر يزبك بأول عمل لها يحمل صفات الرواية الكاملة منذ بدايات الثورة السورية، وتطلق عليه عنوان «المشاءة» (دار الآداب، 2017) وفيه اختصار كبير لثورة كان عليها دائماً أن تمشي وأن تفقد ناسها، وروحها، في مشيتها التي لا تتوقف.
بطلة الرواية هي طفلة في بدايات اكتشافها لأنوثتها، مثلما كانت الثورة طفلة بالمعنى السياسي، وهذه الطفلة لم تكن قادرة على الكلام، فالجميع يعتبرها مختلة، مع أنها تملك بداخلها عالماً حياً، ومخيلة خلاقة، جعلتها تعيش في متعة اكتشافاتها الصغيرة، لفترة طويلة من حياتها قبل أن تبدأ الخسارات المتتالية، والتي ستقودها إلى الموت جوعاً في قبو يقبع في دوما، ضاحية دمشق التي لم يبق منها سوى الخراب.
الطفلة البطلة في «المشاءة» تشابه بطل الفيلم العالمي «فورست غامب» حيث البطل الذي يركض، ثم يركض، ليكون الركض هو المعنى الحقيقي الوحيد في حياة ذاك الشاب الطيب والبسيط، وهذا ما حاولت سمر يزبك أن تجسده في شخصية بطلتها ريم التي منذ ولدت انتصبت ومشت دون أن تدرك أو تعي اتجاه مشيها، لكنها كانت تريد حرية المشي التي دفعت ثمنها قيداً دائماً في معصمها يربطها بأمها، الفقيرة الكادحة، ويجعلها لا تذهب للمدرسة لأنها لم ترد أن تحرك عضلات لسانها، لكنها ولحظها، التقت بأمينة المكتبة التي كانت أمها تتركها عندها ريثما تنهي تنظيف باقي أقسام المدرسة، وقد شفقت أمينة المكتبة على الطفلة الخرساء فعلّمتها القراءة والرسم، وهكذا قرأت ريم حكايا تحولت في داخلها إلى كواكب سرية، وصارت مثل الثورة السورية، ترى العالم كله من خلال كواكبها أو أحلامها هذه.
يستمر ذلك إلى أن يأتي يوم وتكون ريم مع والدتها على أحد الحواجز الذي اعتقل شاباً وبدأ بضربه فقط لأنه من إحدى مدن ريف دمشق الثائرة، وحينها تفلت ريم من قيد أمها فستجيب فوراً لرغبتها العميقة في المشي، وينده عليها ضباط الحاجز أن تتوقف، لكنها لا تسمع، وتكمل مشيها، فيطلقون عليها الرصاصات التي اخترقت جسد أمها حين حاولت حمايتها، وهكذا تنطفئ الدنيا وتختفي الأم دون أن تعي ريم شيئاً، ومثلها مثل الثورة السورية التي حاولت فقط أن تتحرر وتمشي، أصبحت يتيمة ووحيدة، وفي استمرار التماهي بين الثورة والطفلة البطلة، يأخذ ريمَ أخوها الوحيد الذي يكبرها إلى "زملكا" في ريف دمشق وينضم هو إلى الجيش الحر، وهنا نتعرف على وجه جديد للحياة، وللموت، فطائرات النظام تحصد كل شيء، وريما باتت تفهم أن الأصوات التي تسمعها الناس في قلب العاصمة، تموت فيها الناس هنا، وفيها أيضا رأت ريم مجتمعاً غريباً يستم بالانغلاق والتطرف الديني، رأت مزيجاً من الأحمر الذي يملأ كل شبر، والأسود الذي يغطي الأفق، وتستمر الرواية إلى أن يصل اليوم الذي تشم فيه ريم رائحة واخزة تشبه رائحة الكبريت، وتجرب ريم مثلها مثل الثورة، طعم الكيماوي الذي نجت منه بأعجوبة، لكنها شاهدت أخريات متن لأن الرجال المسعفين لم يقبلوا أن ينزعوا عن أجسادهن الملابس التي علق الغاز بها، وذلك على حسب ما قالوا، “لأنه حرام“.
من الكيماوي تنجو ريم، لكن أخاها يختفي مثل أمها، ويوصي بها صديقه حسن في الجيش الحر، الذي يضع ريم في قبو تحت الأرض مع تفاحة يابسة، لتبقى ريم التي تقترب كل يوم من الموت جوعاً، تحلم بهذا الشاب كأول رجل يدخل أول أحلامها السرية الأنثوية.
بلغة رشيقة، وبقدرة على دخول عالم الطفولة والوعي، تقدم لنا سمر يزبك روايتها، وتترك فينا طفلة مقيدة ومكبلة، طفلة حالمة وخرساء، يتيمة وجائعة ووحيدة، تترك فينا ثورة رائعة، وقد حكم كل العالم عليها بالتوقف عن المشي.