تبدو طاقة الكلام هائلة لدى حبيبي، وربما كانت أكبر من أن تسعها الكتابة فتفتّتتْ معها الأخيرةُ وتذرذرت في نصوص قصار وأفكار متطايرة، رغم حديثه الدائم عن ضرورة ولادة الكتابة من اختمار التجربة. حماسته، ونارية طباعه الملاحظة في المقابلات، تولّدان انطباعاً بالاستعجال. كان الحكّاء أعظم من الكاتب بما لا يقاس، اعتمد نبرات تتباين وتهذي أحياناً وقد تحوّل عمله الأدبي إلى رواية تعليمية، إذ سرعان ما ينضب خزين الكاتب من التجارب والذكريات فلا تسعفه مخيلته حين تستعصي الكتابة.
بيت الحطيئة
إميل حبيبي حكواتي كتب متواليات صحفية متقطّعة، تفرّقت أجزاؤها والتأمت في كتب قليلة. حكاياته مقالات توالدتْ من التجارب والمحن في "مدرسة الحياة" حيث تصعلك الكاتب وتمرّد وآمن وارتدّ، وشرع بالكتابة من دون معلّمين ومن دون احتياج إلى سعة الاطلاع. محتويات كتبه مبعثرة، شوّشتها هيجانات التاريخ العربي المعاصر ونوائبه، مثلما شتّتتْ كاتبها وكثيراً ما دفعتْ بسرده إلى "اللغة الشعرية" و"الشطحات"، فسمّى اندفاعاته "انطلاق العقل الباطن" في "تيار اللاوعي"، والأرجح أنه لم يصطد في هذا التيار الأدبيّ إلا دارج المفارقات.
وإذا ما شُبّهت أعماله الأدبية بالمرايا المنصوبة أمام التاريخ والواقع والذات، فلعلها أقرب إلى "مرآة المجانين" لدى غ. ك. تشسترتن، حيث يكتشف الراوي أن كل الوجوه المقلوبة في منامه الطويل ليست إلا وجهه. هكذا، رواة إميل حبيبي وشخصياته ليسوا أحداً سواه. كل الذين أظهرهم بكلماته ظلّوا محكومين بالنقصان، ربما لأن بخار الشعارات والمقولات الكبرى وكثيراً من الضباب اللفظي-الغنائي غطّى سطوح هذه المرايا.
غير مرة، أصرّ إميل حبيبي على "الصدق" بوصفه الطريق الأصعب والمعيار الأوحد في الكتابة، ولعله عثر في الصدق والبساطة على ذريعة وتبرير أسلوبيين أيضاً. ذكر إنه يشبِه الشعراءَ "بتفريجه عن الكرب في عمل أدبي"، وغير مرة أشار إلى «رسالة الغفران» بوصفها نصّاً هزلياً. يذكر المعرّي إن بيت الحطيئة يقع في أقصى الجنة، و"فيه رجلٌ ليس عليه نورُ سكّان الجنة، وعنده شجرةٌ قميئة ثمرُها ليس بزاكٍ". لربما استملح حبيبي كلمة "زاكٍ" هذه لتصاديها مع المحكية الفلسطينية التي طعّم بها أعماله وذاد عن دورها في الأدب ما استطاع، ولربما وجد فيها مسوّغاً جديداً لسخريته التي لم يصوّبها على نفسه إلا لماماً وبشيء من المضض. يستغرب المعرّي وجود هجّاء كالحطيئة في الجنة، لم يسلمْ من لسانه أحد حتى أمّه، فيسأله: ""بمَ وصلتَ إلى الشفاعة؟" فيقول" بالصدق"". الصدق لدى الحطيئة ماثل في بيتين من الشعر هجا فيهما نفسه، بهما نال المغفرة.
عذاب الضاحك في مأتم
وصف إميل حبيبي السخريةَ بأنها سلاحٌ لمقاومة الضعف وتعبير عن المأساة تداعب به الروح الفواجع والنكبات. كتبه زاخرةٌ باللفتات اللمّاحة. نجد لنهجه الساخر هذا ديمومة وظلالاً وأصداء في الأدب الفلسطيني الراهن، لدى محمود شقير في "صورة شاكيرا" مثلاً أو علاء حليحل في "كارلا بروني عشيقتي السرية"، ولعلّ الأصداء نفسها تناهت إلى كتاب ساخرين في سورية والأردن، كمحمد طمّليه. سخرية حبيبي هي فكاهة الصحافة، مسخرة المضحك المبكي، وشخصياته مطايا الولع بالمفارقات. لا نكاد نلمس العفوية التي لطالما نادى بها ونشدها مؤلف النقائض أو ملتقطها، المتمسك بمذهب "الصدق المنفلت" في الكتابة، إذ كيف يمكن لمن ينادي بتوخّي الصدق ألا يقع في فخاخ التلقين والموعظة؟ في جنوحه الدائم إلى تلخيص ما لا يُلخّص، كان يوازن المواضيع الشائكة بمقابلاتها من الطرائف لتستقيم معادلة الأضداد التي تتصارع وتتكامل. كان لا بد من خفّة الدم، لا بد من ضحك أسود لتحلّق على ارتفاع منخفض القضايا الثقيلة المحمّلة بالآلام.
مقامات الشيوعي ّوشيخوخة شهرزاد
استلهم حبيبي «كليلة ودمنة» و«مروج الذهب»، وعلى الأخص «الساق على الساق في ما هو الفارياق» والمقامات. «سرايا بنت الغول» حكاية حب ضائع يسترجعها عاشق هرِم، يتصدرها هذا المأثور الشعبي "سرايا يا بنت الغول، دلّي لي شعرك لأطول". كتب حبيبي عمله هذا في سنيّه الأخيرة، وسماه "خرافية"، وهي في فلسطين الحديث المستملَح المهجّن بالأساطير ويرويه المسنّون عادة. كاتبنا الشيخ استوفى الشروط، غير نادم ندمَ بعض المناضلين الشيوعيين على ما فوّتوه من سِنِيّ شبابهم وتضحيتهم بمواهبهم. عاود من جديد خلط الفصحى بالمحكية، وطعّم النصوص بالحكم والخواطر والعِبر والذكريات الشخصية وأشعار ابن الفارض وأكثر من الاستشهادات.
تبدو طاقة الكلام هائلة لدى حبيبي، وربما كانت أكبر من أن تسعها الكتابة فتفتّتتْ معها الأخيرةُ وتذرذرت في نصوص قصار وأفكار متطايرة، رغم حديثه الدائم عن ضرورة ولادة الكتابة من اختمار التجربة. حماسته، ونارية طباعه الملاحظة في المقابلات، تولّدان انطباعاً بالاستعجال. كان الحكّاء أعظم من الكاتب بما لا يقاس، اعتمد نبرات تتباين وتهذي أحياناً وقد تحوّل عمله الأدبي إلى رواية تعليمية، إذ سرعان ما ينضب خزين الكاتب من التجارب والذكريات فلا تسعفه مخيلته حين تستعصي الكتابة. الهوامش "العجيبة" التي أثقل بها حواشي صفحاته تكشف وجهاً تبسيطياً، فأثناء عبوره من عالم المشافهة إلى عالم التدوين انهمك بالكثير من الأمثلة التوضيحية والإسقاطات السياسية والشروحات وغرائب الحواشي المخيّبة، كأن تجده يشرح "غزل البنات" أو "رحلة ابن جبير" بالتواريخ والأرقام. كانت تلك الحقبة الأدبية، بعد صدور «المتشائل» وما تلاها، ضاجّةً برواج المعادل الرمزي والمعادل الموضوعي في تأويل الأدب، ولم يكن العجائبي إلا ذريعة سياسية غالباً، ولهذا لا يستغرب أن تصادف في أدب حبيبي شخصية متيقّظة اسمها "سرحانة"، ولا تفسير تشتّت البنية الروائية لديه بالشتات الفلسطيني، ولا الربط بين الهوامش والتهميش، ولا كتابة جملة من هذا القبيل: "رحتُ أنبش جبال النسيان محاولاً، قدر طاقتي، الإيغال في أغوار الذاكرة". لا ننسى طموحَ جوناثان سويفت إلى هجاء الإنسان في «رحلات غوليفر»، ثم انتهاءَه بتأليف كتاب اعتبرته الأجيال اللاحقة أدباً للناشئة.
على أية حال، لم يكن هناك في استخدام حبيبي للتراث الشفوي خروج واضحٌ من أسر الواقعية الأوروبية، ولا استمرار للحكاية الشعبية الفلسطينية التي تتجلّى أنصع تمثلاتها في عمل «قول يا طير..»، هذا الكتاب الفريد لشريف كناعنه وإبراهيم مهوّي. ظلّ أدب إميل حبيبي معلّقاً بين الواقع والفانتازيا، بين الحكاية الشعبية والتحليل السياسي. كان يلهو بالحكايات ويهدم بنيانها، منساقاً وراء شهوة الكلام وغواية التهكّم والتلاعب بالألفاظ ومواجهة الألم بالقهقهات والهزائم المتلاحقة بفيضٍ من النوادر. كانت الثغرة تتّسع أكثر حين يقفز خارج إطار النكتة ليلتفت إلى الفكر ويبتكر الرموز، فتبدو "الإشراقات" ثقيلة الوطأة في ظل الطرافة المهيمنة، إذ حينذاك تتبدّى غالباً اللغةُ الجاهزة للمقال، بكل مزاعمها من تمثيل الواقع والغوص في لجج الحياة اليومية وهموم الناس، كما ينكشف منطق الثنائيات والمتضادات الذي استحكم طويلاً في مقاربات حبيبي للواقع والفن معاً. استغربتُ "النكات الرمزية" حين أعدتُ قراءته مؤخراً، ولم ألمس حسّ الدعابة الذي عُرف به الكاتب. فكرتُ بندرة الضحك، وبأن تقديري لعمله عائد إلى محبة غامضة أكنّها لذكريات بعيدة أكثر من اقتناعي بأهمية منجزه أو أهمّية الصراع في تاريخ الأدب. استرجعته بشيء من الحنين، كمن يفتقد أنس المسامرات مع معلّمين رحلوا، ملامساً شيئاً من طفولتي في أرض طفولته وجدّته التي وصفها بأنها "شهرزاد وقد شاخت بعد ألف ليلة وليلة". سأختم هذا المقال بما قاله واحدٌ من روّاد الرمزية، موريس ماترلينك:
"حالما نصوغ شيئاً بالكلمات، فإننا نبخس قيمته بطريقة غريبة. نعتقد أننا غُصنا إلى أعماق الهاوية، وعندما نرجع إلى السطح لا تعود قطرة الماء على أطراف أناملنا الشاحبة تشبه البحر الذي جاءت منه. نوهم أنفسنا بأننا قد اكتشفنا مغارة كنز مدهش، وعندما نرجع إلى ضياء النهار نجد أننا لم نجلب معنا غير أحجار زائفة وشظايا زجاج؛ ولكن الكنز يبقى متلألئاً في الظلمة، ولا يتغير أبداً".
إميل حبيبي حكواتي كتب متواليات صحفية متقطّعة، تفرّقت أجزاؤها والتأمت في كتب قليلة. حكاياته مقالات توالدتْ من التجارب والمحن في "مدرسة الحياة" حيث تصعلك الكاتب وتمرّد وآمن وارتدّ، وشرع بالكتابة من دون معلّمين ومن دون احتياج إلى سعة الاطلاع. محتويات كتبه مبعثرة، شوّشتها هيجانات التاريخ العربي المعاصر ونوائبه، مثلما شتّتتْ كاتبها وكثيراً ما دفعتْ بسرده إلى "اللغة الشعرية" و"الشطحات"، فسمّى اندفاعاته "انطلاق العقل الباطن" في "تيار اللاوعي"، والأرجح أنه لم يصطد في هذا التيار الأدبيّ إلا دارج المفارقات.
وإذا ما شُبّهت أعماله الأدبية بالمرايا المنصوبة أمام التاريخ والواقع والذات، فلعلها أقرب إلى "مرآة المجانين" لدى غ. ك. تشسترتن، حيث يكتشف الراوي أن كل الوجوه المقلوبة في منامه الطويل ليست إلا وجهه. هكذا، رواة إميل حبيبي وشخصياته ليسوا أحداً سواه. كل الذين أظهرهم بكلماته ظلّوا محكومين بالنقصان، ربما لأن بخار الشعارات والمقولات الكبرى وكثيراً من الضباب اللفظي-الغنائي غطّى سطوح هذه المرايا.
غير مرة، أصرّ إميل حبيبي على "الصدق" بوصفه الطريق الأصعب والمعيار الأوحد في الكتابة، ولعله عثر في الصدق والبساطة على ذريعة وتبرير أسلوبيين أيضاً. ذكر إنه يشبِه الشعراءَ "بتفريجه عن الكرب في عمل أدبي"، وغير مرة أشار إلى «رسالة الغفران» بوصفها نصّاً هزلياً. يذكر المعرّي إن بيت الحطيئة يقع في أقصى الجنة، و"فيه رجلٌ ليس عليه نورُ سكّان الجنة، وعنده شجرةٌ قميئة ثمرُها ليس بزاكٍ". لربما استملح حبيبي كلمة "زاكٍ" هذه لتصاديها مع المحكية الفلسطينية التي طعّم بها أعماله وذاد عن دورها في الأدب ما استطاع، ولربما وجد فيها مسوّغاً جديداً لسخريته التي لم يصوّبها على نفسه إلا لماماً وبشيء من المضض. يستغرب المعرّي وجود هجّاء كالحطيئة في الجنة، لم يسلمْ من لسانه أحد حتى أمّه، فيسأله: ""بمَ وصلتَ إلى الشفاعة؟" فيقول" بالصدق"". الصدق لدى الحطيئة ماثل في بيتين من الشعر هجا فيهما نفسه، بهما نال المغفرة.
عذاب الضاحك في مأتم
وصف إميل حبيبي السخريةَ بأنها سلاحٌ لمقاومة الضعف وتعبير عن المأساة تداعب به الروح الفواجع والنكبات. كتبه زاخرةٌ باللفتات اللمّاحة. نجد لنهجه الساخر هذا ديمومة وظلالاً وأصداء في الأدب الفلسطيني الراهن، لدى محمود شقير في "صورة شاكيرا" مثلاً أو علاء حليحل في "كارلا بروني عشيقتي السرية"، ولعلّ الأصداء نفسها تناهت إلى كتاب ساخرين في سورية والأردن، كمحمد طمّليه. سخرية حبيبي هي فكاهة الصحافة، مسخرة المضحك المبكي، وشخصياته مطايا الولع بالمفارقات. لا نكاد نلمس العفوية التي لطالما نادى بها ونشدها مؤلف النقائض أو ملتقطها، المتمسك بمذهب "الصدق المنفلت" في الكتابة، إذ كيف يمكن لمن ينادي بتوخّي الصدق ألا يقع في فخاخ التلقين والموعظة؟ في جنوحه الدائم إلى تلخيص ما لا يُلخّص، كان يوازن المواضيع الشائكة بمقابلاتها من الطرائف لتستقيم معادلة الأضداد التي تتصارع وتتكامل. كان لا بد من خفّة الدم، لا بد من ضحك أسود لتحلّق على ارتفاع منخفض القضايا الثقيلة المحمّلة بالآلام.
مقامات الشيوعي ّوشيخوخة شهرزاد
استلهم حبيبي «كليلة ودمنة» و«مروج الذهب»، وعلى الأخص «الساق على الساق في ما هو الفارياق» والمقامات. «سرايا بنت الغول» حكاية حب ضائع يسترجعها عاشق هرِم، يتصدرها هذا المأثور الشعبي "سرايا يا بنت الغول، دلّي لي شعرك لأطول". كتب حبيبي عمله هذا في سنيّه الأخيرة، وسماه "خرافية"، وهي في فلسطين الحديث المستملَح المهجّن بالأساطير ويرويه المسنّون عادة. كاتبنا الشيخ استوفى الشروط، غير نادم ندمَ بعض المناضلين الشيوعيين على ما فوّتوه من سِنِيّ شبابهم وتضحيتهم بمواهبهم. عاود من جديد خلط الفصحى بالمحكية، وطعّم النصوص بالحكم والخواطر والعِبر والذكريات الشخصية وأشعار ابن الفارض وأكثر من الاستشهادات.
تبدو طاقة الكلام هائلة لدى حبيبي، وربما كانت أكبر من أن تسعها الكتابة فتفتّتتْ معها الأخيرةُ وتذرذرت في نصوص قصار وأفكار متطايرة، رغم حديثه الدائم عن ضرورة ولادة الكتابة من اختمار التجربة. حماسته، ونارية طباعه الملاحظة في المقابلات، تولّدان انطباعاً بالاستعجال. كان الحكّاء أعظم من الكاتب بما لا يقاس، اعتمد نبرات تتباين وتهذي أحياناً وقد تحوّل عمله الأدبي إلى رواية تعليمية، إذ سرعان ما ينضب خزين الكاتب من التجارب والذكريات فلا تسعفه مخيلته حين تستعصي الكتابة. الهوامش "العجيبة" التي أثقل بها حواشي صفحاته تكشف وجهاً تبسيطياً، فأثناء عبوره من عالم المشافهة إلى عالم التدوين انهمك بالكثير من الأمثلة التوضيحية والإسقاطات السياسية والشروحات وغرائب الحواشي المخيّبة، كأن تجده يشرح "غزل البنات" أو "رحلة ابن جبير" بالتواريخ والأرقام. كانت تلك الحقبة الأدبية، بعد صدور «المتشائل» وما تلاها، ضاجّةً برواج المعادل الرمزي والمعادل الموضوعي في تأويل الأدب، ولم يكن العجائبي إلا ذريعة سياسية غالباً، ولهذا لا يستغرب أن تصادف في أدب حبيبي شخصية متيقّظة اسمها "سرحانة"، ولا تفسير تشتّت البنية الروائية لديه بالشتات الفلسطيني، ولا الربط بين الهوامش والتهميش، ولا كتابة جملة من هذا القبيل: "رحتُ أنبش جبال النسيان محاولاً، قدر طاقتي، الإيغال في أغوار الذاكرة". لا ننسى طموحَ جوناثان سويفت إلى هجاء الإنسان في «رحلات غوليفر»، ثم انتهاءَه بتأليف كتاب اعتبرته الأجيال اللاحقة أدباً للناشئة.
على أية حال، لم يكن هناك في استخدام حبيبي للتراث الشفوي خروج واضحٌ من أسر الواقعية الأوروبية، ولا استمرار للحكاية الشعبية الفلسطينية التي تتجلّى أنصع تمثلاتها في عمل «قول يا طير..»، هذا الكتاب الفريد لشريف كناعنه وإبراهيم مهوّي. ظلّ أدب إميل حبيبي معلّقاً بين الواقع والفانتازيا، بين الحكاية الشعبية والتحليل السياسي. كان يلهو بالحكايات ويهدم بنيانها، منساقاً وراء شهوة الكلام وغواية التهكّم والتلاعب بالألفاظ ومواجهة الألم بالقهقهات والهزائم المتلاحقة بفيضٍ من النوادر. كانت الثغرة تتّسع أكثر حين يقفز خارج إطار النكتة ليلتفت إلى الفكر ويبتكر الرموز، فتبدو "الإشراقات" ثقيلة الوطأة في ظل الطرافة المهيمنة، إذ حينذاك تتبدّى غالباً اللغةُ الجاهزة للمقال، بكل مزاعمها من تمثيل الواقع والغوص في لجج الحياة اليومية وهموم الناس، كما ينكشف منطق الثنائيات والمتضادات الذي استحكم طويلاً في مقاربات حبيبي للواقع والفن معاً. استغربتُ "النكات الرمزية" حين أعدتُ قراءته مؤخراً، ولم ألمس حسّ الدعابة الذي عُرف به الكاتب. فكرتُ بندرة الضحك، وبأن تقديري لعمله عائد إلى محبة غامضة أكنّها لذكريات بعيدة أكثر من اقتناعي بأهمية منجزه أو أهمّية الصراع في تاريخ الأدب. استرجعته بشيء من الحنين، كمن يفتقد أنس المسامرات مع معلّمين رحلوا، ملامساً شيئاً من طفولتي في أرض طفولته وجدّته التي وصفها بأنها "شهرزاد وقد شاخت بعد ألف ليلة وليلة". سأختم هذا المقال بما قاله واحدٌ من روّاد الرمزية، موريس ماترلينك:
"حالما نصوغ شيئاً بالكلمات، فإننا نبخس قيمته بطريقة غريبة. نعتقد أننا غُصنا إلى أعماق الهاوية، وعندما نرجع إلى السطح لا تعود قطرة الماء على أطراف أناملنا الشاحبة تشبه البحر الذي جاءت منه. نوهم أنفسنا بأننا قد اكتشفنا مغارة كنز مدهش، وعندما نرجع إلى ضياء النهار نجد أننا لم نجلب معنا غير أحجار زائفة وشظايا زجاج؛ ولكن الكنز يبقى متلألئاً في الظلمة، ولا يتغير أبداً".