نظيف كقميص يوم الأحد: جان بيير سيميون

2023-07-18 11:57:00

نظيف كقميص يوم الأحد: جان بيير سيميون
Michel Quarez, Saint Denis, World Cup, 1998

يُخيل إليّ أن كلمات الشاعر قد لاقت صدى آخر بالفرنسية والعربية، متواضعاً في مكان يناسب احتجاجها الإنساني، وسط الأصداء التي يضاعف من حدّتها معمارُ الكنائس، ذلك المساء أواخر أيلول 2016، في سان دني التي لا يتوانى الإعلام الطاغي عن وصمها بأنها أفقر بلدات فرنسا، وأكثرها ازدحاماً بالمنفيين والمهاجرين من أربع رياح الأرض. 

كانت أمسية بصحبة الموسيقا والخط العربي، في كاتدرائية سان دني شمال باريس- الحاضرون، الجمهور والممثلاث والخطّاط وعازف العود، متوارون خلف المذبح، حيث مساحة فسيحة للقراءات وفّرتها البلدية التي كان الشيوعيون يديرونها وقتذاك.

 قُرِئتْ قصائد جان بيير سيميون وسط الأضرحة الفاخرة لشارلمان، وفرانسوا الأول، والملك الشمس، وكاترين ميديشي، وآن دو بروتاني... جلس المدعوون في ظلال التاريخ، فوق السراديب الزاخرة بعظام رُوكمت كالذخائر على مرّ القرون، حيث نُضّدت بقايا المحاربين والقديسين وتمازجت. الجلساء استمعوا إلى شعرٍ ضد التاريخ، صامتين في تلك العراقة، الجاثمة على صدور الموتى والأحياء، بين القبور المشيدة بالمرمر والأبنوس، حيث ملوك منحوتون على أغطية نواويسهم، وأسفل قدمي كل ملك يثوي كلبُ صيده. 

كانت منصة القراءة محروسة بتمثال سان دني، سَميّ تلك الكاتدرائية وشفيع باريس، حيث يقف القديس كما في اللقطات التذكارية، ولكن ممسكاً برأسه المقطوع في حجره، ووراءه ضريحان آخران يرقد فيهما رأسان آخران مقطوعان لأسباب أخرى، عائدان إلى ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر. 

يُخيل إليّ أن كلمات الشاعر قد لاقت صدى آخر بالفرنسية والعربية، متواضعاً في مكان يناسب احتجاجها الإنساني، وسط الأصداء التي يضاعف من حدّتها معمارُ الكنائس، ذلك المساء أواخر أيلول 2016، في سان دني التي لا يتوانى الإعلام الطاغي عن وصمها بأنها أفقر بلدات فرنسا، وأكثرها ازدحاماً بالمنفيين والمهاجرين من أربع رياح الأرض. 

أعادتني مقالة للشاعر السوري محمود الحاج عن جان بيير سيميون إلى هذه الترجمات التي كنتُ قد نسيتها، بعدما أنجزتها من أجل تلك القراءة في خريف 2016. لعلّ هذه القصائد قد اكتستْ معاني أخرى بعدما أشعل العنف أرجاء فرنسا بين 27 حزيران و3 تموز 2023. 

 

لن أتكلَّمَ عن الأشجار

 

لن أتكلَّمَ عن الأشجار

ولا عن ضوضاءِ الليل

في راحةِ السماء

ولا عن السواحلِ المزركشة بالضوء

 

ما دام ثمة رجلٌ

يجاهِرُ بألمه 

إنه ليس جائعاً

إلا إلى الخبزِ والماء

 

ما دامتِ امرأةٌ

تنبشُ الأنقاض

بحثاً عن طفلها



 

ما دام هناك نهارٌ يُشرِق

على الجبينِ الأسود

للذي قُتِلَ رمياً بالرصاص

 

لن أتكلَّمَ

عن الأشجار

 

الرأسُ تحت الوسادة

 

غريبٌ هو النوم

عندما صرخاتٌ كثيرة

ترفعُ جداراً

أمام الآفاقِ كلِّها

 

عندما سقوطُ جسدٍ

على الأحجار

يجعلُ الليلَ يرتجف

حتى ذرواتِ غصونه

 

عندما الهواءُ في كلِّ الأرجاء

يردّدُ هذا الصمتَ

الذي ينهالُ مع التراب

على القبورِ الجماعية

 

عندما شهقةُ طفلٍ تحت المِدية

تحدِثُ جلبةَ

نهايةِ العالم

 

حقاً

تحدثُ في مدنِنا

نَوْماتٌ غريبة

في رابعةِ النهار

 

العيونُ المفتوحة

 

لا يتوجّبُ أبداً

إيصادُ القفل ِعلى الليل

 

ولا التخلّي 

نهائياً

عن إيماءاتٍ مخذولة

عن خطواتٍ أحرقَها

الندمُ

ولا إيلاءُ الظهرِ أبداً

لهزيمةِ البشر

 

لا ينبغي لنا أن نغلِقَ ثانية

حجرةَ الموتى

فالذكرى أحياناً

خَفْقةُ جناح

 

الأحرى إبقاءُ

الذاكرةِ مفتوحةً  

بين ريحِ الأمس

وطائرِ الظهيرة



إصراراً على الحياة

 

لن ننتهي

من هذه الرائحةِ وهذا الدم

اللذين يتصاعدانِ في كلِّ الأنحاء

مع الفجر

 

الكراهية التي فتّقتِ الساعات

الأمكنة المبعثرة في السخَط

 

لن ننتهي

مِن أن نكون ما يرتجفُ

ما يتعثّرُ ويرتبك 

كعشبةٍ تحت الريح




 

ثمّة في البؤس

ما يشبهُ الأبدية ولكن

فلنبرمِ الوعدَ بأننا لن نهاوِدَ 

في بناءِ لحظةِ الفرح من جديد

وأن نعيشَ هبوبَها العاصف 

 


توارَثُوا العالم

 

ابتكرِ السماء

استولدِ الحجر

كما فعلَ العربيُّ وهنديُّ الأنكا

 

كما فعلَ الأفريقيُّ

ابتكرِ النارَ والشجرةَ والثمرة

 

في صمتِ الصينيِّ العجوز

اَدرِكِ الغناءَ الأبكمَ للزهرة

 

تعلّمْ من البحر

ما تعلّمَهُ يوليسيس التائه

حين ثنى الموجَ والحبَّ

في قوسِ رغبته

 

امتلئْ بالعالم

وفي كلِّ لحظة

كُن جديراً بالنهارِ الذي استولدك

 

مُعتَقَد

 

أؤمنُ بالذين يمشون

 بخطواتٍ عارية

في وجهِ الليل

 

أؤمن بالذين يحارون

وقدّام حيرتِهم

يمشون

 

أؤمنُ بالجمال، أيْ نعم،

لأنه يأتيني من الآخرين

 

أؤمن بالشمسِ بالسمكة

بالورقةِ التي ترتجف

ثم تموت

لا أزالُ أؤمنُ بها

بعد موتها

 

أؤمنُ بالذي

 ليس له بلادٌ

إلا في غناءِ البشر

 

وأؤمنُ بأنّا نحبُّ الحياة

كــــأننا نكافح

وأذرعُنا لا تفلِتُ ما نصارِعُه 

 

عنصريُّون

 

هذا هو ما يقولون:

شقيقةُ النُّعمان أذكى من الوردة

الرملُ أجملُ من القطّ

وكان الحجرُ دائماً

أسمى من اليقطين

 

يُوبِّخون الأسود

لأنه أشدُّ سواداً من الأبيض

كمَن يوبِّخُ النار

لأنها أحرُّ من الثلج

والعسلَ لأنه أحلى

من الموجة




 

وإذا خافوا من ظلّهم

فلأنهم حدسوا قليلاً

إنّ كراهيةَ الغريب

هي الخوفُ من الذات

 

نحنُ دائماً أصغرُ مما نظنّ

 

مَن بوسعه القولُ إنّ يدَهُ

أكبرُ من الظلِّ الذي تُلقيه؟

مَن بوسعهِ القولُ إنه موجودٌ في كلِّ مكان

حيث تركتْ خطوتهُ بصمة؟

 

مَن سيجرؤ على القول إنه سيّدُ

الهواءِ الذي يتنفَّسُه

الغناءِ الذي يسمعُه

اليدِ التي تمتدُّ إليه؟

 

مَن يستطيعُ القَسَم إنه ليس الآخرَ

الذي مرَّ تحت نافذتِه؟




 

ومَن يقدرُ على الاعتقاد

بأنّ قلبَهُ غنيٌّ بما فيه الكفاية

ليحدّث نفسَه

حديثَ حياةٍ بأكملها؟

 


أخوّة

 

اقتَلِعوا كلَّ الرايات

راياتِ الأممِ كلِّها

اقتلِعوها من ساريةِ الاستعلاء

 

صيّروها قِماطاً

لاستقبالِ المولود

 

صيّروها فستاناً 

للرقص

أو ربما وِشاحاً

على أكتافِ البؤساء

 

ابسطُوها كشرشف

لرُقادِ

العجوز

 

ارفعوها تحت الريح

لتمْخرَ الموجة

 

اقتلِعوا الراياتِ

لتصيرَ الغطاءَ الشاسع

على مائدةِ البشر

 

الرَّصْد

 

مَنِ الآتي

في ضجيجِ مدننا

مَنِ الآتي

ويا لهشاشته

مُنثنياً كالقمح

تحت عاصفةٍ رعدية

وفي كلّ مرة، رغم كل شيء،

يبسطُ راحتيهِ كشقيقٍ لنا

 

مَنِ الآتي

ظلاً بين الجدران

وسط النقماتِ والخرائبِ

وأشغالِ الأسى

مَنِ الآتي

 

اِخرسي يا رعودَ المدن

وصريرَ المشنقة

وصرخاتِ المجاعة

اِخرسي

 

ولننظرْ إلى أملٍ لا وجهَ له

يعبرُ

ظلّاً بين الجدران

 

صِرْ رفضاً

 

قولوا لا

لما يُعرقِل

لما يكسِر

لما يَبْلى

صيروا رفضاً

 

في وجهِ الاستعجال

تحت العضّة

أمام القوّةِ التي تهدر

كونوا العثَرة

 

مَنْ

أطاعَ الليل

اِلتهمَه

 

في الأراضي كلِّها

لتعلوَ الصرخة

مثلُ شجرة

 

الغضبُ الصحيح

 

هذا هو غضبي:

ذو الجبينِ العالي

والفمِ الصافي

كمثلِ كلِّ ما يعضّ

على سعادةِ النهار

 

هذا هو غضبي

خفيفٌ كنَفَس

وقويٌّ كغناءٍ في عُرس

غضبي الذي يفصِم

النارَ عن رمادِها

ويجدّدُ شبابَ الخطوة




 

هكذا هو غضبي

شبيهٌ بخفقةِ جناح

تسرّحُ من أسْرِ الظلال

الشعوبَ المدفونةَ بين الجدران

 


النهارُ ينتظر

 

خرساءُ مغلَقةٌ

القبضةُ المطبقةُ على قلبه

ينامُ النهار

ينتظرُ النهار

ليستيقظ

 

ينتظرُ

 

أنْ يتوقّفَ الإنسانُ أخيراً

عن الكراهيةِ

التي تخيّطُ أجفانَه





 

أن يغسلَ يديه

من الدمِ

الذي يقيِّدُ الأصابع

 

وإلا فلن يأتي

 


اللغزُ الجميل

 

ماذا يلزمُ

لنجعلَ من الصرخةِ غناءً

لنبنيَ جداراً

ثم نفتحُ فيه باباً

يُسفِّهُه

 

لكي نجعلَ من المنفى

وطناً

كما نجعلُ من الحلم

شجرةً كبُرتْ

 

لنحوّلَ الظلَّ

إلى نرجسٍ بريّ والصخرةَ

إلى حجرٍ يُرمَى على المياه

 

ماذا يلزمُ إذن

لنجعلَ من الإنسان

قصيدةً مفتوحةً للرياحِ كلِّها؟

 

عوالم متوارية

 

كلُّ إنسانٍ يحملُ عالماً

لا نعرفُ عنه شيئاً

 

إلا

إذا كان الجوُّ فيهِ لطيفاً فابتسامةٌ على الشفتين

وإنْ كان بارداً فأسنانٌ تصطكّ

 

إذا كان الوقتُ فيه نهاراً فالكلامُ صافٍ

وإنْ كان ليلاً فالفمُ مخيط

 

هذا يكفي

للفهم

إذا كانوا في هذا العالم

يعيشون في سلام أو يخوضون الحرب

 

كافٍ لمعرفةِ

إذا كان السكوتُ واجباً

أم القُبلة

 

الغريب

 

وُلدتُ في باريس

لأبوين فرنسيّين:

سجلّي المدنيُّ نظيفٌ

كقميصِ يومِ الأحد

 

لكنّي غريب

غريبٌ أكثر من الغريب

في بلدي حين يكون

قاسياً وبارداً كالحجر

ومغلقاً كبوّابة

قُبالةَ السماءِ المتحوّلةِ للوجوه

أنا غريبٌ عن الجميلة

التي لا تمنحُ نفسها إلا لمرآتها

غريبٌ عمَّن

يقرعُ ناقوسَ الحرب

بسببِ نسمةِ هواء

 

غريبٌ حقاً

غريبٌ أكثر من الغريبِ نفسه

في بلدٍ يكنزُ

قمحَهُ وَضَوءَه

في قبوِ القلب

 

من أجل الآخر

 

في شوارعِ مدننا

نؤمنُ بالله نمشي

نغيّرُ الدُّولاب

نأكلُ نصرخُ ننتظرُ

نهايةَ رمضان الثلجَ عند طبيبِ الأسنان

نجتازُ الشوارع نحيّي بأحرّ السلام

نموتُ نتصدَّقُ

نزدحِمُ نقطعُ الخلاء

نضيعُ نكسبُ عيشنا

 

مَن معه الحقُّ مَن عليه

مَن يخونُ حِسَّ الشارع؟

 

وفي شوارعِ العالم

مَنِ المخطئ مَنِ المصيب

حين يقومُ على رصيفِه

بفعلِ شيءٍ آخر

مختلفٍ تماماً

عن العابرِ المقابل؟

 


ولادة ثانية

 

في بعضِ الأماسي نأوي إلى السرير

كحجرٍ ضجران

مُطوَّقٍ بالبؤس

راجين أنْ ننسى أنفُسَنا

تحت المياهِ الوئيدةِ للنوم

 

نردُّ مُلاءةً على جبينِنا

لنتوارى عن العالم

 

لا نريدُ

الحلمَ ولا الظلّ

ولا العينَ العنيدةَ للمصباح

 

ولا سيما الشعورَ بالخوف

الذي يزحفُ على بطونِنا

مثل قطّ

 

بل أنْ نستيقظَ في الصباح

بشمسٍ بين الأصابع

 


حجرٌ للبناء

 

أنْ تعرفَ شقَّ طريقٍ

في فوضى الأيام

 

أنْ تمدَّ لنفسِك

اليدَ

بعد السُّقوط

 

أنْ تستطيعَ تسميةَ

كلِّ خوفٍ من مخاوفك

وتشكر المجهول

لأنه يُطلِق سراحَنا

 

بإيماءةٍ واحدة ونظرةٍ واحدة

ستتحقّقُ

من جمالِ الآخر

 

أنْ تُجوِّع كلَّ لحظة

 

هكذا يكونُ البنّاءُ

الذي يبني بالحجر

 


دون حدودٍ راسخة

 

 طُوبى للأنهار

التي ليسَ لها حدود

طُوبى للرياح

التي تقفزُ عن الأسوار:

إنّها من البلادِ التي تتنفّسُ فيها

 

طُوبى لليل

الذي نلقاهُ في كلّ مكان

كصديقٍ منذ الأزل

وطُوبى للسنديان

الذي يتقاسمُ صُدْفتَه

مع الحَورِ ووَرْدِ السياج

 

آهِ اخلقوا لي إنساناً

كنهرٍ

كريحٍ كشجرة

يستمتعُ بحقِّ السماء

 

مُواطِن الحلم

حيث تحطُّ نظرته

 


استطاعاتُ الضعيف

 

أطالبُ بكلِّ استطاعات الضعيف

كان يقول

فنُّ المشي حافياً قدّام الأمراء

والبصقِ على أحذيتهم

فنُّ اقترافِ ملذّاتِ الحلم

والعبورِ خلل ثغراتِ الكلام

فنُّ رمي الكلمات

على الواجهاتِ الزجاجيةِ العمياء

فنُّ أنْ تكبِّلَ الكراهيةَ والنسيان

بقيودِ الرفض

 

أحدّقُ في عيونِ

عملاقِ العاصفةِ الرعدية

وإذا اجتازتني الصاعقةُ

وُلِدتُ من جديد

غناءً على شفتيّ ابني

 

باب في سان دني