الصورة تفاجئنا ببهجة غير متوقعة أيضا. بالرغم من أن مشاهد الفيلم كلها تدور في أماكن تغلب عليها القتامة عبر الرحلة: مستعمرة الجذام، ومستشفى الأمراض النفسية، ومقلب القمامة، والمستوصف الطبي الفقير، وقسم البوليس، والكثير من الطرق الوعرة، إلا أن الرحلة نفسها تبدو كصراع لبهجة البطلين مع تلك القتامة.
منذ اللحظة الأولى لمشاهدة الإعلان التشويقي لفيلم يوم الدين، يُدرك المشاهد أنه أمام فيلم غير تقليدي. فيلم بلا بطولة نسائية أو أبطال من نجوم الشباك، ومنتجة تخوض تجربة الإنتاج للمرة الأولى، ومخرج يخطو إلى عالم الأفلام الرواية الطولية بعمل أول دون أية "بهارات" في خلطته السينمائية: لا قصة حب، لا دين، لا سياسة، لا ثورة، لا أكشن ولا مناظر. إلا أن المخرج أبو بكر شوقي ينجح في أن يقدم خلطة سينمائية بديلة، من خلال قصة إنسانية لأبطال خارج قوالب البطولة، يعتمدون بشكل مطلق على صدق الأداء وعفوية التجربة الإنسانية.
ينسج المخرج/الكاتب غزله السينمائي ببراعة ليربط المشاهد ببطلي الفيلم بشاي/راضي المتعاف من مرض الجذام، وأوباما/أحمد الطفل اليتيم النوبي. مرض الجذام -مثل اليتم والخذلان- يترك في وجه صاحبه وروحه ندوبا لا تُشفى، تعقد علاقته بالعالم من حوله وعلاقته بنفسه.
تنطلق رحلة بشاي من الفقد إلى البحث عن حب غير مشروط في أهل لا يعرفهم. يتذكرهم عبر مشاهد من الأحلام/الكوابيس التي تسترجع لحظة أن تركه أبوه على باب العالم المجهول لمستعمرة الجذام. ملامح رحلة بشاي الإنسانية هي خوف من الوحدة، وحنين للاحتواء، وطريق طويل ومجهول، وحمار مرهق، ورفقة الطفل أوباما التي فُرضت عليه ولم يطلبها. وبالطبع تصاحب بشاي في رحلته تلك كل ندوبه التي لم تُشفَ. ندوب بشاي ليست تلك التي تحملها ملامحه وأطرافه كنتيجة لمرض الجذام فحسب، بل أيضا هي ندوب خذلان أهله الغامض، وعدم شفائه من الفقد والخسارات.
تبدو الرحلة -كما الحياة- شديدة القسوة حافلة بالمتاعب وبمزيد من الفقد والخسارات. لكنها لا تخلو أيضا من البهجة التي يعيد بشاي اكتشافها على الطريق، والتي تأتي دائما من زوايا غير متوقعة خلال كآبة الرحلة. تأتي أحيانا من غرباء يمنحون بعض الحميمية، أو من نجاة أوباما المفاجئة من إصابته، أو من أن يُشفى جهاز التسجيل القديم من عطبه فجأة ليعلو صوت البهجة بإحدى أغاني فرقة الـ "فور ام" في واحد من أعذب مشاهد الفيلم، حين تعلو الابتسامة وجه بشاي فيبدو جميلا، بينما يرقص أوباما بمنتهى النشوة. طوال الرحلة يبدو أوباما الأكثر خفة والأكثر استخفافا بالندوب وبالحياة. لا نعرف إن كان ذلك لأنه الأصغر، أما لأنه لم ير قبسا من الحلم/ الكابوس عن حياته قبل اليتم والملجأ.
الصورة تفاجئنا ببهجة غير متوقعة أيضا. بالرغم من أن مشاهد الفيلم كلها تدور في أماكن تغلب عليها القتامة عبر الرحلة: مستعمرة الجذام، ومستشفى الأمراض النفسية، ومقلب القمامة، والمستوصف الطبي الفقير، وقسم البوليس، والكثير من الطرق الوعرة، إلا أن الرحلة نفسها تبدو كصراع لبهجة البطلين مع تلك القتامة.
من خلال خوفه وفقده وحيرته وأحلامه وكوابيسه يواصل بشاي رحلته التي لا يعرف كيف ومتى ستنتهي، ولكن لا يجد خيار أمامه سوى مواصلة الرحلة. وتأتي لحظة الذروة في الفيلم/الرحلة حين يقترب بشاي جدا من لقاء أهله، ويشعر بالرعب من أن يتكرر الخذلان والنبذ ممن أتاهم طالبا للقبول والحب غير المشروط. في تلك الذروة تبدو أسئلة الفيلم الإنسانية أوضح، ويشعر المشاهد أن تلك هي العقدة الإنسانية الأكبر: عقدة الشخص المتروك على باب لعالم مجهول، الخائف من الوحدة والخـذلان، الذي يدفن وجهه بين كفيه منزويا في ركن بعيد، محتضنا ندوب روحه، مرتعدا من مواجهة مع من يحب ومن احتمالات ألم جديد لا يطيقه.
بالرغم من براعة الصورة والإخراج، يسقط الفيلم في فخ حوار شديد المباشرة في بضع مشاهد، منها مشهد لقاء بشاي بأبيه، الذي كان يمكن أن يكون أكثر قوة بكلام أقل، إلا أن نهاية الفيلم تأتي مرضية تماما. ينفض بشاي عن نفسه الإرهاق والخسارات. يتصالح مع ندوبه ويحتفي برفقة صديقه الصغير، ويتخذ خيارا واعيا عن أي طريق يريد أن يسلك في الحياة.
ليس من الدقة وصف الفيلم بأنه عن مرضى الجذام المتعافين، ففي الحقيقة يلمس الفيلم وتر تعافي الإنسان من ندوبه بشكل أوسع كثيرا عن القصة المباشرة. وقد استطاع صانعو الفيلم أبو بكر شوقي ودينا إمام -مثلهما مثل بشاي وأوباما- أن يواصلا رحلتهما الصعبة في صناعة فيلم غير تقليدي بأقل الإمكانيات، وبلا أي صخب في الأوساط السنيمائية أو أوساط وسائل التواصل الاجتماعي، ليحملا لنا في نجاحهما بهجة غير عادية، ومفاجأة سارة بمولد مخرج سينمائي مختلف وصاحب رؤية متميزة. نجح أبو بكر ودينا في أن يلهموا المشاهدين حقا، في قصتهما مع الفيلم، كما في قصة الفيلم وأبطاله بشاي/ راضي، وأوباما/ أحمد.