رحلة عبور الأمكنة والذوات في «تلك الأمكنة» 

2021-02-19 14:00:00

رحلة عبور الأمكنة والذوات في «تلك الأمكنة» 

القارئ لكتاب " تلك الأمكنة" يجولُ في عوالم كثيرة وثريّة ومتنوعة ودؤوبة، بتنوعِ وثراءِ ودأبِ تجربة شقير، التي هي في سياق تّمثلُها ونموها ومسارها وجه لتاريخ الرواية الفلسطينية الناهضة من النكبة، العابرة لزمن التردي، المتجاوزة لعثرات الشتات والمنفي والسجن والاحتلال بروح شقير المقاومة، هي تجربتنا التي نريد لها أن تحيا وتبدع وتتواتر وتبقى. 

"لعلَّ أنبلَ ثلاثِ ظواهر في حياتي هي: الكتابة والتعلّيم والانتماء إلى فكر ِاليسار." تستحضرُ هذه العبارة الواردة في كتاب «تلك الأمكنة» لـ محمود شقير جلَّ ما شهدتها حياةُ شقير من تجارب، والتي يُقدمها في الكتاب الّذي صدرتْ الطبعةُ الأولى منه عن دار نوفل للنشر، في بيروت، العام 2020. هو كتابُ "سيرة ذاتيّة" يُترجمُ بواسطتِهِ شقير لمراحل مُهمة وجوهريّة في حياته، في حالةٍ من حالاتِ انثيال الذاكرة، التي تختزنُ كمّاً وافراً من التجاربِ والأحداثِ الممتدة، بامتدادِ حياةِ شقير الثريّة والدؤوبة في نطاقاتِ الفعلِ والحركةِ في الجغرافيا وداخل الذات ومع الآخر. 

معتمداً على تقنية الاسترجاع الفني "Flashback" يتنقلُ شقير وينقلنّا مَعهُ في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة، حيثُ تبدأ الرحلة في كتابٍ ينحو تجاه أدب الرحلات من القدس إلى بيروت ثم عمان وبراغ وستافنغر وإسطنبول وبروكسل ولندن وبريطانيا وتونس وغيرها من الأقطار، في رحلاتٍ شبه دائمة، وتجوالات لا تغيبُ عن حياةِ شقير كثيراً، وعنها يفرّدُ كتاباً خاصاً في أدب الرحلات، "مدن فاتنة وهواء طائش" للحديث عن رحلاتِ الكشفِ عن الذاتِ وفي داخلِها وسبرِ أغوارِ العلاقةِ مع المكان، ثم الركوز في أم الأمكنة القدس، حيثُ ولِدَ شقير في منطقة جبلِ المُبكر، لأسرةٍ فلسطينيّة قرويّةٍ تتحدُ مع الأرضِ وما يتصلُ بها من مفرداتِ الحياةِ الفطريّة، التي أفاضت على شقير الطفل الدهشة مبكراً بكلِّ ما تمثله من جمال يصفه قائلا: " أثارتْ الطبيعةُ إعجابي ودهشتي، بمّا فيها من جبالٍ وأوديةٍ وحقول مزروعة قمحاً وشعيراً وذرة، وبساتين فيها أشجار مثمرة؛ مزروعة تيناً وعنباً" 

حينَ تنبحُ الكلابُ الضالةُ في ليالي الشتاء، أو تختبئُ من غزارةِ المطرِ في المُوقد، أو حينَ تجمعُ فضة الأم القرويّة البيض صباحاً من قن الدجاجات، أو حينَ يعودُ الأبُ من عملهِ في شقِ الطرق ورصفها مَحمولاً على ظهرِ الحمار الأبيض الّذي يسيرُ بهِ في الطرقِ الوَعرةِ والمُتعرجة وعن هذا الحمار، يكتبُ شقير روايته المقدمة للفتيان والصادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي" أنا وصديقي والحمار" للحديث بإسهابٍ أكثر عن طفولته في القدس المَعجونة بحياةِ القرية وفقرها وأصوات الانفجارات التي سَمعها للمرّة الأولى حينَ كانَ في الخامسة من العمر والتي لن يتوقف عن سماعها كما يشير إلى ذلك في تلك الأمكنة وفيها يرى حكاياتِ ألف ليلة وليلة من صندوق العجب ويدخلُ السينما لأولِ مرّة ويخطو على عتبات أبجديتهُ الأولى. وبفضلِ هذه الدهشة ربمّا، تفتحتْ مبُكراً قريحةُ شقير الأدبيّة وعن هذه الطبيعة يكتبُ شقير كثيراً وإليها يعودُ دائما كلّها تفرقتْ به الدروب.

شقير معلّماً وتربوياً ومنشغلاً بحقل التعليم
 

متنقلاً بينَ مدرسة قرية خرثيا بني حارث والمدرسة الهاشميّة و مدرسة عقبة جبر وغيرها، وبينَ العملِ في تدريسِ اللغةِ العربيّة والتاريخ والإدارة التعليميّة والمدرسيّة، يدخلُ شقير عتبةً جديدةً من حياتِه، حيثُ ينخرطُ في حقلِ التربيّة والتعليم، ولتبدأ حالةُ الاحتكاك بالطلبةِ الّذين يذكرهم شقير في أكثرِ من موقع في كتاب "تلك الأمكنة" معتزاً بهم وبما أحرزوه من تقدمٍ وأدوار قياديّة في الكثيرِ من المواقع، والّذين أثروا وتأثروا بِهِ وبنشاطِهِ السياسي وأفكارهِ التي كان يقدمها؛ لتدعيمِ الحق في الأرض والهوية والوجود والدفاع عنها، متأثراً كما يشيرُ في الكتابِ بمدرسةِ خليل السكاكيني التربويّة " المدرسة الدستوريّة" الحداثيّة والتي لا تضعُ قيوداً على شكلِ العلاقةِ بينَ الأستاذ والتلاميذ، إنما تجعلهم في مسافةٍ جامعةٍ تجمعُ وتشركُ الطرفين في حدوثِ تعلّمٍ مُشترك، ومدرسة السكاكيني التربويّة نحتْ مَنحاً حداثيّاً متطوراً بالنظرِ إلى السياق التاريخي الّذي نشطتْ فيهِ المدرسة في القدسِ خلالَ فترةِ فلسطين الانتدابيّة، التي كانت تهيمنُ عليها أنماطُ التعليمِ التقليديّة والقائمة على سلطةِ المعرفة وأحاديتها، يشيرُ إلى ذلكَ ما أوردهُ دكتور سليم تماري في كتابه "الجبل ضد البحر"  دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينيّة والصادر عن مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية حين يقول: "وكانَ السكاكيني نفسه من عشاقِ الموسيقي، وكان له هوى خاصة بالعُودِ والكَمان، وقد شاهدَ بعضُ طلابِ مدرسة الدستوريّة واصف (جوهريّة) يؤدي في الأعراسِ المحليّة وسخروا منه لكونِهِ مغني شوارع وأجيراً، ودافع السكاكيني عنه وجمع الطلاب لاستماع موسيقى واصف" يشيرُ هذا إلى مستوى متقدم من الحداثة اللبراليّة التي كانَ يقدُمها السكاكيني بدأبٍ لطلاب الدستوريّة والتي تأثرَ بها شقير بصورةٍ جيدة كما تأثر بشخصِ السكاكيني بالعموم، يشيرُ إلى ذلكَ بوضوحٍ في كتابِهِ " تلك الأمكنة" حين يقول: "ظل السكاكيني، رغم بعض مواقفه اللاعقلانيّة المتشائمة، مثقفاً وطنياً تربويّاً تربطه علاقة وثيقة بأبرز مثقفي عصره من الفلسطينيين والعرب".

اعتناقُ الماركسيّة، الانتماء إلى الحزبِ الشيوعي الأردني، ثم حزب الشعب.

ينتمي محمود شقير إلى الحزبِ الشيوعي، في بدايةٍ يَشوبُها ترددٌ يبدو طبيعياً بالنظرِ إلى ما يحيطُ بالأحزابِ الشيوعيّة في المنطقةِ العربيّة من صورٍ نمطيّة، تُقدمها في أغلبِ الأحيان على اعتبار أنها أحزابٌ مناهضةٌ للدين، وتُستخدم مقولة ماركس الشهيرة " الدين أفيون الشعوب" كليشيه سهل الرواج، حيثُ يضعُ التفسيرُ الأوليّ المتداولُ للعبارةِ الدينَ جملةً واحدةً على النقيض من الشيوعية، وشقير وغيره في العالم وليس فقط في المنطقة العربية، قد تمثلُ لهم العبارة عداءً جلياً للدين، يشيرُ إلى ذلك شقير في كتابه فيقول: "لم أنتسب للحزب إلا بعد سنتين من الحوار مع الناشط الحزبي المثقف محمد البطراوي، كنتُ قبل ذلك معادياً للأفكار التي يُمثِلُها هذا الحزب وخاصة ما يتعلّقُ منها بالدين" .

لكن شقير الّذي رأى وتفاعل مع نضالاتِ الشيوعيين وتضحياتِهم، سُرعان ما انخرطَ وتدّرجَ سريعاً في المراتبِ الحزبيّة وأصبحَ بعدَ وقتٍ ليسَ طويلاً عضواً في اللجنةِ المركزيّة للحزب وممثلاً لهُ في العديدِ من المؤتمراتِ الحزبيّة التي يَعقدُها الحزبُ حولَ العالم، ومن خلال الحزب وبنشاط شقير فيه، سُجِنَ شقير وأُبعِدَ إلى بيروت وامتزجت لديّهِ تنظيرات الأيدلوجية بالسلوكِ المُقاوم. ومما لا شكَ فيه أن تجربةَ الانخراطِ في الحزبِ أتاحتْ لشقير آفاقاً رحبةً من الاحتكاكِ والتجريب، ولقد أثرت بصورةٍ مباشرةٍ على النِتاج الإبداعي المُبكر له، والّذي كُتِبتَ بوضوحٍ تحتَ تأثير الانتماءِ اللصيق بالشيوعيّة، وعلى الرغمِ من بعضِ الارتباكات التي مرّت بها علاقةُ شقير بالشيوعيّة وحزبها والتي كتبَ عنها في سلسلةٍ من المقالاتِ التي اشتملت على مجموعة من المراجعات الفكريّة ونُشِرتْ في صحيفة الرأي، ظل شقير وفياً لهذه التجربة ولهذا الانتماء، وظل مرتبطاً برفاقِ دربِ المَسيرة النضاليّة الذين يذكرُهم شقير في "تلك الأمكنة" بكثيرٍ من الأسى والحزن كلّما رحلَ واحدة منهم وتلى نعيه في جنازته. 

الحضور الثقافي والعلاقة مع درويش حياً وميتاً

يحضرُ محمود درويش كثيراً في كتاب "تلك الأمكنة"، حيث لا يخلو فصلٌ من فصولِ الكتابِ من الحديثِ عن موقفٍ مُشترك، أو حديثٍ عبر الهاتف أو دردشةٍ عامة أو خاصة تجمعُ بينَ شقير ودويش، الكاتبان اللذان يفرّقُ يومان ميلادِ أحدهما عن الآخر، واللذان واكبا معاً الحكاية الفلسطينيّة منذُ الطفولة التي تزامن النكبة الفلسطينيّة، ثم الشباب المُنخرط في العملِ السياسي والنضالي وصولاً إلى تجاربِ الإبعادِ والنفي والسجن والكتابة المُلتزمة والمناضلة، إلى تركِ البصماتِ واحدةً تلو الأخرى في الحالة الأدبية والإبداعية الفلسطينيّة الحديثة والمعاصرة. 

يتحدثُ شقير عن هذه العلاقة المُبكرة والطويلة بلغةٍ يعتريها الكثيرُ من الوّدِ والاحترامِ والأسى على قامةٍ شعريّةٍ فلسطينيّةٍ ترحلُ مبكراً، يتحدثُ شقير فيقول في كتابه: "كان يُمكن لمحمود درويش أن يعيش عشر سنوات أخرى، وكان بوسعه أن يقدم مزيداً من الشعر المدهش، الذي تأكّدت مزايا في قصائده التي كتبها في السنوات الأخيرة" 

وتأخذُ العلاقةُ بينَ شقير ودويش مداها في تجربةِ مجلةِ الكرمل التي ترأسَ درويشُ تحريرها والتي في أن تنتهي تجربتها عند العدد التسعون، إلا أنها توقفت عام 2006 بعدَ صدورِ العدد 88 منها، ولقد صدرَ بعدَ وفاةِ درويش عدداً مزدوجاً، تكرّسَ بصورةٍ واضحة للاحتفاء بتجربة درويش بعدَ رحيله، ولقد كتبَ شقير عن هذا العدد" كانت لي في العدد انطباعات شخصية عن الشاعر وعن بعض أيامه، وكان العدد كلّهُ مكرساً لدرويش ولشِعره وفيه دراساتٍ ومقالاتٍ ونصوصٍ جيدة" 

ولقد شاركَ شقير بعدَ وفاةِ درويش في العديدِ من الفعالياتِ التي أُقيمت؛ لتخلّيدِ ذكرى درويش والاحتفال به، فلقد كانَ عضواً مُساهماً في ترتيباتِ أربعين درويش، بالإضافةِ إلى اللجنةِ التأسيسيّة لمتحفه وجائزته التي حازَ عليها لاحقاً في عيد ميلاد درويش السبعين، والقارئ لكتاب "تلك الأمكنة" يشاهدُ حضوراً عالياً في النشاطِ الثقافي وانشغالاً مُستمراً بقضايا الأدب والثقافة ونتاجاً إبداعياً متنوعاً وغزيراً، لقد كتبَ شقير القصة القصيرة، الجنس الأدبي الّذي تمحوّرَ مشروع شقير الثقافي حولهُ بصورةٍ مركزيّة، إلى الحدِ الّذي جعلَ النقّادُ يعتبرونَهُ من جيلِ مؤسسين فن القصة القصيرة في الحالةِ الأدبيّة الفلسطينيّة، وإلى جانبِها كتبَ شقير المقال السياسي والثقافي والنص المَسرحي وعَمِلَ مُحرراً للعديد من الصُحف والمَجلاتِ الثقافيّة، إلا أنه ظلَ بعيداً عن الشِعر، فلم يكتبْ الشعرَ إلا لِمامَاً وفي حالاتٍ كتابيّة مَحدودة، كما جاءتْ علاقتَهُ مع الترجمة متأخرة بعضَ الشيء إلا أنه إنتاجه حَظِي بها حيثُ تُرجِمتْ له مَجموعة من الأعمال القصصيّة التي منها "ابنة خالتي كوندوليزا" إلى الفرنسية و"شاربا مروخاي وقطط زوجته" إلى الإنجليزية، كما كَتبَ شقير السيناريو وذلكَ من خلالِ تَجربتهُ مع ليان بدر في فيلم" القدس في يوم آخر" .

همزة الوصل بين الأجيال والعلاقة مع الأحفاد 

متنقلاً بينَ تواريخ ميلاد الأحفاد ومُنطلقاً منها، تحدثَ شقير عن الأحفاد الّذين يزيدُ عددهم عن عشرة، في ذاكرة تحتفظُ بلغةِ الأرقام وتُقدرها، علاقةٌ يخصصُ لها شقير وقتاً ليس بالقليل ويَغوصُ في تفاصيلها البسيطة حيناً والمُهمة أحياناً، ونافذاً عبرهم إلى الأجيالِ الجديدة ومستذكراً طفولةً غابرة، ذات ملامح مُغايرة عاشَها شقير مُنغمساً في تفاصيلها الاستثنائية. 

علاقاتٌ عائليّة دافئة وحميميّة في عائلةٍ فلسطينيّةٍ مُمتدةٍ وذات طابع كلاسيكي مطابق لشكلِ العائلة الفلسطينيّة، المُتفرقة بينَ الأمكنة، المُتواصلة رغمَ مُحدداتٍ التواصل، المتأصلة في عمقِ وجودِها الضاربِ في تاريخِ المدينة المُقدسة والقابضة على جمرةِ موروثِها الثقافي والاجتماعي الفلسطيني الأصيل.

بينَ محمود الحفيد الأول الّذي يَقضى شقير معه وقتاً طويلاً؛ لتعليم القراءة والكتابة وبينَ شروق المُشاكِسة والساخِرة ومحمد وملاك وميس وبلقيس ورنين وشريف وفادي وأسعد وغيرهم من الأحفاد، يعيشُ شقير أوقاتاً طويلةً في هذه المرحلة من عمرهُ، يستمعُ إلى قِصصِهم وتجاربهم بانتباهٍ وإصغاء، ويُشارِكهم الحديث واللعب أيضاً، يشاركُ رنين في سباقِ السباحة وبلقيس الرغبة في أن تصبح كاتبة تحصلُ على جوائز أدبيّة ومحمد الاعتناء بالحيوانات الأليفة التي يُخصصُ لها بيوتاً في حديقةِ المَنزل الصغيرة. 

القارئ لكتاب " تلك الأمكنة" يجولُ في عوالم كثيرة وثريّة ومتنوعة ودؤوبة، بتنوعِ وثراءِ ودأبِ تجربة شقير، التي هي في سياق تّمثلُها ونموها ومسارها وجه لتاريخ الرواية الفلسطينية الناهضة من النكبة، العابرة لزمن التردي، المتجاوزة لعثرات الشتات والمنفي والسجن والاحتلال بروح شقير المقاومة، هي تجربتنا التي نريد لها أن تحيا وتبدع وتتواتر وتبقى.