اختفت بيوت القرية بمعظمها. وما بقي هو رفاتُ الآباء والأجداد في مقبرتها الشهيرة باسم "مقبرة القسّام" تصرخ بوجه المحتل وتستصرخ النجدة لإنقاذها من براثن مشروع الاقتلاع الجاري تنفيذه يوميًّا منذ العام 1948.
نُصبت مؤخرًا، في تشرين الثاني 2021 خيمة اعتصام في أرض مقبرة قرية بلد الشيخ القريبة من حيفا، وذلك لمواجهة آليات وجرّافات شركات الاستثمار التي ألمحت إلى أنّها ستبدأ ببناء وإقامة مشروع مُجَمّع تجاري وسكني على جزء من أرض المقبرة المُصادرة. وتأتي الخيمة لتلفت أنظار العالم إلى اعتداء حكومة إسرائيل وشركات خاصة تحتمي بعباءتها على المقدسات الاسلامية والمسيحية، بما فيها المقابر والمعابد والمؤسسات. وأيضًا الاعتصام هو أكثر من مجرد تعبير عن موقف، هو عبارة عن خطوة نضالية في وجه الظلم الغاشم الذي لحق ولا يزال بأراضي وممتلكات، بل قرى ومدن، ومقدسات الفلسطينيين وتقليص وجودهم وحضورهم الفعلي في مرافق وحيزات حياتهم، وكأنّهم ليسوا شيئًا له أثر في وطنهم.
إنّ الإصرار على التصدّي هو تحدّ وجودي لا غبار عليه. وهو وسيلة مشروعة لمواجهة كل محاولة لنهب حقوق الفلسطينيين في وطنهم. فكما للأحياء حقوق، كذا للأموات حقوق في دفن محترم ومكرم، وتخليد لذكراهم. لكن، لماذا الاعتصام في هذه القرية، وتحديدًا في مقبرتها؟ ولماذا الانزعاج الاسرائيلي منه؟ إنّه قبر الشهيد الشيخ عز الدين القسّام الذي قضّ مضاجع الإنكليز في الثلاثينيات وباستشهاده انطلقت أكبر ثورة شعبية عرفها التاريخ المعاصر في العالم، ألا وهي الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936. ويقضُّ مضاجع الاسرائيليين في غزة. فالقسّام الذي تصدّى لوحدات وعناصر من الجيش البريطاني وفرق ارهابية يهودية ومتعاونين في أحراش يعبد قرب جنين في 1935، لقي مصرعه هناك ودفن في مقبرة بلد الشيخ بعيدًا عن مقبرة مسجد الاستقلال في حيفا الذي كان يخدمه منذ وطئت قدماه المدينة في مطلع العشرينيات من القرن الماضي.
حديثنا في هذه الزاوية عن "قرية بلد الشيخ"، عن قرية كانت مُزَوِّدًا بشري لمصانع حيفا. عن قرية وادعة حالمة قطع المشروع الصهيوني الطريق على مستقبلها الواعد.
موقع القرية وأراضيها
تقع قرية "بلد الشيخ" في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة حيفا. وتبعد عنها قرابة خمسة كيلومترات. عِلمًا أنّها أصبحت في أيّامنا (2022) مُلْتَصِقَةً بها جرّاء التمدُّد العمراني في المنطقة الفاصلة بين حيفا والقرية. ترتفع القرية 100 متر عن سطح البحر الأبيض المتوسط. وتُعتبر ثاني قرى قضاء حيفا من حيث مساحتها المشغولة سكانيًّا، أيّ 241 دونمًا. في حين أنّ مجمل مساحة القرية بلغت 9849 دونمًا. تسرّبَ منها 285 دونمًا لليهود خلال فترة الانتداب البريطاني. وتكثُرُ في القرية وأراضيها آبار المياه وذلك على طول امتداد حافّة جبل الكرمل. كذلك تمرُّ في أراضيها عدّة أودية صغيرة تنتهي في منطقة مرج بني عامر. وتزود أراضي المرج بما تحتاج إليهِ من المياه لإرواء محاصيلها.
ومن المزروعات التي انتشرت زراعتها في أراضي وحقول القرية: الزيتون، الحبوب كالقمح والشعير، والتين، والعنب، والرمان، واللوز. وكانت محاصيل القرية ومنتجاتها كالألبان والأجبان تكفي لسدّ حاجة الأهالي (وهذا يعني أنّ القرية اعتمدت اقتصاد الاكتفاء الذاتي). وما كان يفيض يتمّ بيعه في القرى والبلدات المجاورة، وفي حيفا على وجه الخصوص. وكان في القرية معصرة زيتون يدوية. ووفقًا للاحصائيات من العام 1944/1945 كان ما مجموعه 4410 دونمًا مُخصصًا للحبوب على أنواعها، و 368 دونمًا مرويًا لزراعة الخضروات وبساتين الفاكهة.
وتقع القرية على الطريق البرّي الرابط بين حيفا والناصرة وغيرها. كذلك كان يمرُّ بمحاذاتها الخط الحديدي الحجازي بين حيفا وسمخ ومن ثم باتجاه درعا في جنوبي سوريا. لهذا، ساهمت هذه الطرقات في إحداث نقلةٍ نوعية في توجُّهات سكان القرية نحو سوق العمل. وبالتالي إلى تحسُّن أوضاعهم الاقتصادية. ويظهر هذا من التطوّر العمراني لبيوتهم وحواصلهم ومحلاتهم التجارية التي انتشر معظمها على طول الطريق الذي شقَّ القرية من حيفا باتجاه طريق الناصرة- طبريا. وتقع إلى شرق القرية مستعمرة الياجور ومصنع "نيشر" للأسمنت. وفي أراضي القرية مدرج (مطار) للطائرات البريطانية. أمّا القرى الفلسطينية القريبة منها فهي: الهربج، وسعسع، وكفرتا، وشفاعمرو وحواسة. وإلى الغرب منها تقع مدينة "حيفا".
اسم القرية
نسبة إلى جد عائلة السهلي "الشيخ سهل". وظلّت القرية تحمل هذا الاسم "بلد الشيخ السهلي" إلى أنْ اقتصرت التسمية على "بلد الشيخ". وكلمة بلد تعني "قرية". ومن المحتمل أن تكون بعض جذور العائلة تعود إلى مصر. في حين أنّ مصادر أخرى ترجع التسمية إلى الشيخ الصوفي عبدالله السهلي الذي منحه السلطان العثماني سليم الأول في بدايات القرن السادس عشر التزام القرية والمنطقة المحيطة بها، أي جباية الضرائب للدولة. وإليه تُنسب القرية. وقبره في مقام أُقيم خصيصًا له بعد وفاته.
السكان ومصادر معيشتهم
تُبيّن الارقام التالية مراحل التطور السكاني من ناحية عددية:
اعتمادًا على تقديرات رحالة اوربيين من القرن التاسع عشر فإنّ نائب القنصل البريطاني في حيفا ادوارد روجرز قدّر عدد السكان بـ 350. وفي عام 1875 بلغ عدد سكانها حوالي 500 نسمة (هذا وفقًا لتقديرات فيكتور غيرين).
ووفقًا لاحصاء حكومة الانتداب الأوّل الذي أجرته في 1922 فقد بلغ 407 نسمة. أمّا بموجب احصاء ذات الحكومة للعام 1931 فقد ارتفع إلى 747 نسمة، بينهم 383 ذكر و 364 اناث، موزعين على 144 منزلاً. أمّا احصاء العام 1945 فبيّن أنّ عدد السكان في قرية بلد الشيخ قد ارتفع أكثر من خمسة أضعاف مقارنة بإحصاء العام 1931، أيّ أنّ عددهم في هذا العام بلغ 4120 نسمة. في حين أنّه في العام 1948 بلغ عدد السكان في القرية 4779 نسمة. موزعين على 921 منزلاً. والسبب في هذا الارتفاع السكاني قدوم عدد كبير من العمال للعمل في مَرَافِق حيفا الاقتصادية على مختلف أنواعها، وفي مُقدّمتها مصفاة البترول. هؤلاء اتخذوا من بلدِ الشيخ مُستقرًا لحياتهم. وكثيرون منهم بقوا فيها حتى احتلالها وسقوطها بيد العصابات العسكرية الإرهابية الصهيونية. وبعض منهم لاقى حتفه جرّاء المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها هذه العصابات ضد سكان القرية، وسنأتي على شرحها لاحقًا. ولا بُدّ لنا من الاشارة هنا، إلى أنّ عددًا من العشائر العربية البدوية قد سكن في محيط القرية، ومنها عرب السويطات، والسمنية والقليطات والطوقية.
اعتمد سكان القرية على الزراعة كمصدر رزق أساسي في حياتهم ومعيشتهم. وكذلك اعتمد عددٌ منهم على رعاية المواشي وتربية الدواجن والنحل. ولمّا أُقيمت المنطقة الصناعية قريبا من أراضي القرية، ترك كثيرون من سكانها العمل الزراعي والتحقوا بالعمل الصناعي في عدد من الصناعات هناك، وفي مُقدّمتها العمل في مصفاة البترول عن طريق شركة البترول العراقية المعتمدة رسميًا ورئيسيًا لتكرير البترول في مصفاة حيفا. بل أكثر من ذلك، ارتفع عدد سكان القرية اضعاف مضاعفة عن سكانها الاصليين، في أعقاب اتخاذ عدد كبير من عمال المصفاة بيوتًا لهم في القرية.
التعليم في القرية
كان التعليم في القرية في فترة الدولة العثمانية مؤسسًا على طريقة "الكُتّاب". وكان الشيخ يُدرّس الطلبة المُتحلقين من حوله وقد افترشوا أرض الجامع، أو تحت شجرة بالقرب منه. وأمّا المواضيع التي كان يعلمها للطلاب فهي حفظ القرآن الكريم، وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وقراءة نصوص بالعربية وأسس الحساب. وما أنْ يتمكّن التلميذ من معرفة هذه المواضيع، أو جزء منها، حتى يترك الكُتّاب ويلتحق بالعمل مع والده في الزراعة ورعاية المواشي. أمّا من كان له حظ في متابعة تعليمه، وهم قلّة، فكان ينتقل إلى عكا للتعلّم في المدرسة الأحمدية الملاصقة لجامع الجزار.
وتأسّست في القرية مدرسة ابتدائية في العهد العثماني، وتحديدًا في 1887م. وأعلى صف فيها هو الرابع الابتدائي. وارتفع التعليم حتى الصف السابع. وبقيت المدرسة فاعلة في فترة الانتداب البريطاني ووقعت تحت ادارة المعارف الانتدابية وسار التعليم فيها وفقًا للمنهاج الذي وضعته هذه الجهة. وبقيت المدرسة حتى سقوط القرية في العام 1948. أمّا من رغب في تعليم أعلى فكان يتجه إلى مدينة حيفا للالتحاق بإحدى مدارسها الثانوية. ولا بد من الاشارة إلى أنّ التعليم في المدرسة الحكومية كان للبنين والبنات، إنّما في صفوف منفصلة. بمعنى أنّه كان للقرية مدرسة واحدة بصفوف منفصلة للبنين والبنات. وعدد من الطلاب تابع تعليمه العالي في لبنان ومصر. وتأسّست في القرية مدارس خاصة ومنها: مدرسة عبدالله السهلي، ومدرسة سهل الدين، ومدرسة السباعي.
ووجَّه الاهالي رسائل كثيرة إلى مفتش المعارف الانتدابية طالبين منه فتح مدرسة جديدة يساهمون هم في تكاليف جزئ من اقامتها بعد أنْ زاد عدد طلاب القرية جرّاء الهجرة إليها للسكن فيها قريبًا من مصادر العمل في مصفاة النفط وتوابعها من المصانع والمصالح التجارية. إلاّ أنّ المعارف الانتدابية ضربت بعرض الحائط كل هذه التوجهات غير آبهة برغبات الأهالي في اكساب أبنائهم العلوم والفنون.
المعالم الدينية
كان في البلدة جامع صغير قريبًا من المقبرة الكبرى. وفيها ثلاثة مقابر. الكبيرة وتمتد على مساحة 43 دونمًا تقريبًا وفيها قبر القسّام وتتعرّض حاليًّا (2022) لمحاولات جرفها وطمسها وإقامة مُجمّعين تجاري وسكني على أرضها. ومقبرة ملاصقة لمقام الشيخ عبدالله السهلي مؤسس القرية. ومقبرة صغيرة اندثرت عبر الزمن.
مجزرة قرية بلد الشيخ وطرد سكانها
وقعت هذه المجزرة في ليلة رأس السنة الميلادية؛ أيّ مساء 31/12/1947 وصباح 1/1/ 1948:
كانت الأجواء في مدينة حيفا قبل تنفيذ المجزرة مشحونة بين اليهود والعرب، فبعد مقتل خمسة عمال فلسطينيين في ميناء حيفا برصاص اليهود، قام العمال العرب بالهجوم على العمال اليهود المتواجدين في المصفاة وقتلوا 41 يهوديًا. بعد هذه الحادثة قرّرت القيادة الصهيونية اختيار قرية بلد الشيخ لتكون هدفًا لها تُحرج الإنكليز وتُرعِب الفلسطينيين.
صدرت الأوامر لقائد محلي هو حاييم أفينوعام ومعه أيضًا ضابط آخر باسم حنان زلينجر بتطويق القرية من ثلاثة جهات. وكان الهدف هو قتل عدد من أبناء القرية وتخريب الأملاك وتدمير المنازل. ومعظم سكانها من العمال في الأساس. وتحرّكت قوات مشتركة من البلماح ولواء كرملي من قرية الياجور المحتلة مساء يوم الأربعاء 31/12/1947 وكان قوامها 170 صهيونياً. ووقع الهجوم في الساعة الواحدة والنصف فجراً واستمر حتى الرابعة والنصف من صباح الخميس 1/1/1948 واستمر قرابة ثلاث ساعات، وقد بدأ الهجوم بقصف مدفعي متواصل دمر خلاله الأعداء البيوت النائية من القرية. بعد ذلك تسلّـلت مجموعات من الوحدات المهاجمة إلى داخل القرية وأخذت تعمل داخل المنازل قتلاً وذبحاً وتخريباً كما يروي أبناء القرية.
قاوم من كان يحمل سلاحاً من أبناء القرية، ولكن السلاح لم يكن كافياً لمواجهة الهجوم، ولم يكن في القرية إلاّ بعض الحراسات المحلية البسيطة والمتواجدة في الشوارع، مِمّا سهّل على القوات المهاجمة الدخول إلى القرية والناس نائمين فأطلقوا عليهم نيران رشاشاتهم الكثيفة. ورغم قلّة العتاد لدى أهل القرية، استطاعوا أن يوقفوا الهجوم ويوقعوا خسائر في صفوف المهاجمين، وقد اعترف المهاجمون بسقوط ثلاثة من قوادهم. أمّا شهداء القرية فقد بلغوا ثلاثين شهيداً وستين جريحاً معظمهم من النساء والأطفال والعجائز.
احتلال القرية وطرد سكانها
بعد هذه المجزرة، أُخليت القرية جزئياً في 7 كانون الثاني 1948، ولم تحتلها القوات الصهيونية إلاّ في نهاية نيسان 1948. وكانت خطة "دالت" تقضي بأنْ يحتل لواء كرملي بلد الشيخ، في عملية احتلال حيفا ذاتها. وبسقوط حيفا في 22 نيسان، أُجلي عدد من نساء القرية وأطفالها إلى أماكن آمنة، تحسُّباً لهجوم قد يُشن. عند فجر 24 نيسان، حاصرت وحدات من الهاغاناه القرية وطلبت من السكان تسليم أسلحتهم. فقد جاء في الرواية حول سقوط القرية أنّ السكان سلّموا "22 بندقية قديمة" وطلبوا هدنة، غير أنّ الهاغاناه رفضت ذلك الطلب وهددت بالهجوم إذا لم يُسلّم باقي السلاح. وعند الساعة الخامسة صباحاً، فتحت الهاغاناه النار من مدافع الهاون والمدافع الرشاشة. وجاء في تقرير لوحدة بريطانية وصلت إلى المكان في الساعة السادسة صباحاً، أنّه لم يصدر عن القرية "أي رد تقريباً" على إطلاق النار. ثم رتّب البريطانيون هدنة تقضي بإخلاء القرية من سكانها، وفي جملتهم النساء والأطفال، وذلك تحت حماية بريطانية. ويبدو أنّ بعض السكان اتّجه صوب عكا، ثم فرّ منها بعد أيام قليلة، عندما انتاب الذعر المدينة تحسباً لهجوم جديد تقوم الهاغاناه به. ويبدو أنّ القوات البريطانية كانت لها مساهمة في عمليات تسهيل نقل من تبقى من اهالي بلد الشيخ بواسطة الشاحنات وعدد من الحافلات إلى جنين وإلى سوريا. وعمليًّا تمّ تنفيذ عملية تطهير عرقي مخطط لها مسبقًا من قبل قيادات الهاغاناه وفي مُقدّمتهم واضعي أُسس هذا التطهير وهم بن غوريون ويوسف فايتس ويسرائيل غاليلي ويغآل ألون وغيرهم. ولم يبقَ من أهالي هذه القرية إلاّ عدد قليل من عائلاتها في الناصرة وطمرة. ووفقًا لإحصائيات الأونروا الواردة في سجلاتها من العام 2000 فإنّ 1441 عائلة من قرية بلد الشيخ مقيمة في سوريا، ويصل عدد أفرادها إلى نحو 7205 نسمة، بواقع خمسة أفراد بالمتوسط للعائلة الواحدة.
اختفت بيوت القرية بمعظمها. وما بقي هو رفاتُ الآباء والأجداد في مقبرتها الشهيرة باسم "مقبرة القسّام" تصرخ بوجه المحتل وتستصرخ النجدة لإنقاذها من براثن مشروع الاقتلاع الجاري تنفيذه يوميًّا منذ العام 1948.