"أكوام المعدن": عن الخيال والفراغ واحتمالات المستقبل

2023-08-06 00:00:00

لا شيء مُقلق حول حياة سليم، يأخذنا من نقاش فني الى آخر، حول الفن وارتباطه بالتاريخ، وحول الشعور الذي يُشكله الفنان مع انتاجاته الفنية، ما بين صناعة الفن كطريقة تعبير وجودية لأحدهم، وبين صناعته كمنتج يمكن استهلاكه وتحليله وتحليل أبعاده.

" لا بُد من خيال واسع، في عالمٍ ضيق"
حسين البرغوثي


أطلق الكاتب الفلسطيني عبد الرحمن شبانة، في فبراير/ شباط الماضي، روايته "أكوام المعدن" التي يمكن تصنيفها كرواية خيال علمي، إذ تدور أحداث الرواية في عام 2072، في محاولة من الكاتب أنّ يتخيل شكل العالم بعد كل هذه السنوات، من خلال كتابة نص يبدو كأنه تمرينٌ للخيال، ومحاولةُ تنبوءٍ بالصراعات التي ستسيطر على العالم حتى ذلك الحين. تنقسم الرواية إلى فصلين، واحد يحمل عنوان"البعد الأول"، فيما يحمل الثاني عنوان "البعد الثاني". ومع القراءة الأولى للعمل، يكاد القارئ يظن أنه يُبحر في روايتين منفصلتين في كتاب واحد، حتى يدرك في مرحلة ما أن الرابط الذي يصل شخصيات البُعد الأول بالثاني بدأت تتضح، ومن خلال هذا الربط، يفهم القارئ كيف تتأثر الشخصيات ببعضها البعض، وأين تتقاطع، إذ يخبرنا شبانة أنه يحاول اكتشاف احتمالات المستقبل بالاستعانة بهذه الشخصيات، على الرغم من اختلاف "الأبعاد" التي تعيش بها.

 

النضال ضد الفراغ

تظهر لنا ميرنا، الفتاة الثائرة التي تُلح على طرح الأسئلة، والتي تؤرق هدوء العالم وخطط النظام، تدفعنا ميرنا إلى السؤال حول جدوى النضال في عالم يضج بالتكنولوجيا؟ وتساعدنا في إعادة الاعتبار لإجاباتنا عن أبسط الأسئلة، على غرار ماهية قيمة العمل الحقيقية للإنسان؟

تبدأ ميرنا يومها مُقاطعةً هدوء العالم بمظاهرة أمام مكتب العمل، حيث تتجمع هي ومجموعة من رفاقها ورفيقاتها هناك، من خلال حوارات ميرنا مع رفاقها، يأخذنا شبانة في جولة ننتقل فيها بين الماضي والمستقبل، فحتى بعد خمسين عاماً من الآن، تحاول الرواية أن تقول أن عملية مسائلة الأدوات لن تتوقف، وسيظل النقاش مستمراً على ما يبدو حول جدوى التظاهر من عدمه.

تُقدم الرواية تصوراً مختلفاً عن أسباب النضال ضد التسريح، في عالم يعج بالذكاء الاصطناعي، أي أن الرواية تتجاوز النقاش الذي يدور اليوم حول أسباب قلق البشرية من الذكاء الاصطناعي وما يترتب عليه، فالقلق اليوم من تطوره مرتبط بالأساس من خوفنا فقدان فرص العمل أمام الآلة ، وبالتالي فإن المسألة  تدور حول الخوف من  تفاقم أزمة انعدام العدالة الاجتماعية في العالم.

من هنا، يمكننا القول أن التطور التكنولوجي لن يكون خارج معادلات السيطرة والقوة، والمشكلة اذاً لا تنطلق من خوف البشرية من تطور هذا الذكاء، إنما القلق نابع بالأساس من مساءلة البنى التي تُفاقم من انعدام العدالة والفرص أمام البشرية، وفي استشراس الرأسمالية وتأبيد سيطرة طبقة صغيرة.

إذاً، ما التصور الجديد الذي تَطرحه الرواية، يتخيل شبانة عالماً فيه شكل من أشكال العدالة الاجتماعية، فهناك مُرتب عالمي يكفي للسكن وللطعام وللصحة، وبالتالي هناك ما يوفر الحد الأدنى لكي يعيش الإنسان، وأحياناً بما يكفي ليحاول  أن يكتشف مواهبه، أو أن يُسافر، اذاً لماذا تتظاهر ميرنا برفقة مجموعتها؟ ما هي الفلسفة التي ينطلق منها هذا النضال؟ إنه الفراغ.

إن المُحرك الأساسي الذي يدفع ميرنا ورفاقها للنضال والتمرد هو خوفهم من الفراغ، وكيف يمكن للفراغ أن يقتل الإنسان، إن هذا الانطلاق يتجاوز الفهم الدراج نحو العمل وأهميته بارتباطه بالنظام الرأسمالي، من خلال توفير راتب أو دخل يستطيع الإنسان من خلاله أن يعيش، ويعيدنا إلى مفهوم العمل باعتباره ممارسة إنسانية يتطور الإنسان من خلالها ويحارب بها الفراغ، ويُعطي المعنى للوقت والزمان.

وعليه تكون الفلسفة وراء عملية الإنتاج في هذه الحالة مرتبطة بحاجة الإنسان إلى التفاعل مع العالم من حوله، فعملية رفض استبدال الإنسان بالآلة ليست مرتبطة وفقط بفقدان فرص العمل كمصادر للدخل، إنما بفقدان قدرتنا على "إعمال" العالم من حولنا، وبالتالي انتزاع فرصة أن يكون الإنسان هو المُحرك الأساسي والعامل الحاسم في عملية تغيير وتحويل العالم، فعملية استبدال الإنسان بالآلة هي عملية استبدال للفاعل والموضوع، فالفعل في هذا العالم سيكون وحصراً يتحرك بفعل اللوغرايثمات والتقنيات المُعدة وسيكون الانسان موضوع فعل هذه التقنيات.

عن إمكانيات الخيال العلمي في واقع مُستعمر: كيف تُحررنا الكتابة؟

يخبرنا شبانة أنه وبينما كان مشغولاً في عملية الكتابة وبناء روايته، كان عليه أن يُذكر نفسه طوال الوقت بضرورة تحرير النص أو العمل الأدبي منه، وحتى يُحرر النص من نفسه كان عليه أن يتذكر أن قوة العمل تَكمن في أن يكون العمل مستقلاً بذاته، أي أن تكون عملية الكتابة مُنسابة، وهذا يكون عبر التحرر من موقعته ككاتب فلسطيني ذكر، ومن الحدود والمحدودية التي تعصف به، وشبه شبانة هذه الطريقة من الكتابة باعتبارها هروباً نحو المستقبل، حتى يستطيع الإنسان أن يتخيل إمكانيات غير تلك التي يطرحها واقعنا المحدود واليومي.

يمكننا إعازة السبب وراء نُدرة الإنتاج الأدبي للخيال العلمي في فلسطين الى اعتباره ترف، وذلك لأنه لا يُعالج مسائل يومية وأكثر "جدية"، لكن إذا ما كان الهدف من وراء الأدب القُدرة على تخيل العالم  ومحاكاته، ومعالجة قضايا الناس اليومية وهمومها، فهل يكون للخيال العلمي القُدرة ذاتها في محاولة خلق تصورات مُختلفة لعالم آخر وبمنطق فلسفي آخر؟

أثناء قراءتي للرواية وجدت نفسي افتش عن أي دليل لإيجاد فلسطين في النص، وظللت أتساءل عن غياب الاستعمار أو ما يدُل عليه، انتهت قرائتي دون نتائج مرجوة، وشعرت للحظات بالخيبة وفهمت حينها أنني لا استطيع ان افكر في فلسطين دون الاستعمار، حيث تحول الاستعمار لمتلازمة ترافق كل تصوراتنا وخيالاتنا  عن المستقبل، وأدركت لحظتها حجم الهيمنة على المُخيلة الفلسطينية، فمحاولاتنا المستمرة لتخيل التحرير تشبه سيناريوهات نهاية العالم، حيث يكون من الصعب تخيل أي عالم فيما بعد التحرير، ولعل هذا التصور مرتبط أيضاً بمحاججة دينية، فغالباً ما يتم الربط بين تحرير فلسطين ونبوءة يوم القيامة. وعليه يمكننا القول ان عملية الإنتاج الأدبي للخيال العلمي قد تكون طريقة في تحرير تصوراتنا، وتحرير مخيلتنا من هيمنة بُنى القمع، فالكتابة كمحاولة هروب للمستقبل يمكن لها أن تُحطم مجموعة من الحواجز والقيود التي تقف عائقاً أمام فهم وجودي مُختلف للعالم.

يُساعدنا شبانة ويُكمل موضحاً ما الذي يعنيه تحرير النص من ذاته، فيتذكر نصيحة من الروائي الفلسطيني أكرم مسلم أن أكثر ما يُضعف النص والرواية العربية هي ذكورية الكاتب أو الكاتبة، وهذا عبر محاولة الكاتب أن يسيطر على أقدار شخصياته، وعليه حاول شبانة طوال الوقت أن يكتب دون عينه الرقيبة، يساعدنا هذا في فهم الكتابة بعين ناقدة، فالكتابة ليست أداة تحرر فقط، وإنما تستطيع أن تكون في جوهرها أداة للسيطرة، وليس المقصود بالسيطرة هو القارئ، إنما الشخصيات، وعليه يقوم بعض الكتاب والكاتبات في الكثير من الأحيان في قتل الشخصية عبر الحد من تطورها كما تتطلب منها رحلتها الشخصية، هنا، يطغى الكاتب على النص، بدلاً من أن يحرر النص شخصياته والكاتب.

يؤكد لنا شبانة أن هذا لا يعني غياب البُعد الشخصي للكاتب من النص، ولا يعني أن النص يُكتب بطريقة مُجردة أو حيادية، فلا بُد أن يكون الكاتب حاضراً في عملية الكتابة والبناء، إنما تكمن المسألة في عملية التذكير المُستمرة بضرورة الانسحاب. يذكرنا هذا قليلاً بما حاولت هيلين سيكسوس قوله، إن عملية الكتابة ليست عملية حيادية، وأن اللغة التي نستخدمها هي امتداد لبُنى القمع وقواه، فاللغة مسيطر عليها ذكورياً من حيث المبنى والمحتوى، وأن انطلاق النساء للكتابة من شأنه أن يحرر اللغة من ذكوريتها، كما من شأنه أن يفتح الطريق أمام اللغة كممارسة تحرر.

يتقاطع فهم سيكسوس لعملية تحرير الكتابة مع ما حاول شبانة تقديمه في روايته، سواء من حيث انسياب شخصياته وانسياب الخيال أمام مستقبل يعج بالأتمتة، أو من حيث إعطاء المجال أمام اللغة المحكية أي العامية، وأن تأخذ موقعها في النص عبر الاعتراف بها وتوثيقها بالكتابة الروائية.

يحاول شبانة عبر شخصياته تخيل المستقبل، ويقرر بينما يفكر بالمستقبل باللغة التي نستطيع بها أن نؤرخ خيالنا عن ما هو  قادم، فيقرر اختيار اللغة العامية لتكون هي التي تتحاور بها شخصياته، بينما يستهل الكتابة بالفصحى عندما يكتب بصوت الراوي.

حاول شبانة أثناء الكتابة أن يتخيل طبيعة اللغة المحكية والمستخدمة بعد خمسين عام، فيضيف قائلاً: "ذا أحنا رايحين باتجاه عالم من الأتمتة، والتكنولوجيا راح تكون مسيطرة على حياتنا، هاد بيعني أنه في كتير كلمات مش راح اتضلها مستخدمة، راح تختفي مع اختفاء الحاجة إليها" لكن كيف ستكون عملية الكتابة ممارسة نسوية في حالة أكوام المعدن، إنها تماماً تكمن عندما حاول شبانة أن يجعل شخصياته تعيش سيروراتها دون توقع مُفرط لما يجب على النهاية أن تُقدم، أي لم تكن أكوام المعدن رواية تقصد معالجة قضية ما، ولم تُعط في نهايتها إجابات واضحة للقارئ، إنما حاولت الرواية أن تفتح المجال أمام خلق إمكانية لقدرتنا على تخيل عالم ليس قريباً بما يكفي لتوقعه، وليس بعيداً بما يكفي لاستحالة توقعه.

يخبرنا شبانة أن هذا التحدي بدا واضحاً له عندما بدأ بكتابة الشخصية الرئيسية كأنثى، والتفكير بصوت امرأة، وأن يفكر في طبيعة الخيارات المحدودة أمام امرأة في بعده الأول، وكتب شخصيته الأساسية كذكر في البُعد الثاني، ويطرح شبانة سؤاله علينا: ما الذي يعنيه أن ترتكز الرواية في مبناها على شخصية أنثى وذكر، ما الذي يجمعهما وأين يتقاطعان؟ 

هذا السؤال يدفعنا للخوض عميقاً في تجربة كل من ميرنا وسليم، فعندما ننهي البُعد الأول نَشعرُ أننا أمام نصٍ مكتمل، وإذا ما قرأنا البعد الثاني لوحده نشعر أننا أمام نصٍ مكتمل آخر. إن هذه  التجربة الجميلة التي يعيشها القارئ بينما يقرأ أكوام المعدن تكمن في قدرتها على جعلك في حالة ترقب مستمرة لأقدار كُل من سليم وميرنا، وفي قدرتك على اصطياد اللحظة التي تُدرك فيها علاقة سليم، الذي يعيش في عالم يشبه عالمنا، بخيارات ميرنا، التي تعيش في عالمٍ آتٍ من المستقبل.

عن اللاشيء الذي نُحت 

يمكننا القول أن البُعد الثاني تدور أحداثه خارج الوقت، إذ تقرأه محاولاً فهم طبيعة العالم الذي يعيش به سليم، الذي يعمل كفنان نحت، لكنك لا تستطيع استدراك الزمان أو المكان، يمكنك أن تتخيل حياة سليم كما لو أنها أحداث حصلت قبل 30 عاماً، أو اليوم، أو ربما في المستقبل، لأننا نغوص مع سليم ومنحوتاته في رحلته دون معالم واضحة للعالم من حوله، وعليه يمكننا القول أن البُعدان شكلا النقيض الذي يُكمل بعضه البعض، ففي القصة الأولى لا يمكننا تخيل ميرنا دون العالم من حولها ، وفي حالة سليم نستطيع تخيله دون حاجة لفهم العالم الذي يعيش به، ميرنا تصحبنا بأسئلة كُبرى، سليم يصحبنا بأسئلة صغيرة وحياة بسيطة، نتتبع ميرنا لأننا قلقين تجاه مستقبلنا، بينما نتتبع سليم لأننا قلقون حيال منحوتته "ايكو" ، وحيال مستقبله مع ميادة، التي قابلها صُدفةً على شاطئ مدينة يحاول أن يعرفها.

لا شيء مُقلق حول حياة سليم، يأخذنا من نقاش فني الى آخر، حول الفن وارتباطه بالتاريخ، وحول الشعور الذي يُشكله الفنان مع انتاجاته الفنية، ما بين صناعة الفن كطريقة تعبير وجودية لأحدهم، وبين صناعته كمنتج يمكن استهلاكه وتحليله وتحليل أبعاده.

ظل سليم يجوب الساحة الرئيسية محاولاً تخيل الفراغ الذي يتسع لمنحوتته، لكنه ظل متأكداً أن لا فراغ يتسع لها، فتقول له ميادة مستهزئة: " شغلك تعمل تمثال في ساحة انت شايفها كاملة بدونه. لازم تشتغل منيح عتمثال شفاف اذاً."، لعل هذا النقاش الذي دار بين ميادة وسليم يخبرنا الكثير عن الفن كصناعة في عالمنا المُعاصر، فالإنتاج حسب الطلب، الأمر الذي يعني أن الفن إذا ما كان في جوهره عملية خلق وإعادة انتاج للعالم من حولنا بطرق أكثر جمالية وابداعية، فقد أصبح الخلق عملية تخضع لمعادلات السوق.

تُسائل رواية شبانة، من خلال نهجها هذا، قدرتنا على التخيل، وتطرح أسئلةً شائكة عن علاقة الحاضر بالمستقبل، وعن تلك القدرة البشرية في رسم حدود العالم القادم دون التقيد بحاضر كاتب النص أو موقعيته، وتفتح آدواتًا منهجية جديدة، قد تكون بمثابة إعلاناً واضحاً لـ"موت المؤلف" مقابل إحياء مخيلتنا والنص.