بوابة
لن نكتب عن نملة تتسكع في ال “سان جيرمان”
ولا فراشة تتغج على خرطوم فيل
ولا عن “نص ينكسر في العقل الاحول”
نكتب بحبر الشمس عن حيفا
نغني بصوت رعاة المسيح ل “وادي فوكين” و “بتير” وكل القرى
ونهتف قسم البراءة في النقب وغزة كما في النص الاول:
… من الماء إلى الماء هذا النشيد
ما تهدف إليه هذه الحروف هو تدوير زوايا الكاميرا كي نرى أشياء أخرى في غزة المحاصرة. تريد أن تقول إن دفق الحياة أقوى من كل الحصارات. وأن جمالها أجمل من بشاعة السياسة التي لوثت هواءها، وأبقى من كل من لا يفك أسرارها. من يصالح غزة يتحول إلى جزء من رمالها، من يخاصمها ولا يهتم بها ترسله إلى متحف قصر الباشا. ما تريد هذه الحروف رفع زاوية النظر والإطلالة على غزة من فوق كي نرى المشهد جميلا بكامله، بعيدا عن التفاصيل الصغيرة والعابرة والممضة. المشهد العريض هو الذي يبقى، وتمر التفاصيل. في روايته المبدعة “فريدام” (Freedom) ينحاز الروائي الأمريكي الأكثر مبيعا جوناثان فرانزن إلى الزاوية العريضة في تأمل الأشياء، مخالفاً هوسا روائياً سيطر على فن الرواية في العقود الأخيرة الغلبة فيه للتفاصيل الصغيرة. كل من النظرتين، العريضة والتفصيلية، لا تغني عن الأخرى، بل تتكاملان. من ينهكه النظر في الشجرة وأغصانها يغيب عنه إتساع الغابة وتعقيدها. ومن لا يرى إلا الغابة وإمتداد حدودها لا يفقه أهمية الشجرة وأخواتها في تشكيل الغابة نفسها.
جغرافية العشق والوتر
“ميسي” يلعب في غزة الجميلة
(١) … ولد في السادسة يركض كالرمح حافي القدمين. من الامام يحمل ال “تي شيرت” إشارة اليونيسيف، وعلى ظهره إسم اللاعب الأرجنتيني الساحر “ميسي” ورقمه في الفريق الكتالوني. رجونا الولد أن نأخذ معه صوره، فلم يتردد. منح الكاميرا إبتسامة ثرية بإتساع البسيطة. تساءل زملاءُ أجانب “من اين يأتي بكل هذا الفرح؟”. كان يدوس الحصار بقدميه العاريتين. من بحثوا عن الحصار، وجدوا إرادة ولد يتفجر حيوية أكبر من الكون. “من أي يأتي بكل هذا الفرح؟” الجواب يأتي من صوب البحر الراسي في نهاية الزقاق، على بعد رمية حارس مرمى: من يملك البحر يملك أولادا يفرحون ويدوسون الحصار بأقدامهم العارية. لم يقرأ الولد، ربما، تميمة محمود درويش “هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي”، لكن كأن الكلمات تلك نبتت في الأرض، قبل أن تنبت بين أصابع الشاعر. كان ذلك في مخيم الشاطىء …
(٢) …المدينة ذات البحر لا يحاصرها اليتم. البحر يمنحها أفقا تحسدها عليه المدن المحاصرة باليابسة. يصل شطها الموج الهادىء بدلال غيداء تطلع من الغيب، فتفتح لها الاكوان كل البوابات. يتكّسر الموج الصاخب على شطها، رماح أعداء صدها هواء الرمل. مدن البحر لا تحاصر. في إستدارة بحر المدينة وغموضه تكمن أسرار كثيرة. وفي عيون صياديها صلابة ورقة وغيب يخبئ الكثير ولا يكشف سوى القليل. عكس ذلك هي مدن اليابسة، تختلف، وفيها الشيء وضده. الجبلية منها تحضنها التلال، لكن تحاصرها وتكاد تخنقها. السهلة منها مفتوحة على الأفق، وعلى الغزاة ايضاً. هل يكتمل جمال مدينة ما من دون بحر؟
(٣) من المعبر إلى المعبر وعلى إمتداد الأربعين كيلو مترا على ماء المتوسط اللازوردي يتكىء الرمل على أصوات من مروا هنا منذ فجر التاريخ. عبروا جميعا وبقي الرمل متوسدا ذاته بخيلاء. في هذه الزاوية البديعة من الأرض تلتقي آسيا وأفريقيا، العتبة الأرضية الوحيدة بينهما، يمر منها كل القادمين من مصر إلى بلاد الشام، أو بالعكس. الشارع الأول في رفح والذي يطأه القادمون من مصر يُسمى شارع آسيا، لأنه أول بقعة من القارة يدخل إليها المسافرون من البلاد السمراء. يترك القادمون تواقيعهم ويمروا. لملم “متحف قصر الباشا” في قلب غزة القديمة تلك التواقيع وبقايا ما تركه الموقعون … هنا تنام جغرافيا سابع أقدم مدينة في العالم. …. من هناك، من حد رفح مع المتوسط ومصر، سيرا إلى الشمال نحو المنطقة الوسطى، يغسل البحر أخطاء التاريخ. يحضن البحر صيادين تحاصرهم إسرائيل وتضييق عليهم رقعة العيش، لكنهم أخبرُ بالبحر من عدوهم. يعرفونه موجة موجة. يعودون بالسمك الطازج ليقدموه مشويا إلى ضيوفهم محفوفاً بأغنيات البحر ودبكات الموج.
عرّافُ الجليل يعشِّبُ الجرمقْ
(٥) يشير إلينا: هذان هما “ثديا فلسطين” جبل الطويل (أو الجليل الأعلى) وجبل عداثر، تسمية قديمة من عهود حضارات مرت على هذه الجبال وشواطئها. كان بحارة سفن الرومان خلال قرون ماضية وعند توجههم إلى ساحل عكا يرون وهم في عرض البحر البعيد أول ما يرون هذين الجبلين منتصبين في أفق الترحاب، مشدودين إلى السماء، عذراوين يدوخان البحارة شوقاً فيصوبون مقدمة سفنهم لتأوي في غموض اللازورد الرائق بين الجبلين حيث بوصلة الأمان. يواصلون إبحارهم بإطمئان إلى دقة المسير، مقدمة السفن تناغش البحر نحو نهاية راسية في المرفأ النشط. كانت هذه البلاد، يضيف العرّاف، تحتضن القادمين من البحر إلى السهل بلا حدود، كريمة وغنية، ولم يغرس أحد في بحرها أو قريبا من شطها حراباً تصدُّ القادمين. تمازحنا جميعاً لنأخذ صورة تذكار نتوسط فيها ثديي فلسطين خلفنا: وقفنا للصورة، … كليكْ، فبانت وراء الصورة ألوف السفن تصعد كلا الجبلين، صفوفاً لا نهاية لآخرها، ولا تاريخ لأولها.
عندما يلمع فلاش الكاميرا تظهر العذراء في ساحة المهد، وترش على الناس أيقوناتها. فلاش الكاميرا يرتد في عيون الرشاشات الخرساء، فيتدلى رصاصها من فوهاتها كصمغ مشلول ينصب على أقدام حامليها
(٧) نتعجب من هذا العرّاف الذي يعرف دلال كل شجيرة هنا ومتى وأين يناغي الريحُ أفنانها. لمّا يمد يده لمصافحة غصن ما يدور براحة يده ببطء حول الغصن ويحتضنه رويدا رويدا، كأنما لا يريد إجفاله بإمساك مفاجىء. هذا شجر الزعرور يُعمل منه حلوى قمر الدين، وهذه الشجرة التي جذعها أحمر تُسمى شجرة قاتل أبيه، فعند جذعها، كما تقول الأسطورة الفلسطينية، أمسك الولد أباه الذي خطب حبيبته فسال من رأس الوالد دم أحمر خضب جذع الشجرة وظل من يومها ملونا بالدم ومنعوتاً بالاسطورة.
(٨) … توقفنا على جبل عال بعد أن سرنا شرقا كثيرا، فأشار بيده وقال هناك كانت بحيرة الحولة التي جففوها. لكن تعالوا لأريكم بقايا هذا الجامع الحزين. هبطنا منحدراً صخرياً ووصلنا إلى قاعٍ رحبٍ يؤوي جامعاً متهدماً يحيط به بقايا خان وإصطبلات. هذا مقام النبي يوشع. ريح تصفر من فضاءات الجدران المتهالكة، محرابٌ ترِبٌ محفور في الصخر، على يمينه العلوي رسم لفظ الجلالة، وعلى الأيسر نداء الولاء العلوي “لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار”. سألت العرّاف عن النقش الفريد في هذا الشمال الفلسطيني، فقال كانت على هذه الحدود قرية شيعية واحدة أندثرت مع ما أندثر في حرب النكبة، لكن بقيت عيون الأمام علي محمرة بالدمع فوق المحراب.
بنات بتير … وباذنجانها!
(٩) مرحباً، أنا منى من “بتير” شقيقة قريتك “وادي فوكين”، وكلتا القريتين إندياح لجدائل بيت لحم إلى الجنوب الغربي. أهلا بك. أنت تعرفني وأنا صغيرة في الأبتدائي عندما كنا جيرانا في المفرق، في الأردن. ثم أنتقلنا إلى الزرقاء ومن ثم إلى عمان كما فعلتم. ثم جئنا إلى هنا. أهلا وسهلا بك (لكن ذاكرتي ما زالت نائمة!). أنا بنت أبو محمد وأم محمد حلاوة. آآآآآآآه، هتفت مندهشاً، الله ما أصغر الدنيا. كيف حالك وكيف حال أهلك؟ ردت: كيف حالك وكيف حال أهلك أنت أيضاً. كيف عرفتيني؟ قالت، أنت في بريطانيا، وأقرأ ما تكتب وكنت أراك على الشاشة. أمي تزغرد فرحا بك كلما رأتك، وتترحم على والدتك ميسر. وتقول هذا “الوادي” هو أبني أيضاً. أنا صرت أم يزن، وأبنائي وبناتي بين الجامعة والعمل. قلت لها وأنا صرت أبو ليث وأبني وبنتي بين المدرسة والمدرسة. زميلتنا شيرين أبو عاقلة، وجه فلسطين التلفزيوني الطيب، والتي ترافقتُ وإياها في ندوة على هامش المعرض، تضحك من أعماقها وهي تشهد علينا تنافسنا القروي.
بانكسي … يركل الجدار البشع
(١٢) الفتاة الصغيرة بالشعر المربوط خلف رأسها المتوج بالشبر الأحمر تجبر الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح على الوقوف ووجه إلى الجدار، فيما يداها تومئان بحركات تفتيش في ملابسه وجسده. براءتها تشل وحشيته، وتقلب الصورة. الشبر الأحمر يبطل مفعول الرشاش السريع الطلقات المتكىء على الجدار. الحمامة البيضاء التي تحمل في منقارها غصن زيتون وتطير فوق الجدار في مدينة نبي السلام في بيت لحم تلبس سترة واقية من الرصاص. لكن على سترة الرصاص نرى دائرة الهدف تخرج منها أربعة خطوط مستقيمة في الأتجاهات الأربع، نراها كأنما ننظر من منظار قناص يريد قتل الحمامة. فأر مرسوم على جدار متعامد مع جدار الفصل يقف مختبئا على خلفيتيه ويحمل مقلاعا ويتربص بالجدار كله. مركبة تجر دبابة معطوبة إلى لا عنوان.
(١٣) فوق اللوحات المرسومة على الجدار وفي الأبراج المجاورة التي هي جزء من الجدار ايضا هناك رشاشات إسرائيلية خرساء فقدت مفعولها أمام جبروت الريشة. ماذا تفعل الرصاصة باللون الأرجواني، وكيف تقتله؟ هل تخترقه، هل بإمكانها إطاحته الأرض؟ التلاحمه يتأملون الجداريات ويأخذون الصور بجانبها. فتاة تلتقط صورة لصديقتها وهي تركل رسم الجندي الذي يسأل الحمار هويته. يرى الناس أنفسهم في الأشكال المرسومة على الجدار، ثم يلتقطون صوراً لأنفسهم بجانب انفسهم. عندما يلمع فلاش الكاميرا تظهر العذراء في ساحة المهد، وترش على الناس أيقوناتها. فلاش الكاميرا يرتد في عيون الرشاشات الخرساء، فيتدلى رصاصها من فوهاتها كصمغ مشلول ينصب على أقدام حامليها. يتجمدون أمام قداسة الريشة والفنان والنبية. تخلق الألوان حياة وفرحا وبهجة على هذا الجانب من الجدار. فوق الجدار وفي قمة الأبراج يصير التوتر حبالاً مشدودة، تهب ريح عصبية وتلف تلك الحبال حول أجساد حاملي الرشاشات … وأعناقهم. لكن لا تشنقهم. كانت مريم تشير بيدها للريح أن لا تفعل. لا يهدر دم مقابل دم في ساحة المهد. لا العين بالعين ولا السن بالسن. هنا الريشة في وجه الرشاش والشبر الأحمر مقابل الرصاص. عندما يسيل الدم التلحمي هنا يصير نعنعاً وأنبياء. أما القاتلون فليس ثمة ظفر يحتفلون به، يصيرون أشباحا سوداء تخنقهم رائحة رصاصهم.
من الخليل إلى بئر السبع: “صعود المئذنة … ونزولها”!
(١٤) … يسوقنا إلى حيث قريته “حورة” تربط شمال النقب بعنب الخليل. على يمينه يصّاعد غيم وغموض تنداح خلفهما أمواج أسدود وعسقلان، وعلى يساره يبيضُّ قلب السماء كأن ضفة البحر الميت أشعت كل ملحها دفعة واحدة. ما يميز جنوب الضفة الغربية عن وسطها وشمالها قلة المستوطنات وصغرها. هؤلاء “الخلايلة” أنتشروا في كل الجهات وزرعوا محاريثهم حيث يصل المطر وتنام الشمس فلا يبقى للغرباء مساحة للسرقة. في الطريق الطويل تتراءى أشباح الذين قضوا على هذه الرقعة من الأرض في سنوات القرن العشرين الطويلة الدامية. وراء التلال تلك تقع “السموع” فيتردد صدى رصاص بعيد حيث يُشير محمد. أصوات المعركة، أو المجزرة، هي ذاتها التي ما تزال ترن أيضا في أذن أحمد حرب وتتسرب إلى نصه الروائي “الصعود إلى المئذنة”. محمد السيد من حورة بئر السبع وأحمد حرب من ظاهرية الخليل. ما يفصل بينهما في جغرافيا الأرض رمية محراث تنشط على لحن زغرودة عرس. ما صار يفصل بينهما اليوم حدٌ قبيح منع إلتقاء المحاريث وأسكت زغاريد الأعراس.
(١٥) … كان إن ألم بنا ملل ما في “حورة” أو “اللقية” أو أي من قرى النقب أو بئر السبع، يتابع محمد السيد، نتوجه إلى غزة لنسهر على شاطئها حتى ما بعد منتصف الليل. مسافة النصف ساعة كانت أقصر من دندنة طويلة لأغنية لفيروز تغزل بها ما أمتد من مدى “سبعاوي” مع أفق “غزاوي” أقرب من قريب. من هنا من بئر السبع تحية إليك أيها السبعاوي الأول حيث كنت: الأستاذ محمد عبد القادر أبو محفوظ، أستاذ اللغة العربية للصف الثاني الأبتدائي في مدينة المفرق في الأردن في أوائل السبعينيات. هو الذي رسم لنا على اللوح أين تقع بئر السبع في جنوب فلسطين، وهو الذي كان صاخباً ومديداً كصحراء تلك المدينة. اليوم تلميذك أيها الأستاذ المبجل يقبل الأرض التي أنجبتك.